بدأت قضية الفكاهي ديودوني الذي مُنع من العرض في فرنسا بقرار من وزير الداخلية “إيمانويل فالس” تأخذ منعرجات مختلفة، حيث تحوّلت من قضية مالية إلى قضية سياسية بامتياز، فبعد اتهامه بالتهرب الضريبي وتحويل حوالي 400 ألف أورو إلى الكامرون، فتحت يومية “لوفيغارو” الفرنسية ملفا آخر مذكرة بعلاقته بالأموال الإيرانية والرئيس الأسبق أحمدي نجاد. عادت يومية “لوفيغارو” إلى زيارة الفكاهي ديودوني إلى إيران في 21 نوفمبر 2009 ولقائه بالرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد الذي وصفته ب “المعروف بمعاداته لإسرائيل”. وكتبت لوفيغارو أمس أن وزير الداخلية الفرنسي إيمانويل فالس قال إن إيران تقوم بتمويل ديودوني، في تصريح مصور عند لقائه الثلاثاء برئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية دليل بوبكر. وتشير الصحيفة إلى أن ديودوني تحدث عن هذه الزيارة وصداقته مع نجاد في عرضه المعنون ب“محمود”، كما تحدثت عن التحقيق الذي قام به موقع “رو89”، أين كشف عن تمويل إيران لجولته الأوروبية سنة 2009. من جهتها صرّحت وزير العدل أمس “كريستيان توبيرا” بعد خروجها من مجلس الوزراء قائلة “إن قضية ديودوني ليست قضائية ولكن سياسية أيضا”، أما وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي فقالت في تصريح مسجل “المعركة التي يقودها وزير الداخلية ضد ديودوني هي من أجل تحويل الأنظار فقط”. من جهة أخرى يتعرض ديودوني إلى حملة لمنع عروضه، وقد تقدم أمس عدد من محامي الفكاهي بطعن لمحكمة نانت ضد قرار منع عرضه الذي كان مبرمجا اليوم 9 جانفي، القرار اتخذه محافظ المدينة وعدد من محافظي المدن الفرنسية استجابة لتعليمة وزير الداخلية إيمانويل فالس التي أصدرها الاثنين بمنع جولة ديودوني تحت مسمى “المساس بالأمن العام”، وقال المحامي “جاك فارديي” إنه “في حالة عدم رفع قرار المنع سيطعن مرة أخرى أمام مجلس قضاء الدولة”. وأخذت قضية “ديودوني مبالا مبالا” منعرجا آخر في الآونة الأخيرة، بعد أن قرّر عدد من محافظي المقاطعات الفرنسية منع عروض ديودوني الذي كان من المنتظر أن يبدأ في جولة على التراب الفرنسي اليوم وتتواصل إلى أواخر الشهر الحالي. ويضغط مجلس المؤسسات اليهودية بفرنسا من أجل منع أي عرض للفكاهي، فبعد نانت، قرّر كل من رئيس دائرة تور من الحزب الاشتراكي جون جارمان منع عرض يوم 10 جانفي، وسارج غرووار رئيس بلدية أورلي منع عرض يوم 11 جانفي بزينيت، وألان جوبي من بوردو بدوره سيمنع عرض 26 جانفي. وقد تجاوزت قضية ديودوني كل التوقعات وشغلت الرأي العام الفرنسي حتى الرئيس فرانسوا هولاند الذي طالب المحافظين بأن يكونوا حذرين ولا يتساهلوا مع ديودوني، خاصة أن قرار المنع على المستوى الوطني صعب من الناحية القانونية إذا ما تم بتهمة “استعمال ألفاظ عنصرية”، ما يضطر القضاة إلى أخذ كل حالة على حدة، كما لم تستثن من جهتها وزيرة الثقافة الفرنسية أن تقوم بإجراءات مماثلة ضد مسرح “اليد الذهبية”، أين يقدم ديودوني عروضه، وقالت أوريلي فيليبيتي أمس إنها “ستدرس كل المواد القانونية لمنع عروض ديودوني”. وبدأت متاعب ديودوني التي يرجعها الكثيرون إلى مسألة سخريته من المحرقة ومن اليهود، منذ عامين، حيث فتحت المحكمة الفرنسية بعدها بسنة تحقيقا ضده بتهمة تبييض الأموال وتهريب 400 ألف أورو إلى الكامرون سنة 2009 عن طريق ابنه من أجل التهرب الضريبي، وتقول يومية “لوموند” إن ديودوني لم يدفع ديونه للخزينة والمقدرة ب800 ألف أورو. ديغول اعتبرهم أقلية محظوظة وساركوزي رسخ حلفا غير معلن معهم اليهود .. الخط الأحمر في السياسة الفرنسية سواء كنت كاتبا أو مفكرا أو مؤرخا أو سياسيا في فرنسا، فإن انتقاد اليهود والسياسات الخاصة بهم يظل من الطابوهات والمحرمات التي يمكن أن تدفعك قسرا للعزلة والتهميش، بل للمتابعات إلى حد تصنف فيه ضمن “المغضوب عليهم” من مناهضي السامية وأصحاب الفكر التحريفي، ففرنسا التي رفضت محاكمة موريس بابون بسبب مجازر 17 أكتوبر 1960 بباريس، أكدت أن إبعاد واضطهاد اليهود في ظل حكومة فيشي بيتان واحتلال ألمانيا الهتلرية لباريس لن يخضع أبدا لمبدأ التقادم. وتعكس الحملة الموجهة ضد الممثل الفكاهي ديودوني سيادة منطق الاختزال والمركزية الفكرية لدى الطبقة السياسية والإعلامية والمثقفة في فرنسا، كلما تعلق الأمر بمسألة تتصل باليهودية أو إسرائيل التي صارت خطا أحمر لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال، لاسيما كل ما يمس في الجوهر لقناعات تاريخية على رأسها قضية المحرقة التي تدخل ضمن الحتميات والمحرمات التي لا يمكن مناقشتها، والتي كان ضحيتها كل من الكاتب المؤرخ روبير فوريسون والكاتب رجاء غارودي التي نال قسطا كبيرا من الانتقادات والتهميش إلى حد منعه من طبع كتبه، خاصة بعد أن صدر عنه مؤلفه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” في 1995، والذي حوّلته إلى أحد المغضوب عليهم في الساحة الأدبية والأكاديمية والسياسية بعد الحملات التي طالته ومسّت حتى الأشخاص المعروفين في الساحة الدينية والخيرية المسيحية مثل الأب بيار. فرنسا اليعقوبية التي تبنت مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واعتمدت قيم المدرسة اللائكية اللادينية وفق جول فيري، لا تؤمن بمساحات الحرية إلا في نطاقها القيمي الذي لخصه بول فاليري في الحضارة الإغريقية اليونانية في المجال الحضاري واليهودية المسيحية في المجال الديني، وهي بالتالي لا يمكن أن تستسيغ وإن لم تكن حاضنة الكنيسة الكاثوليكية، بأن يعاد النظر أو ينتقد ما يعتبره صناع القرار خاصة في الدولة العميقة وفق اصطلاح الكاتب الكندي بيتر دال سكوت، أي مجموعات المصالح واللوبيات والقوى المؤثرة والنافذة، الحتميات التاريخية والسياسية، فهذه القوى رافعت لحرية التعبير وساندت أعمال التشويه والتشهير التي قامت بها صحيفة “شارلي إيبدو” التي نشرت صورا كاريكاتورية مستهزئة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، معتبرة أن حرية الرأي لا حدود لها وهي مقدسة لا يمكن المساس بها، لكن ذات الطبقة المثقفة والسياسية لم تكن لتقبل بانتقادات تطال مصالح إسرائيل أو قناعات اليهود الذين اعتبرهم ديغول أقلية محظوظة وأقام معها ساركوزي حلفا مقدسا غير معلن، لا مجال لمراجعته من أي سياسي فرنسي يريد كسب رضا القوى النافذة عبر ما يعرف بمجموعة “بيلدربرغ” التي يعد فرانسوا فيون وكريستين لاغارد وبرنارد كوشنر من بين أعضائها الفاعلين. الجزائر: حفيظ صواليلي انتقل من اليسار إلى اليمين وأصبح صديقا لجان ماري لوبان ديودوني العدو اللدود ليهود فرنسا وإسرائيل بدأ ديودوني مشواره الفني مناضلا ضد العنصرية، وخاض الانتخابات المحلية ضد حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، قبل أن يصبح صديقا لجان ماري لوبان. بدأ مشواره الفني على خشبة المسرح إلى جانب الممثل من أصول يهودية إيلي شمعون، وتحول لفنان ملتزم يهاجم علنا ما يسميه “محور القوى الصهيوني الأمريكي”. اتهم ديودوني بمعاداة السامية ودخل المحاكم الفرنسية بتهمة “وصفه إحياء ذكرى الهولوكوست بالسلوك غير المقبول”، الأمر الذي جعله يتمتع بشعبية كبيرة في فرنسا، فأبدى نيته في الترشح لانتخابات الرئاسية سنة 2002، وسار على خطى ممثل كوميدي فرنسي آخر يدعى “كولوش”، واقترح تعيين الكوميدي جمال دبوز رئيساً للوزراء، وجيرار دوبارديو وزيراً للثقافة. وفي عام 2003 شرع ديودوني في استفزاز اليهود أكثر حينما ظهر على شاشة التلفزيون بشكل لم يرضهم، إذ ارتدى ملابس حاخام يهودي وأدى التحية النازية مرددا “هاي إسرائيل” مقلدا التحية النازية الشهيرة. وقال إنه كان يرمي إلى الاستهزاء من شخصية اليهودي الأرثوذكسي المتطرف، مثلما فعل مع شخصية الإسلامي الأصولي التي أداها مراراً دون أن تخلق أي ضجة. كما هاجم ديودوني الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ووصفه بالإرهابي الأول، معتبراً أنّ 11 سبتمبر بدعة أمريكية. هكذا أخذ على عاتقه انتقاد الإمبريالية الأميركية وحروبها في العراق وأفغانستان، وفضح السياسة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا السوداء، والجرائم الصهيونية بحقّ الشعب الفلسطيني. فانضم إلى “شبكة فولتير” الشهيرة المعادية للعولمة المتوحشة والتي يتزعمها تيري ميسان. وفي 2004، ترأس ديودوني قائمة يورو-فلسطين في الانتخابات الأوروبية. وفي 2006 قام بزيارة مفاجئة لمعرض الجبهة الوطنية السنوي، فانتقل من أقصى اليسار (يهتم بمحاربة العنصرية ضد السود والعرب والدفاع عن فلسطين والمقاومة) إلى أقصى اليمين (معاداة السياسة الإسرائيلية)، وأصبح يعتز بصداقته مع جان ماري لوبان الذي استضافه في أحد عروضه نكاية باللوبي اليهودي. وبعد ذلك قام بدعوة الأكاديمي الفرنسي روبير فوريسون الذي ينكر محرقة اليهود إلى عرضه المسرحي في باريس. ويعتبر فوريسون نفسه مؤرخا لا يسير مع التيار ويفضح ما يتواطأ الآخرون على ستره. وحين تلقى جائزة التفرد في مهرجان ديودوني، قال إنه يعرف أن الكثيرين يصفونه بأنه “صعلوك التاريخ”، وأنه لم يتعود على تلقي الجوائز، بل تعود فقط على تلقي الشتائم. وقدم ديودوني لفوريسون جائزة أطلق عليها اسم “الجنس الذي لا يعاشر”. وفي نفس الوقت وصف المحرقة بأنها “إباحية تاريخية”. فأدانته محكمة جنح باريس بالسجن لمدة عام مع إيقاف التنفيذ وغرامة قدرها 10 آلاف أورو، بعد اتهامه بالسب العلني بحق اليهود مدفوعا بميول معادية للسامية. وخاض ديودوني عام 2012 الانتخابات الأوروبية في ضاحية باريس عقب تأسيسه لائحة “ضد الطائفية وضد الصهيونية”، وأطلق سهامه مرة أخرى ضد “الجمعيات اليهودية”. ومن جهته نفى ديودوني أنه معادٍ للسامية، وأوضح أن الهجوم على إسرائيل يعتبر مسألة أخرى، وأن مناهضة الصهيونية موقف سياسي مبرر. وأضاف أنه ليس ضد اليهود عموماً، ما يجعله غير معادٍ للسامية. وقامت عدة مدن فرنسية مؤخرا بإلغاء عروض كان من المقرر أن يقدمها ديودوني عقب اتهامه من قبل الحكومة الفرنسية “بإهانة ذكرى ضحايا المحرقة النازية، وتعريض الأمن العام للخطر بإطلاقه تحية يرى منتقدوه أنها تنطوي على تلميح معاد للسامية”. الجزائر: حميد عبد القادر من أقوال ديودوني تلفظ بعبارات من قبيل “الحلف الأمريكي الصهيوني”، ومن قبيل كلمة “هاي إسرائيل”، مبرزة التحية النازية “هاي هتلر” في حصة تلفزيونية على قناة فرنسية. إسرائيل هي دولة عنصرية، كاذبة وتوسعية -صحيفة ألجيري باترويتك الإلكترونية. ساركوزي إرهابي والربيع العربي صناعة أمريكية فرنسية -خلال زيارته إلى مقر “الخبر”. حدثونا عن البطالة والأزمة الاقتصادية الفرنسيون يعارضون منع عروض ديودوني على غير العادة ومنذ بداية الزوبعة حول عروض الفكاهي المتمرد ديودوني مبالا مبالا، لم تمطر وسائل الإعلام الفرنسية متتبعيها بعمليات صبر الآراء خوفا من أن تكون نتائجها مشابهة لتلك المسجلة في شبكات التواصل الاجتماعي الرافضة في أغلبيتها لمنع عروض باسم حرية التعبير. قضية ديودوني هي أساسا قضية نخب ووسائل إعلام، وليس قضية رأي عام، فيكفي الإبحار على صفحات وسائل الإعلام الفرنسية باختلاف انتماءاتها العقائدية يمينا أو يسار، للوقوف على الهوة بين الحملة التي يشنها وزير الداخلية مدعما بالأرمادة الإعلامية وموقف الرأي العام الفرنسي. فعلى السؤال الذي طرحته أسبوعية “لوبوان” ويومية “لوفيغارو” على موقعيهما الالكتروني “هل توافق منع عروض ديودوني؟” ردّ ما يفوق عن 70% من المشاركين ب “لا”. وبرّر هؤلاء في تعليقاتهم على المواقع المذكورة وفي صفحات الفايسبوك ذلك بأن القضية تتعلق بحرية التعبير التي طالما كانت مقدسة في خطابات الساسة ووسائل الإعلام الفرنسية، ولم يتردد الكثيرون من فرنسيين أصليين وآخرين ذي أصول عربية في التذكير أنه كلما تم شتم الإسلام ورموزه كانت الطبقة السياسية تخرج ورقة “حرية التعبير”، فما الذي تغير حتى يصبح اليوم “احترام حرية التعبير” من آخر اهتمامات الطبقة السياسية الفرنسية؟. كما اعتبرت أغلبية أخرى أن القضية التي فجرها وزير الداخلية الفرنسي إمانويل فالس وركب موجتها الرئيس فرانسوا هولاند، ما هي إلا ذر للرماد على العيون لإحجام الحديث عن فشل الحكومة الفرنسية في توقيف نزيف البطالة الذي ينخر فرنسا. ففي إحدى خرجاته الميدانية منذ يومين، استوقف شاب وزير الداخلية إمانويل فالس ولامه قائلا “هناك أمور أكثر أهمية من قضية ديودوني، حدثونا عن الشغل”. الجزائر: فاروق غدير