المهرج الفرنسي كوليش دعا الفرنسيين إلى ترك الضحك معه وعليه، والاهتمام بالفقراء والجياع، فذاك أفضل. وأنشأ سلسلة مطاعم للفقراء أكسبته شعبية أكثر من السياسة. فالذي يأكل من المزابل طوال عام وهو لا يشعر بالإهانة فمن الطبيعي ألا يشعر بالإهانة وهو يعطي الخبز في شهر واحد كل عام، ويأكل من لحمه طوال 11 شهرا؟ ! من الطبيعي ألا يشعر بالإهانة لأن قفة رمضان أيضا أصبحت بالنسبة إليه قمامة تحتوي على فضلات البترول وقشور السهول الفسيحة وزوائد تستغني عنها القصابات! أما الذي يسرق كي يشتري خبزا فلماذا لا يواصل السرقة حتى في شهر رمضان عوض أن يصطف في طابور طويل من أجل قفة رمضان، فلو توجه لمواصلة السرقة فهو معذور ينطبق عليه قول ماكسيم غوركي، الذي قال لأحد الأطفال لما استاء من مشاهدته جائعا يسرق: “أنت أيضا لو جعت يوما لسرقت”. فسارق الخبز ينطبق عليه أيضا ما حدث في سنوات القحط، حيث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع حكم السارق في وقت الجفاف والقحط، لأنه بفطنته علم بأن البطن الجائع لن يقتنع لا بالمواعظ ولا بالخطابات. قفة رمضان إذن التي تمنح لمن يسرق طوال العام من أجل الحصول على الخبز ليست سوى إجازة قصيرة للتوقف عن السرقة، أفلا نستطيع أن نقدم لهم إجازة على مدى الحياة؟ أفلا نمتلك من الإمكانات ما يجعلنا نتذمر عندما نجد إنسانا يسرق من أجل شراء الخبز في بلد لازالت باخرة قمحه دينا على فرنسا؟ لم نتمكن من أن نقدم مساعدات للفقراء المعدمين بالطريقة التي قدمها بها كوليش. لم نستطع أن نفعل ذلك من دون إثارة الضجة واللجوء إلى الطبل والمزمار: والحاضر منكم يعلم الغائب، أننا سنوزع كذا وكذا من قفة رمضان، ونفتح كذا وكذا من مطاعم الرحمة !. لم نستطع أن نحافظ ونرسخ هذا العمل الواجب كما يليق بالجزائري، لأن من يدخلون مطاعم الرحمة ويحتاجون إلى قفة رمضان هم أحفاد أو أبناء الجيل الذي جابه يوما فرنسا لتعيش الأجيال بعدها بكرامة. لم نستطع أن نحفظ كرامة الجائع مثلما فعل كوليش، ببساطة لأن كوليش كان قد ذاق مرارة إهانة الجائع وابتزازه حتى في خبزه، ففكر في أن ينشئ مطاعم الرحمة. فعل ذلك لرد الاعتبار لجياع فرنسا وبذلك كان يشعر برد الاعتبار لطفولته التي أذلت خاصة بعد وفاة والده، حيث رأى الامتهان الذي كانت تتعرض له والدته التي اشتغلت خادمة عند بائع الأزهار. أما الذين يوزعون قفة رمضان ويفتحون مطاعم الرحمة في هذا الوطن يخيل إلينا...ǃ؟ شتان بين الأعمال الإنسانية التي قام بها كوليش وبين الأعمال الإنسانية المناسباتية والمهينة للمواطن التي تقام في بلدنا. لقد نجح كوليش في جعل عمله إنسانيا محضا، بينما نحن طغت السياسة على الأعمال الإنسانية، فأصبح المواطن وسيلة لا غاية. حدث كل هذا لأن كوليش استطاع أن يحفظ ماء وجه جياع فرنسا ولأنه عرف معنى الجوع الذي اضطره للعمل كحمال للسلع ثم كنادل في مقاهي الأحياء الحقيرة.. وهذا عكس ما يحدث عندنا تماما، فالذين يجرحون كرامة المواطن بقفة رمضان وبمطاعم الرحمة لم يشتغلوا يوما في حمل السلع على ظهورهم، بل إن معظمهم هم أصحاب السلع في الحاويات الكبيرة عبر البحار. ولم يشتغلوا في المقاهي بل بعضهم أرباب المنتجات والفنادق الضخمة.. وربما الفرق يكمن بين كوليش الفرنسي وكوليشات الجزائر، أن كوليش الفرنسي هو مهرج لكنه استطاع أن يفعل في فرنسا ما لم يفعله كل ساستها، فكان أن تحول من مهرج إلى سياسي حكيم. ولكن كوليشات الجزائر منهم سياسيون محنكون لكنهم يتحولون في شهر رمضان إلى مهرجين بسبب مطاعم الرحمة المناسباتية والقفة الرمضانية المهينة لكرامة المواطن ولكرامة بلد الملايين من الشهداء. القارئ: صادي