الدُّعاء مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين، هو طريق النّجاة وسُلّم الوصول، فبه تُستجلب النّعم، وبمثله تُستدفع النّقم، فما أشدّ حاجة العباد وما أعظم ضرورتهم إليه. الدّعاء من أنفع الأدوية، فهو عدو البَلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخفّفه، فضائل الدّعاء لا تحصى، وثمراته لا تعدّ، ويكفي أنّه نوع من أنواع العبادة: “الدّعاء هو العبادة”، فمَن ترك الدّعاء فقد استكبر: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}. فالمؤمن عندما تنزل به المحن، وتشتدّ وتتوالى عليه الخطوب والكروب، وتعظم حوله وتتابع الرّزايا والشّدائد، لَن يكون أمامه إلّا أن يلجأ إلى ربّه سبحانه فيلوذ بجانبه، ويضرع إليه راجيًا تحقيق وعده، الّذي وعد به عباده المؤمنين: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ”، فقد أضاف العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه، ولم يقُل: فقل لهم إنّي قريب، إنّما تولّى بنفسه سبحانه الجواب على عباده بمجرّد السّؤال فقط، قريب، ولم يقُل: أسمع الدّعاء، إنّما عجّل بإجابة الدّعاء: أجيب دعوة الدّاع إذا دعاني، إنّها آية عجيبة، آية تسكب في قلب المؤمن النّداوة الحلوة، والودّ المؤنس، والرِّضى المطمئن، والثّقة واليقين، ويعيش منها في جنّاب رضيٍّ، وقربى ندية، وملاذ أمين، وقرار مكين، فأين تقع تكاليف الحياة في ظلّ هذا الودّ، وفي ظلّ هذا القرب، وفي ظلّ هذا الإيناس؟ يقول أنس بن مالك رضي اللّه عنه: كان رجل من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من الأنصار يُكنّى أبا مِعْلَق، وكان تاجرًا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكًا وَرِعًا، فخرج مرّة فلقيه لص مقنّع في السّلاح فقال له: ضع ما معك فإنّي قاتلك، قال: ما تريد إلى دمي شأنُك بالمال، قال: أمّا المال فلي ولستُ أريد إلّا دمك، قال: أما إذا أبيت فذَرني أُصلّي أربع ركعات، قال: صلّ ما بَدَا لك، قال: فتوضّأ ثمّ صلّى أربع ركعات، فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: “يا وَدُود يا ذا العرش المجيد، أسألُكَ بعِزِّك الّذي لا يُرَام، وملكك الّذي لا يُضام، وبنورك الّذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شرّ هذا اللّص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، ثلاث مرّات. فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أُذني فرسه، فلمّا بصر به اللّص أقبل نحوه فطعنه فقتله. ثمّ أقبل إليه فقال: قُمْ. قال: مَن أنتَ بأبي وأمّي فقد أغاثني اللّه بك اليوم؟ قال: أنَا ملك من أهل السّماء الرّابعة دعوتَ بدعائك الأوّل، فسمعتُ لأبواب السّماء قعقعة، ثمّ دعوتَ بدعائك الثاني فسمعتُ لأهل السّماء ضجّة، ثمّ دعوتَ بدعائك الثالث، فقيل لي دعاء مكروب، فسألتُ اللّه تعالى أن يُولّيني قتله”. يقول عليه الصّلاة والسّلام: “ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول: مَن يَدعوني فأستجيب له، ومن يَسألني فأعطيه، ومَن يَستغفرني فأغْفِرُ له”. إنّ المتأمّل في أوضاع الأمّة يلحظ أنّها في كثير من مواطنها وأوضاعها اختارت غير ما اختار اللّه، ودانت بمناهج على غير طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، اختلطت عليها السّبل، واصطبغت بغير صبغة اللّه، تغيّرت أحوالهم، وفرّطوا في دينهم، أضاعوا الصّلاة، واتّبعوا الشّهوات، أكلوا الرِّبا، وفشَا فيهم الفحش والزِّنا، تركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، واتّبعوا خطوات الشّيطان، وتمادوا في معصية الرّحمن، وهذه كلّها أسباب في عدم إجابة الدّعاء، لأنّ الذّنوب والمعاصي قد تكون حائلة من إجابة الدّعاء، خاصة أكل الحرام، قال عليه الصّلاة والسّلام: “يا أيُّها النّاس إنّ اللّه طيّب لا يقبَل إلّا طيِّبًا”، ثمّ ذكر الرّجل يُطيل السّفر أشعث أغبر يَمُدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له”. لقد كان المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أهَمّه أمر رفع رأسه إلى السّماء ودعا يتلمسُ الفَرَجَ والنّجدة، فعندما آذته ثقيف جلس صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ظلّ شجرة ورفع رأسه إلى السّماء ضارعًا، وعندما نازلته قريش في بدر رفع رأسه ويديه إلى السّماء وأخذ يدعو اللّه ويتضرّع إليه حتّى أتَمّ اللّه له النّصر، فإجابة الدّعاء معلّقة بصدق الالتجاء والتضرّع إليه، وعدم استعجال الإجابة، وصدق التّوبة الّتي تجعلنا نعود إلى المنهج الّذي ارتضاه اللّه لنا، وسار عليه نبيّنا، وسلكه أسلافنا. واللّه وليّ التّوفيق. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي براقي