الشرط الثاني: مبدأ التسامح إن مفهوم التسامح في سياقه التاريخي الغربي، ظهر أصلا في ظروف الحروب الدينية المذهبية، التي فرَّقت دول و شعوب أوروبا خلال فترة طويلة، وإن حمولته الأخلاقية ساهمت في تَمَثُلِ وامتصاص حدة وعُنف الصراع بين المذهبين الأساسيين للمسيحية الأوروبية آنذاك: "الكاثوليكية" و"البروتستانتية"، وفي هذا السياق تحديدا ثمة ورقة أخرى جدية وجريئة أعدها كاتب لعله إسلامي يقدم فيها توصيفا دقيقا لموقف العقيدة من الحوار وتشريعها له بل والحض عليه وللعلاقة بين الأمم والشعوب وشروط التعايش بينها، وفي هذا السياق يستدل بالآيات القرآنية التالية: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"، "أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ". ولأن البشرية تنقسم إلى شعوب و قبائل فإن الدعوة تكون في قوا تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، إذن هذا تأكيد صريح في العقيدة وفي القرآن الكريم تحديدا على حق الاختلاف والتسامح والعدل والإنصاف، كما أن الآيتين الأخيرتين من سورة الممتحنة تؤكدان على: - أن المسلمين ملتزمون بحسن العلاقة مع غيرهم من بني البشر، ذلك أن الأصل في الإسلام هو السلام والمحبة ونشر البر والعدل بين الناس قاطبة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. - إن عداوة المسلمين يجب أن تنصب حصرا على الذين يحاربونهم لتغيير دينهم,أو يعتدون على حرماتهم النفس والوطن؛ - إن المسلمين لا يحاربون ولا يعادون ولا يعلنون الجهاد ضد الآخرين بسبب عقيدتهم ولكن دفاعا عن النفس والعقيدة وهى ضرورة للمحافظة على الذات فإذا انتفى هذا المبرر فلا مجال للحديث عن قطع كل صلات بالمخالفين في الرأي فضلا عن قتالهم، فالنهي عن الصداقة والمحبة والتحالف منصب على الذين ما يزالون مستمرين في حربهم وعدوانهم. أما عن تسامح المسلمين مع الغرب وغيرهم من الأقوام والثقافات فهذه مسألة غطاها تاريخيا الكثير من كتاب الغرب وفلاسفته مثل المؤرخ البيزنطي «خالكو كونديلاس» والمؤرخ الانجليزي «جيبون» وكثير ممن أقروا بأن النظام العثماني كان يتعامل مع الدول والأشخاص غير المعادين بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم وأنه عامل الأرثوذكس معاملة أفضل بأضعاف من معاملة الكاثوليك للأرثوذكس، أما عن فتح القسطنطينية التي كانت هدفا رئيسيا للسياسة الإسلامية منذ القرن الهجري الأول والتي يحاجج الغرب فيها ليثبت عدوانية الحضارة الإسلامية فلأنه من القسطنطينية كانت تصدر قرارات الحرب لغزو ديار الإسلام والإغارة على الثغور، ويعترف «نورمان بينز» بأن عداوة بيزنطة للإسلام بقيت ما بقيت الإمبراطورية، وفي بحثه "بيزنطة والإسلام" يتحدث «فازلييف» عن تفضيل الأرثوذكس الأتراك العثمانيين على "الكاثوليك" أشقائهم في الدين فيقول "ولا زال الناس يرددون تلك المقالة المأثورة التي صدرت عن رئيس ديني بيزنطي يدعى «لوكاس فاتوراس» في ذلك الحين، وهى إنه لخير لنا أن نرى العمامة التركية في مدينتنا من أن نرى تاج البابوية" ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى شهادة «نهرو» زعيم الهند الهندوسي "ومهما يكن من أمر فالواقع أن سلاطين الأتراك العثمانيين كانوا متسامحين جدا مع الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية". مبررات استعداء قادة الفكر الغربي للإسلام إن الحضارة الوحيدة القائمة بمنجزاتها القيمية والمادية والمهيمنة هي الحضارة الغربية بلا منازع والتي تتزعمها الولاياتالمتحدةالأمريكية، أما الحضارات الأخرى فقد انزوت، ومع أن بعضها يحاول النهوض إلا أن الحضارة الإسلامية تعتبر اليوم أضعف الحضارات دون أن يقلل هذا من كونها واحدة من أكبر الثقافات العالمية والإنسانية، ولعلها مفارقة غريبة أن تُستهدف الحضارة الإسلامية وهي على هذا النحو من الضعف والتراجع، فلماذا؟ مع بداية تفكك المنظومة الشرقية وعشية انهيار الاتحاد السوفياتي همس «جورجي أباتوف» مستشار الرئيس السوفياتي الأخير «ميخائيل غورباتشوف» في أذن مسؤول أميركي بالعبارة التالية: "إننا نصيبكم بخطب جلل فنحن نجردكم من العدو"،ولم يكن «آباتوف» مخطئا فقد أيده لاحقا «صموئيل هنتنغتون» في مقالته "تآكل المصالح الأميركية"، التي تضمنت جملة اعترافات من أهمها الاعتراف بفقدان التوجه الأمريكي المصلحي في غياب العدو، أمّا «إدوارد جيريجيان» مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى فقد قال بوضوح بأن "الولاياتالمتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة الباقية، والتي تبحث عن إيديولوجية لمحاربتها؛ يجب أن تتجه نحو قيادة حملة صليبية جديدة ضد الإسلام"، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه «بوش»الابن في بداية الحملة الأمريكيةالجديدة على العالم الإسلامي، والتي بدأت بأفغانستان، وفي أعقاب حرب الخليج الثانية اجتمع قادة حلف شمال الأطلسي وناقشوا أوضاع ما بعد الحرب وزوال الحرب الباردة وأصدروا بيانا يتحدث صراحة بالنص عن كون الأصولية الإسلامية هي العدو الاستراتيجي القادم للحلف وبالتالي للحضارة الغربية، ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة تبحث عن عدو وهذا مطلب طبيعي لدولة عظمى تسعى لأِن تحافظ على يقظتها وفاعليتها، ولكن أن ترى في الإسلام تهديدا مباشرا يعادل التهديد الشيوعي لها وللحضارة الغربية فهي مسألة تدعو للتأمل خاصة أن الحاجة إلى عدو مفترض ينبغي أن يتميز بطابع المنافسة والندية كي يكون جديرا بالدعوة، وعليه يذهب البعض إلى توصيف الحالة القائمة بغياب فعلي لأي صراع بين الحضارات سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية لا سيما وأن الحضارة الغربية هي الوحيدة والسائدة في العالم، ولكن في واقع الأمر أن أحد الطرفين المعنيين بالصراع تستحوذ عليه رؤى دفينة كافية لاستنبات بذور الصراع وإثارة الشكوك والفزع والتحريض ضد الإسلام، فبالنسبة للمفكرين الغربيين وقد عبر عن أطروحاتهم الكثير من مشاهيرهم نجد «روبير فيدرين» وزير الخارجية الفرنسي السابق يعترف بوضوح لا لبس فيه بوجود صراع حضارات فعلي متسائلا "كيف ننكر وجود صراع بين الإسلام والغرب، في حين تظهر معالمه للعيان بألف طريقة وطريقة، موغلاً بجذوره في التاريخ"، أما «برنارد لويس» فيبدو على النقيض من «فيدرين» الآمل بالخروج من هذا الصراع فيحذر من بعث جديد للحضارة الإسلامية على ضعفها حين يقول"ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض أغنى حضارة وأقواها وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري، عسكرها أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي ثم تغير كل شيء، فالمسلمون بدلا من أن يغزون الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم مشاعر الإحباط والغضب لما كان عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون ووصلا قمتهما في أيامنا"، ويعلق «جعفر شيخ إدريس» على أطروحة «برنارد» هذه بالقول "إن قادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة، ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم"، لعله لهذا السبب تحديدا غالبا ما جرى التساؤل عن مصير الحضارة الغربية إذا ما تقدم الإسلام ونهضت الحضارة الإسلامية، وهو ما عبر عنه بوضوح لا لبس فيه كل من «برنارد لويس» و«فوكوياما» و«هنتنجتون» من أن الإسلام عدو صريح للحضارة الغربية بكل منظوماتها وقيمها ومنجزاتها، وأن المسلمين لديهم ميل طبيعي للعنف والعدوانية والانتقام من الغرب، وأن الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي ما زالت عصية على الاحتواء الغربي وعلى الحداثة وبهذا الفهم الاستعلائي والمغرض للإسلام، يبدو الحوار مستحيلا مثلما هو غض الطرف عما يسميه فوكوياما ب"الفاشية الإسلامية" هو الآخر مستحيلا، وفي هذا السياق بالضبط تجيء التدخلات العسكرية الأمريكية وفرض مشاريع الإصلاح من نوع مبادرة الشرق الأوسط الكبير، وهي مبادرة تستهدف بالدرجة الأساس إزاحة العقيدة الإسلامية عن كل طابع للحياة الاجتماعية وإيجاد ما يعرف حاليا في أوساط المثقفين بالدين الليبرالي.