بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي، تبجحت الإمبريالية العالمية بمجيء عهد يسيطر فيه السلم على كل أرجاء المعمورة ويزدهر الاقتصاد الرأسمالي في العالم بأسره ويصبح كل إنسان مواطن القارات، يملك جواز سفر واحد وعملة واحدة ويسبح في غمرة السعادة وأناقة الوجود، وهكذا يكون الإنسان الكوني قد انتهى من الحرب الباردة والحرب الحارة والحرب الفاترة كذلك. ذلك أن ازدواجية المعايير في السياسة واستعمال الذاتية القصوى وتأسيس الكذب (الدعاية المطلقة) كفلسفة تسير الضمير الإنسان بطريقة لا نقاش فيها، تكون مقبولة من طرف كل الناس صغارا أو كبارا وحتى رضعاǃǃ لو أننا أحللنا الإنسان محل الإله، مثلما فعل هيڤل، ولو نظرنا إلى السياسة كفن من فنون “الممكن”، أو من حيث هي المسيرة الضرورية للإنسان في الزمن نحو تحقيق غاية محايثة للتاريخ، فإنه من البديهي أن نستقطع ميدان التاريخ ونثبته على أرض واقعية وصلبة، غير أن ذلك لا ينجم عنه وجود هذه الغاية النهائية (السعادة الإنسانية كحق كل شخص على الأرض) أو هذا الغرض النهائي، أي السياسي التاريخي وبذلك فإما أن الأمر يتعلق بغاية اقترحها الناس على أنفسهم أو فرضها بعض الناس بالقوة على أناس كثيرين موضوعا نهائيا لأعلامهم وتعليمهم واستخدامهم ككتلة بشرية تعودت الانصياع للأوامر الفوقية، لأنها في حاجة إلى الاستهلاك المتواصل والدفاع عن النفس والهروب من الموت (وحتى من فكرة الموت التي تنظم طقوس الأموات والعادات الجنائزية في كل الحضارات وكل الديانات). وهو شيء تفنده الممارسة الإبداعية التاريخية بمعنى (PRAXIS) وغير القصدية للماضي، وإما أنه (الموضوع) يتعلق بغاية قبلية (من فعل قبل) تختفي خلف كل أعمال الإنسانية دون أن تستطيع إلحاقها بفاعلية فوق إنسانية (خارقة لأمور الناس البسطاء والعاديين). إن هذا التصور اللاعقلاني (إذن اللاهوتي) لعب كذلك دورا سلبيا في تقييم السياسة منذ أن كتب أفلاطون (المدينة الفاضلة) ولم يفلح في خلق عالم السياسة المثالية، وقد لخص شكسبير هذا العطب، أو هذا الفشل الذريع، بالأحرى، في أعماله الدرامية الخارقة، ثم جاء بعده HOBBS الفيلسوف الألماني فأدرج مقولته الشهيرة: “إن الإنسان ذئب بالنسبة للإنسان”. وفي هذا القرن الذي أريد منه أن يكون قرن السلم والأبهة والعيش الرغيد للإنسان الطيب، اشتعلت الحروب الحارة والساخنة وانتهت الحرب الفاترة والباردة التي سيطرت على القرن العشرين واختلط الحابل بالنابل وأصبحت هذه الحروب الخبيثة تطال كل الميادين، من اجتماع واقتصاد وديانة ومعتقد، وسقطت أمريكا التي مازالت تحسب نفسها القوة العظمى الوحيدة والفريدة في مئات الحروب والمطبات، لأنها ظنت (وخاصة مخابراتها الحمقاء: ال(CIA) أن سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، جعل منها إمبراطورية عظيمة وعظمى، يمكنها أن تدمر العراق وسوريا وإيران وليبيا واليمن، وهكذا تسحق الحضارة العربية الإسلامية برمتها، وفي رمشة عين. فاستفاق “الدب” الروسي وبدأ يسترجع مناطقه بعد أن ترك الولاياتالمتحدة تحاصره بأسوار نووية بمعية صديقهم الروسي إلتسين، فاسترجعت روسيا القرم وثلث أوكرانيا وبدأت تحضر لعودة الاتحاد السوفياتي، لأن الصراع الكوني اليوم يدور حول هاتين القوتين، أي روسياوأمريكا، فقط! خاصة، كذلك، أن حرب أوكرانيا ليست إلا اللبنة الأولى لحروب أخرى آتية لا محالة. أما أوروبا (وخاصة فرنسا) فهي تلعب دور القزم المرج في حلبة لاعبي “السومو”.