عاشت ولا تزال مناطق شمال ولاية سطيف العديد من المشاكل التنموية والاجتماعية التي صارت تهدد استقرار المنطقة ككل. بالتوازي مع حركات احتجاجية لا تكاد تتوقف، وإضرابات لا تنقطع، ظهرت بالمنطقة شبكات تنصير بالجملة، تسعى إلى تجنيد شباب المنطقة الأمازيغية، بغرض تنظيم أنفسهم والانخراط داخل تكتلات تدعو إلى تدخل هيئات دولية وإقليمية، من أجل حمايتهم ك«أقليات مضطهدة بالجزائر”، وهو ما ليس له أي امتداد في الواقع، بدليل عشرات البرامج التنموية التي تهدف لإخراج المنطقة، وبالتالي سكانها، من العزلة التي فرضتها عليها الموقع الجغرافي الصعب، أولا، ثم عشرية الدم والدمار، التي دفعت المنطقة الشمالية لولاية سطيف ضريبتها غاليا. تمكّنت “الخبر” من محاورة أحد سكان منطقة بوسلام، المدعو بوحفص سليمان، وهو شرطي سابق في صفوف قوات مكافحة الإرهاب ومنسق ومندوب حركة العروش ما بين الولايات أيام الحوار مع الحكومة، حيث كان من المواظبين على الصلاة والصيام، زيادة على أنه من أسرة معروفة ببلدية بوسلام شمال ولاية سطيف، غير أنه قرر في بدايات سنة 2002 التحول إلى الديانة المسيحية التي تنتمي إلى الكنيسة الأمريكية. وأكد سليمان بوحفص أن السبب المباشر لذلك هو ما عاناه من ظلم وحيف في قريته النائية البعيدة عن الأعين، بعد أن حرم من بناء مسكنه الخاص على أرض يملكها، ما جعله يدخل في صراع كبير مع سكان دشرته الذين منعوه لكونه مسيحي الديانة، زيادة على تعرضه لمحاولة قتل من قِبل أحد سكان القرية، مثلما يقول، ورغم أن المحكمة اعترفت له في نهاية المطاف بحقه في بناء المسكن ورخصت له بذلك، إلا أن المعني واصل عملية الاتصال بمنظمات دولية كثيرة في الاتحاد الأوروبي ومحكمة لاهاي، وصار يراسل المجتمع الدولي كممثل ل”المضطهدين المسيحيين”، حسب تصريحاته. ففي رسالة له للرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، بتاريخ 30 جانفي 2008، تحوز “الخبر” على نسخة منها، يطلب سليمان بوحفص فيها مد يد المساعدة للمسيحيين في المنطقة، حيث تلقى ردا كتابيا من رئيس مكتب الرئيس ساركوزي بلغه بأن “قضيته سوف تعالج بشكل جدي مع المصالح الخارجية”، كما أبلغه التحيات الشخصية للرئيس الفرنسي. هذه التوصيات شجعته من أجل محاولة تنظيم نشاطه التبشيري في المنطقة، حيث سجل الكثير من المقابلات مع قناة “فرانس 24” والقناة الفرنسية الثانية، وتم تشفير هذه الفيديوهات على شبكة الأنترنت، إذ لا يمكن لأي أحد الاطّلاع عليها سوى من يسمح له بذلك. وفي سياق الحديث عن موضوع التبشير، أكد سليمان بوحفص أن عدد المسيحيين في منطقة شمال سطيف وحدها وصل إلى أكثر من 230 مسيحي، فيما يزيد على 30 ألف عبر كل مناطق القبائل في الوطن. غير أن الأخطر من ذلك هو توجيهه لمراسلة إلى محكمة العدل الدولية تحمل رقم 207/07 بتاريخ 18 جويلية 2007، يترجى فيها رئيس المحكمة “فتح تحقيق في تعرض الشعب الأمازيغي إلى الاضطهاد والقتل”. وهو ما فنده مسؤولو بلدية بوسلام بشكل كلي، حيث صرح رئيس البلدية، طيب دعيدش، في حديثه ل«الخبر”، أن سكان المنطقة ينكرون مثل هذه التصرفات، بدليل أنه ينتمي إلى حركة مجتمع السلم المحسوبة على التيار الإسلامي، والتي حازت على الأغلبية في الانتخابات المحلية الماضية. من جهة أخرى، تنقلت “الخبر” إلى منطقة بوعنداس وآيت نوال مزادة، ثم بلدية بوسلام في نهاية المطاف، حيث لا تزال هذه المناطق بعيدة عن مستوى التنمية بالمناطق المحاذية لمركز الولاية، خاصة ما تعلق بالطرقات والتهيئة الحضرية والمشاريع السكنية، زيادة على معاناة السكان من تأخر وصول الغاز الطبيعي، ما جعلها من أكثر المناطق التي عانت من موجة البرد في الشتاء الماضي، خاصة مع وصول سمك الثلوج إلى مترين. ورغم محاولتنا الاستفسار عن وجود “جيوب” للتنصير بالمنطقة، إلا أن كل السكان يجهلون ذلك، مع اعترافهم بوجود الكثير من المسيحيين الذين ينشطون في السر، وعادة ما يتم كشفهم في أوقات الصيام في شهر رمضان، حيث يفضّلون الالتفاف حول موائد الغداء في أحد البيوت، وهي موضوع مراسلة وصلت إلى الاتحاد الأوربوي، تملك “الخبر” نسخة منها، يطالب فيها بوحفص سليمان بضرورة حمايتهم والسماح لهم بالأكل والشرب في أوقات رمضان، خاصة وأن القانون الجزائري يعاقب من ينتهك حرمة الشهر الفضيل بعقوبة قد تصل إلى 5 سنوات كاملة، في وقت كان كل المدربين الذين تعاقبوا على فريق وفاق سطيف، مثلا، والمنتمون إلى جنسيات أوربية مختلفة، يحترمون شعائر المسلمين ويفضّلون الصوم مع السكان، ولو أنهم لم يعتقدوا بركن الصيام. وتؤكد مصادر مطّلعة من محيط وزارة الشؤون الدينية أن الوزارة تفتح تحقيقات دورية في شبكات للتنصير تستغل المرضى والعجزة بغرض جلب تأشيرات لهم للعلاج في أوروبا، مقابل دخولهم في المسيحية، مع منح مبلغ 60 مليون سنتيم لكل مسيحي يقنع آخر بدخول المسيحية، ما يفسر تنامي الظاهرة بشكل غير مسبوق. وهو ما لم ينفه العديد من القساوسة في الغرب، وعلى رأسهم جازون مندريك، أحد أقطاب جماعات التنصير بالولاياتالمتحدةالأمريكية، في كتابه الصادر نهاية 2010 بعنوان “العالم للمسيح”، والذي يؤكد فيه أن “الجزائر وضعت في سلم الدول العشر المستهدفة من قِبل جماعات التبشير، على غرار المغرب وباكستان والهند وإيران وغيرها، بدليل التحاق جزائرية بالإذاعة الدولية للتبشير المسيحي بموناكو”. على صعيد آخر، كشفت بعض الملفات، التي تملكها “الخبر”، عن وجود اتصالات بين مسيحيي الجزائر ودولة الكيان الإسرائيلي عبر مراسلتهم في أكثر من مرة من أجل إبداء مواقف مساندة لتوجهات ضرب إيران، في مقابل كسب ودّهم من أجل مساندة “قضية فصل منطقة القبائل” عن باقي تراب الوطن. ورغم أن بوحفص سليمان نفى أن يكون هو وأتباعه قد تلقوا مساعدات خارجية لتمويل نشاطاتهم، إلا أن تصريحاته أكدت في مقابل ذلك رحلاته “المكوكية” بين الولايات من أجل تنسيق العمل مع من يسميهم “إخوان القضية”، زيادة على تفضيل القنوات الأجنبية تسجيل تصريحاته في مدن ساحلية مثل وهران وعنابة، بعيدا عن “أعين الرقابة”. كما تشهد المراسلات الكثيرة التي تملكها “الخبر” أن منسقي المسيحيين في الجزائر يسجلون مواقفهم في كل القضايا الدولية، وخاصة منها التي تتعلق بالمواقف الرسمية للجزائر، وكان آخرها دعمهم لقيام “دولة الأزواد” بشمال مالي، تكريسا لمبدأ “حرية الاستقلال الذاتي للطوارق الماليين”. أسقف الجزائر السابق هنري تيسيي قال ذات يوم “الكنيسة الكاثوليكية لا تقوم بالتبشير بل البروتستانتية” “ليست الكنيسة الكاثوليكية المعتمدة هي من يقوم بالتبشير في الجزائر، وليست هي من يقف وراء تصاعد موجة التنصير خلال السنوات الأخيرة.. هناك خلط كبير في الأمر وغموضا يجب توضيحه”. هي كلمة قالها الأب تيسيي، مشيرا: “التبشير الذي تقوم به الجماعات البروتستانتية، وبالتحديد من يسمون أنفسهم ب«الإنجيليين” ألحق الضرر بالكاثوليك بقدر ما ألحقه بالمسلمين”، وأضاف: “حتى نحن الكاثوليك يعتبروننا كفارا وخارجون عن ملة المسيح ولا يعترفون بمبادئنا. فعقيدة الإنجيليين تختلف عن الآخرين من حيث اهتمامها بالفرد لذاته، وترتكز على الإنجيل وتمنح الفرد الحق في فهمه والتعامل معه دون الخضوع إلى مبدأ الجماعة”. وقال الأب تيسي إن “الكنيسة الكاثوليكية تضررت كثيرا، بل واهتزت صورتها لدى الجزائريين بفعل هذا الخلط.. كل ما تقوم به الكنيسة هو خدمة المسيحيين والقيام بأعمال اجتماعية وثقافية بهدف الخدمة الاجتماعية”. وكذلك بالنسبة للكنيسة البروتستانتية الحقّة، فهي متواجدة بالجزائر منذ الاستعمار الفرنسي، وآخر من كان مسؤولا عنها، حسب الأسقف تيسيي، هو الأب البروتستانتي هيوغ جونسن، الذي ظل طيلة الخدمة بالجزائر بعيدا عن التبشير. وقال عن الإنجيليين الذين ذاع صيتهم عبر العالم، وبلغ حتى الدول الإسلامية في شكل تبشير، إنهم “مسيحيون جدد” نشأوا بداية القرن بأمريكا، ليغزو فكرهم فيما بعد أمريكا اللاتينية، وانتشر بشدة منذ 20 أو 30 سنة، وهم في الجزائر منذ الثمانينيات ينشطون في سرية ولا يعترفون أصلا بالكنيسة الكاثوليكية. وفي توضيحه للأمر، قال هنري تيسيي إن مسؤوليته أن يوضح الفرق بين ممارسة العقيدة المسيحية والتبشير، وقد أكد الكاردينال دوفال من قبله والمجمّع الكاثوليكي “على ضرورة الدعوة إلى شهادة متبادلة بيننا واحترام متبادل بين أصحاب الأديان المعترف بها”، فالمسيحية، مثلما يقول، “هي أيضا يلحقها ضرر هؤلاء الإنجيليين مثل الإسلام تماما.. التطرف ليس عنصرا من عناصر الإسلام بدليل أن التطرف موجود لدى هذه الفئات المسيحية”. وتحدّث الأسقف السابق بالجزائر أن هناك ضررا معنويا آخر يلحق الكنيسة من جهة أخرى، هو أن المسلمين يعتقدون أن من يقوم بالتبشير هي الكنيسة، بينما هؤلاء يدعون إلى ملّتهم في السر ودون دخل من الكنيسة الرسمية، ما يجعل، في كثير من الأحيان، المسلمين الذين كانوا أصدقاء إلى وقت قريب يتحولون إلى مناهضين لوجود الكنيسة أصلا.