بضعة أشهر فقط مضت على الجريمة البشعة التي امتزجت تفاصيلها بين النصب والاحتيال وبين الشعوذة باسم الرقية الشرعية، دارت وقائعها الخيالية والحقيقية بين القليعة والدواودة وفوكة بتيبازة، بطلها المدعو “الكوردونيي” بمعنى الإسكافي، ذلك المشعوذ الذي ارتدى لباس الرقية واختفى وراء مكنسة أوهم بها ضحاياه بأنه عامل نظافة، لتنكشف حقيقته بجريمة قتل اقترفها في حق من أحسن إليه. لم يكن الضحية “ع.ع” 55 سنة، المقاول المعروف لدى محيطه الجواري بحي “أو.بي.أل أف” بالقليعة، بالطيبة والهدوء، يتوقع أن يد الإحسان التي مدّها لمنظف الحي، ستقطع بسكين الغدر والخيانة، ولم يكن يتوقع أن شفقته على ذلك الشخص الذي قدم حديثا للعمل كمنظف للحي بحي “أو.بي. أل. أف” بالقليعة، ستقوده إلى الموت بأشنع الطرق. كانت البداية في شهر جانفي من عام 2012 حينما استقدم سكان عمارة “أو. بي. أل. أف” عامل نظافة جديد، الأربعيني الذي طالما حام حول الحي حاملا مكنسة ودلوا مجتهدا في إزالة النفايات وأوراق الأشجار المتساقطة، وبدا للسكان أن ذلك الشخص النحيف والأشعث، جدير بالبقاء في الحي مقابل إعانات مالية ومادية تجود بها أيادي وجيوب قاطني الحي الذين ألفوه بسرعة. وكان من بين هؤلاء المقاول “ع.ع” المقيم في الطابق الأرضي، والذي كان يرصد مجئ المنظف لحظيرة الحي في ساعات الصباح الباكر ولا يغادره إلا وترك زوايا العمارات نظيفة ومخضرَّة، كما كانت ملامح المنظف وأساليب المسكنة التي تظاهر بها للناس منذ قدومه، مثيرة لشفقة ورأفة المقاول الذي رقّ قلبه للعامل، خصوصا بعد علمه أنه يأتي كل صباح مشيا على قدميه انطلاقا من بلدية الدواودة إلى غاية الحي لجمع النفايات مقابل “مصروف اليد”، أما ملابسه الرثة وشكله الخارجي كانا سبيلين لرقة قلب المقاول “ع.ع” الذي سارع بحسن نيته إلى المنظف وصار يجالسه فور قدومه، وعرف منه كل تفاصيل الوضعية الاجتماعية التي يعانيها والتي استوجبت حصوله على الإعانة المادية والمعنوية، ثم توطدت العلاقة بينهما إلى حد تبادل المكالمات والزيارات.
جزاء سينمار يتكرر في القليعة استعطاف وصداقة ثم استدراج.. فجريمة يمكننا القول أن ما حدث ينطبق عليه المثل الشهير “جزاء سينمار” الذي قتل بعد أن بنى أجمل القصور لأحد ملوك الفرس.. كما لم يكن أحد من أقارب الضحية يعتقد أن يكون الجاني بهذا اللؤم الذي أنساه كرم وإحسان قتيله..في أوراق القضية ومحاضر التحقيق، نقرأ أن صداقة تكونت بين الجاني والضحية لأشهر متتالية، فقد كان المقاول خلالها بمثابة الأخ والمحسن، بينما كان المنظف يخفي بداخله ذئبا شرسا يستدرج ضحيته إلى مصرعها بكل هدوء، كيف لا وقد اطلع على خصوصيات صاحب المنزل الذي كان يبوح له ببعض أموره الشخصية، حينئذ خلع المنظف ثوب المسكنة، كاشفا للمقاول أنه راق شرعي وأنه عازم على رد الإحسان والجميل له للعائلة التي آوته وأعانته، وراح يلمّح له بقدرته على إخراج صديقه من دوامة المتاعب التي كان يواجهها في مجال البناء والتعمير، وما إن سمع الضحية الكلام الساحر “للراقي” حتى باح ببعض أسراره، منها أزمة مالية وديون غرق فيها بسبب تأخر ديوان الترقية والتسيير العقاري عن دفع مستحقاته، وكشف عن الوجه الآخر للمعاناة مع الديون التي تتراكم عليه. وبعد صمت طويل، طمأنه المنظف بكلام يوحي أن مفتاح الخروج من الأزمة بين يديه، ثم استدرجه إلى دوامة التمائم والطلاسم التي خطف بها عقل المقاول، وهكذا أصبح يمنحه قوارير مياه ظاهرها الرقية وباطنها الشعوذة ويأمره بشربها وأرشده إلى سكب كميات منها على باب منزله، وبهذا تمكّن من السيطرة على جميع تصرفات صديقه. ذات ليلة من شهر ماي 2012 اختلى “الراقي” بصديقه وأخبره أن كنوز من القرون الغابرة مدفونة في مزارع الدواودة، وأن الوصول إليها يمر حتما عبر استحضار الجن لكشف مكانها، وبهذه الخطة أصبح يتحصل على مبالغ مالية معتبرة يمنحها له الضحية لشراء العقاقير. مرت أسابيع وتضاعفت المبالغ التي تحصّل عليها “الراقي” دون أن يحين موعد استخراج الكنز الموعود، حينها بدأ المانح يستفسر عن سبب التماطل في إتمام الاتفاق وكله يقين بأن أزمته ستنفرج بفضل “الراقي” الذي كان يُبيَّتُ خطة للقضاء عليه.
التكنولوجيا تكشف القاتل لم تمض سوى ساعات حتى تعرّفت الشرطة القضائية لأمن دائرة فوكة، على مسرح الجريمة بعد بلاغ أهل الضحية بفقدانه، وذلك بفضل سلسلة التحريات وتتبع حركة هاتف الضحية الذي قاد أفراد الأمن إلى المزرعة، أين عثروا على المقاول جثة هامدة وسط أكوام القصب وبجانبه قارورة ماء بها بقايا الشراب المسموم وحزاما جلديا تركه الجاني على بعد أمتار من الجثة، فيما كان السفاح “الكردونيي” مختفيا في منزله، ظانا أنه بعيد عن العدالة، حيث لم تمض سوى 24 ساعة حتى تأكد المحققون أن مشعوذ الدواودة هو المشتبه فيه الرئيسي، فتمت محاصرة بيته القصديري ليومين متتاليين بعدما رفض الرد على الاتصالات، ولمَا انتبه لوجود غرباء يطوّقون الحي، أيقن بأن مخططه انكشف، فسلّم نفسه طواعية، معترفا بارتكابه للجرم، واتضح بأن عامل النظافة الذي ادعى ممارسة الرقية، ما هو إلا مجرم ومشعوذ بدليل عثور الشرطة داخل منزله على بعض أدوات السحر وسوائل ومواد صناعة التمائم وغيرها من المستحضرات الغريبة. وفور اقتياده لمركز الشرطة روى السفاح التفاصيل التي أوردناها والتي نقلناها عن الضباط الذين عالجوا القضية وعن مصادر أخرى قريبة من الملف. تفاصيل أخرى سردها ضابط الشرطة الذي أشرف على التحريات الأولية ، فقال بأن الجاني ماكر في التخفي وراء مظهر يثير الشفقة، وبما أنه مبحر في عالم الطلاسم والغيبيات، استحوذ على عواطف الرجل الذي انساق تماما لأكاذيبه التي طمست عينيه وسيطرت على تصرفاته في لحظة ضعف. كانت جلسة محاكمة القاتل بجنايات مجلس قضاء البليدة عصيبة على أفراد عائلة الضحية، خصوصا لدى سماعهم للرواية التراجيدية التي جاءت على لسان “الكوردونيي” “خائن الثقة ونكار الملح”، وكان مصيره حكم بالإعدام أصدره القاضي الذي كانت تستوقفه صرخات أبناء الضحية الذين تمنوا لو يتم تمكينهم من تنفيذ العقوبة على مزهق روح والدهم. أفادت مصادر محلية ل”الخبر” بأن الجاني البالغ من العمر 43 سنة، أقدم على محاولتي انتحار داخل المؤسسة العقابية بكل من البليدة والبرواڤية ندما وحسرة على ما اقترفته يداه، علما أنه ترك ضحايا آخرين وهم أبناؤه الصغار بين أسوار كوخ وضيع لا يقي من حر ولا من برد.
نية وسذاجة الضحية تقودانه إلى حتفه وأخيرا، خطط المشعوذ لقتل الضحية خوفا أن يتفطن لأكاذيبه، حيث اتصل به على التاسعة من مساء يوم 25 ماي، وطلب منه الحضور إلى مدينة الدواودة، ثم التقيا في المقهى المقابل لمتوسطة محمد خيضر وأخبره بحلول الموعد المتفق عليه، وقبل أن ينطلقا صمت “الراقي” ثم أمر صديقه بترك سيارته ومرافقته مشيا على الأقدام إلى مكان تواجد “الكنز الموعود”، ووجهه إلى المشي أمامه بعدة أمتار، فاستجاب المقاول لجميع التوجيهات، وفي طريقهما سارع “الراقي” إلى محل واشترى قارورة ماء معدني من علامة “إفري”، وعند التفات الضحية نحو الأمام قام المشعوذ بحشو القارورة بكمية من سم الفئران، ثم استوقفه وطلب منه أن يشربها، مؤكدا له أنه شراب يحتوي على أسرار تمكّنه من مقاومة الجن المحيط بالكنز، لستلم الضحية القارورة وهو شارد الذهن، فتناول بعض الجرعات، لكنه لم يستسغ مرارة المشروب، لكن مرافقه أرغمه على إتمام النصف، ثم واصلا مسيرهما قبيل غروب الشمس، إلى غاية مزرعة قدور بن يوسف المؤدية نحو بلدية فوكة، وبعدما توغّلا بحوالي 50 مترا داخل المزرعة سقط الضحية من شدة الألم. غادر المشعوذ المكان تاركا صديقه يصارع الأوجاع، وتوجّه مسرعا إلى وسط المدينة أين كانت سيارة الضحية مركونة في مكانها ففتحها واستولى على مبلغ 15 مليون سنتيم، وقبل أن يختفي، تفطّن إلى غياب هاتف الضحية، فعاد مهرولا إلى مسرح الجريمة بغرض الإستيلاء على الجهاز النقال، وعند اقترابه من الجثة وجد الضحية لا يزال على قيد الحياة يصارع الموت، فقام الجاني بسل حزام سرواله وأجهز عليه خنقا، ثم أخذ الهاتف وانصرف تحت جنح الظلام.