منذ احتلال بريطانيالفلسطين، وإعلانها تحت الانتداب البريطاني سنة 1916، ثم تقديمها وعد بلفور المشؤوم سنة 1917 للعصابات والحركة الصهيونية، بتمكينهم من إقامة وطن قومي لليهود فوق أرض فلسطين، كان قطاع غزة (بمساحته الأصلية المعروفة 550 كلم مربع) الحاضنة الأساسية للثورة الفلسطينية الحديثة والمعاصرة، منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها بشكلٍ منظم سنة 1916 على يد الشيخ عز الدين القسّام والمئات من علماء الدين وقادة الجهاد المقدس في فلسطين وبلاد الشام، ومنذ الثورة الفلسطينية الكبرى التي تفجرت سنة 1935 بقيادة الشيخ القسّام، ثم الموجة الثانية من الثورة الفلسطينية الكبرى عقب استشهاد الشيخ القسّام في شهر نوفمبر/ تشرين ثاني 1935، بقيادة رفيق دربه، ونائبه في قيادة (الجهادية)، الشيخ الشهيد فرحان السعدي والتي استمرت طيلة سنة 1936، ثم لتتوالى الثورات والهبّات وموجات المقاومة بقيادة الشيخ الشهيد نمر السعدي، ثم الشهيد الشيخ أبو إبراهيم الكبير، وغيرهم الكثير من رفاق درب الشهيد الشيخ القسّام الذين تولوا تباعاً قيادة المقاومة والثورة الفلسطينية من شمال فلسطين حتى جنوبها، إلى أن تولى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وقائد (الجهاد المقدس) الشهيد عبد القادر الحسيني قيادة المقاومة والثورة الفلسطينية، حتى جاءت النكبة الكبرى لتكرّس حالة التخلي والانكسار والتراجع العربي/ الإسلامي عن فلسطين وشعبها المظلوم، الذي بقي يقاتل وحيداً، طريداً، عقب نكبتي 1948 و1967، ثم نكبة الخروج الفلسطيني من الأردن سنة 1970، وتبعتها نكبة الخروج الفلسطيني من لبنان سنة 1982، لتتوالى المذابح والنكبات التي تلحق بالشعب الفلسطيني تباعاً. ورغم حجم ما قدّمه الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والمنافي من تضحيات هائلة لا يمكن لشعب من شعوب الأرض احتمالها في مواجهة احتلال عنصري إحلالي، إلا أن قطاع غزة بقي على مدار التاريخ الفلسطيني هو الخزان البشري الذي يمد الثورة الفلسطينية في كل مراحل موجاتها المتتالية بالطاقات البشرية والكوادر والإمكانيات والقيادات، والتضحيات التي لا حدود لها. وقد سطرت غزة في مواجهة العدوان الصهيوني الأخير (تموز/يوليو- آب/أغسطس 2014) مرحلة جدية ومهمة في التاريخ الفلسطيني والعربي عموماً، وفي تاريخ الثورة الفلسطينية خصوصاً، رغم أن التضحيات التي لا يمكن لشعبٍ من الشعوب احتمالها، فكيف بقطاع غزة المحاصر، الشريط الساحلي الصغير، والذي قضم العدو جزءاً كبيراً من مساحته، فأصبحت مساحة القطاع، إثر نكبة 1948 محكوماً بما تم الاتفاق عليه خلال ”مفاوضات الهدنة” بين مصر والكيان الصهيوني برعاية الأممالمتحدة، وما عُرف حينها بأنه ”علامات تحديد خط الهدنة”، وهو ما عمل الاحتلال على ترسيخه من خلال ”خطة الانسحاب الأُحادي” سنة 2005، فأصبحت المساحة الحالية للقطاع فقط 360 كلم مربع، وبهذا يكون الاحتلال قد صادر من أراضي القطاع ما مساحته 190 كلم مربع. ولكن القطاع البطل تصدى للعدوان الصهيوني ببطولة فريدة ومتميزة. ورغم كثافة حجم النار التي استعملها العدو الصهيوني في عدوانه البربري ضد القطاع، واعتماده على أسلوبه ومخططه القديم/ الجديد ”الأرض المحروقة”، لإيقاع أكبر خسائر ممكنة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، ودفعهم للفرار من الموت إلى الموت، ما جعل الخسائر هذه المرة في صفوف أهالي القطاع كبيرة للغاية، وحوّل العدو قطاع غزة إلى كتلة من اللهب والدمار والخراب والموت، وكان المشهد في غاية الصعوبة والقسوة والتعقيد. ولقد بات واضحاً أن ما قام به العدو الصهيوني المجرم، من عدوان نازي ضد شعبنا الفلسطيني، كان عملية إبادة منظّمة، وقتل جماعي، وحشية، بربرية، مجازر بشعة، قصف، حرق، تدمير، حالة من الجنون الصهيوني صبت حممها على امتداد قطاع غزة، من رفح جنوباً حتى بيت حانون شمالاً، وأصيب جيش العدو بالهستيريا والجنون، ما تسبب بسقوط آلاف الشهداء والجرحى، وأصبح الموت والحياة متساويين في قطاع غزة، ولم يعد هناك فرق بين أن تعيش، أو أن تصاب بجراح، أو أن تستشهد، فالشهادة نصر وكرامة وعزة، واستمرار الحياة في ظل هكذا وضع، الذي هو من أصعب ما يمكن أن يتخيل الإنسان أو يتوقع، ولذلك مجرد البقاء حياً للفلسطيني في قطاع غزة، الذي أصبح اسمه رديفاً للموت والشهادة، هو انتصار، وإحساس عميق بالفخر والكرامة والعزة والنصر، وأما الشهادة فهي أمنية كل فلسطيني؛ أولاً ابتغاء مرضاة اللّه، وثانياً دفاعاً عن شعبه وأرضه، ومن أجل تحرير وطنه، وحماية قضيته، وثالثاً للحاق بمن يحب من أهله وأقاربه وأصدقائه الذين سبقوه بالشهادة، والنبي الأعظم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والصحابة (رضوان اللّه عليهم) والصديقين والشهداء والأنبياء، وحسن أولئك رفيقا.. **** غزة الرائعة الصغيرة بمساحتها الجغرافية/ الكبيرة ببطولتها بتضحياتها، المحاصرة/ الصامدة، تعيش الآن أصعب اللحظات والأيام، بين الألم والأمل، تتناثر فيها دموع الثكالى والأيتام والمكلومين ساخنةً، بعضها ألماً من شدة الوجع، وبعضها أملاً في صناعة مستقبلٍ أفضل للشعب الفلسطيني. وبينما إخوانهم المسلمون والعرب يقضون وقتهم في شراء الملابس الجديدة لأبنائهم، فإن أهل غزة، وبعد أن يتوقف العدوان الصهيوني الإجرامي، فسوف يخرجون من بين الدمار والخراب والركام، وبقايا بيوتهم ومساجدهم، يبحثون عن (أكفان نظيفة)، ومساحة من القبور ليتمكنوا من دفن شهدائهم فيها، لأن غزة لم يعد فيها مساحةً من الأرض، تكفي قبوراً لشهدائها!! غزة.. صبراً يا عنوان عزة وكرامة الأمة، يا درة العالم، يا أطهر البشر، ويا أشرف الناس، وأروع الناس، وأعظم الناس، وأطيب الناس، وأكرم الناس، صبراً أهل غزة.. صبراً.. صبرا، فقد اقتربت تباشير الفجر، وموعد النصر والحرية.. لك اللّه يا غزة، فأنت كربلاء عصرنا، وها هو الإمام الحسين بن علي يذبحُ من جديد في فلسطين، وغزة على يد جيش العدو الصهيوني، المدعوم من الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن الغرب الصليبي الحاقد، وأمام صمت الضمير الغربي والعالمي، وصمت غالبية الأشقاء العرب والمسلمين!! يا اللّه كن مع غزة، فلم يبق أحد أعرفه، قريبٌ، أو صديق، أو نسيب، أو جار، أو زميل دراسة، وزميل عمل، أو زميل سجن، إلا وإما استشهد، أو أصيب، أو استشهد أو أصيب له قريب من الدرجة الأولى، أو قصف بيته، أو بيت جيرانه، أو أنسبائه، وقد فُجعنا في الكثير.. الكثير من أقاربنا وأصدقائنا وأنسبائنا ومعارفنا وأحبابنا وزملائنا، وفاقت صعوبة الوضع كل القدرة على الوصف، ولا نقول إلا الحمد للّه على كل حال، والحمد للّه على نعمة الرباط والجهاد فوق أرض فلسطين، ونعمة الصبر، ونعمة الابتلاء. ولقد أثبت الشعب الفلسطيني أن قدرته على الصبر والتحمل تفوق قدرات جميع شعوب الكرة الأرضية، ولكن حزن شعبنا أيضاً يفوق الحزن الذي عرفته كل شعوب الكرة الأرضية. ورغم أن ما يحدث من عدوان صهيوني إجرامي هو عبارة عن (عملية إبادة منهجية منظمة) ضد شعبنا الفلسطيني الصامد البطل، ورغم الخسائر الهائلة والتضحيات العظيمة، إلا أن شعبنا يقف خلف المقاومة الفلسطينية الباسلة دون أدنى تردد، فهي التي مرّغت أنف العدو الصهيوني في الوحل، واستطاعت أن تجعل العدو الصهيوني يقفُ مذهولاً أمام الإنجازات والعمليات الفدائية النوعية، والبطولة الباهرة للمقاومين الفلسطينيين. وسيبقى شعبنا صامداً أمام العدوان الصهيوني الوحشي الهمجي. ورغم الصمت العربي/ الإسلامي، والدعم الأمريكي/ الغربي للعدو، سيكون النصر حليف شعبنا ومقاومته الباسلة. وليسمح لي كل المقاومين الأبطال في ساحة المعركة والمواجهة والصمود بتقبيل رؤوسهم وأياديهم الطاهرة، ومسح غُبار أحذيتهم، فأنتم يا أحبابنا مَنْ تصنعون لنا عزتنا وكرامتنا، وتزرعون الأمل والتفاؤل والفرح بداخلنا. ولقد فرض الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، والنجاحات والعمليات البطولية للمقاومة الفلسطينية، في مواجهة العدوان الوحشي، على الجميع أن يعيدوا صياغة حساباتهم. وكان التطور النوعي في الموقف السياسي الفلسطيني، الداعم للمقاومة ولصمود شعبنا البطل في قطاع غزة، ذلك الخطاب الناري للرئيس الفلسطيني محمود عباس مساء يوم الثلاثاء 22/7/2014، وهو الخطاب الذي كان جميع الفلسطينيين ينتظرونه منذ الثانية الأولى للعدوان على غزة. نعم هذا الخطاب المسؤول، والموقف الثوري/ الوطني/ الوحدوي/ الجريء، هو الموقف المطلوب، ليقف الفلسطينيون صفاً واحداً في مواجهة العدوان الصهيوني، وجرائم العدو. وكان مهماً للغاية توحيد الموقف الفلسطيني والصف، وتوحيد الأداء وتكامله، خصوصاً في ظل العمليات النوعية والبطولية للمقاومة الفلسطينية الباسلة، التي استطاعت أن تمرغ أنف العدو الصهيوني في الوحل. وبهذا الخطاب التاريخي للرئيس أبو مازن تكامل الفعل الشعبي مع نجاحات المقاومة في التصدي للعدوان، مع الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية التي تسعى لوقف العدوان الصهيوني، وتحقيق كافة مطالب المقاومة والشعب الفلسطيني بالتنسيق مع القيادة المصرية. وكان التطور الهام الثاني على مستوى الأداء السياسي الوحدوي الفلسطيني، والذي ساهم في إرباك مخططات العدو، هو إعلان الرئيس الفلسطيني أبو مازن عن تشكيل وفد فلسطيني موحد يمثل السلطة الوطنية الفلسطينية وكافة فصائل المقاومة، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتكليفه بالذهاب إلى القاهرة، لقيادة المفاوضات الماراتونية غير المباشرة مع الوفد الصهيوني برعاية وضمانة مصرية ل«إعلان التهدئة وقف العدوان الصهيوني”، خصوصاً أن العدو سعى، وبشكلٍ مقصود ومبرمج في عدوانه الوحشي، إلى استهداف المدنيين الأبرياء العزل، بطريقة غاية في البشاعة والوحشية، والتي كانت ”مجزرة الشجاعية” شرقي مدينة غزة، ثم بقية المجازر في خزاعة، وبيت حانون، والقرارة، ورفح وغيرها من المناطق، أحد الدلائل الحية الواضحة على هذه الوحشية الصهيونية. في حي الشجاعية الذي كان هدفاً لوحشية العدو، وطيلة الساعات المريرة التي كان جيش الاحتلال الصهيوني يحاصر فيها حي الشجاعية (الضاحية الشرقية لمدينة غزة)، كان سكان الحي المحاصرون في منازلهم، بسبب القصف المدفعي والجوي الصهيوني المجنون، يوجهون النداءات تلو النداءات للمؤسسات الإنسانية والدولية والصليب الأحمر الدولي للتدخل لإنقاذهم من حمم الموت التي تدمر البيوت والمنازل والمساجد والملاجئ فوق رؤوسهم، ورؤوس أطفالهم، وذلك منذ أن أعلن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، يوم الخميس 17/7 /2014 عن بدء الحملة البرية في محاولة مجنونة لتحقيق أي نصر معنوي، أو عسكري، أو ميداني على المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي استطاعت أن تحقق صموداً بطولياً، ونجاحات ملموسة، وتنفذ عمليات نوعية في مواجهة العدوان الصهيوني الجديد على قطاع غزة، الذي بدأ يوم الأحد الدامي 6/7/2014. وهذه هي الحرب الصهيونية الرابعة على قطاع غزة خلال ثمانية أعوام، وبمعدل حرب على غزة مرة كل عامين. وإثر محاولات العدو المستميتة للتوغل البري شرق حي الشجاعية، منذ مساء الخميس 17/7، استعمل سياسته وخططه القديمة/الجديدة في العدوان (سياسة الأرض المحروقة)، فاستهدفت حمم مدفعيته بقصف عشوائي، إجرامي، ومجنون غالبية بيوت حي الشجاعية، ومدارسه، ومساجده، ومستشفياته، والمحال والمراكز التجارية، والورش الصناعية، بينما استهدف طيرانه الحربي من طراز f15 وf16، والطيران المروحي من نوع أباتشي، وطائرات الاستطلاع دون طيار الهجومية، كل شخص يتحرك في أي حي أو شارع، أو منطقة، أو حتى داخل ساحة أي منزل. كما تم استهداف كل سيارة إسعاف أو دفاع مدني أو إطفاء، حاولت التقدم لانتشال الجرحى والشهداء، وإخلاء المدنيين الذين يستنجدون بهم، لإنقاذهم. وشهد الحي حالة جنونية من القصف والقتل والتخريب والتدمير الصهيوني لكل شيء، بشكلٍ لم يسبق له مثيل من قبل. وفي ظل حمم الموت التي تساقطت بشكلٍ متواصل فوق رؤوس النساء والأطفال والرجال والشيوخ، والمرضى والعجزة والمسنين، حتى ”مستشفى الوفاء” لرعاية العجزة والمسنين وتأهيل المعاقين، شرقي حي الشجاعية، تعرض هو الآخر للقصف مرات عدة، واستشهد وجرح فيه العشرات من المعاقين والمرضى والمسنين والعجزة والممرضين والأطباء والعاملين، إلى أن اضطرت إدارة المستشفى لإخلائه بالكامل من المرضى والطواقم الإدارية والطبية والإسعافية، واستطاعت هيئة الصليب الأحمر الدولي عمل تنسيق خاص لإخلاء المستشفى ظهر الخميس 17/7، لتواصل لاحقاً قوات العدو البرية وطائراته الحربية قصف المبنى، حتى تم تدميره كلياً، وتمت تسويته بالأرض يوم الأحد. ومع هذه الصورة المأساوية للعدوان الصهيوني، الذي استهدف حي الشجاعية وكافة أحياء مدينة غزة، وكافة مدن ومخيمات وبلدات وقرى قطاع غزة، كانت النداءات والمناشدات من الأهالي، ومن المؤسسات الطبية الفلسطينية، وخصوصاً الهلال الأحمر الفلسطيني، والدفاع المدني الفلسطيني، والصليب الأحمر الدولي، تتوالى من أجل السماح لهم بإخلاء المدنيين من كافة المناطق المستهدفة بالقصف الصهيوني البري، البحري، والجوي، وعلى وجه الخصوص حي الشجاعية الذي بات واضحاً أنه يتعرض لعملية إبادة منهجية من قوات العدو، ولكن كل تلك النداءات ذهبت بلا جدوى.. إلى أن انتهت قوات العدو من مهمتها في ارتكاب مذبحة بشعة في حي الشجاعية، لا تقل بشاعة عن مجزرتي صبرا وشاتيلا الشهيرتين، فسمحت قوات العدو بهدنة إنسانة لمدة ساعتين فقط!! لتقوم الهيئات الإنسانية الفلسطينية والدولية بإخلاء المدنيين والجرحى وانتشال الشهداء، ولكن المشهد كان أصعب كثيراً من أن يحتمله العقل الإنساني، فهذا الحي العتيق تمت إبادته بشكلٍ شبه كاملٍ، كانت الصورة أصعب من أن تستطيع الكلمات وصفها. ورغم ذلك فلسان حال جميع الفلسطينيين، جماهيراً ومقاومة: (نحن الدم الفلسطيني المبارك، الذي هزم وسيهزم ويكسر سيف الاحتلال، وسوف ينتصر الدم الفلسطيني على السيف)، وستبقى غزة على الدوام هي كربلاء العصر، بينما أصبحت المجازر والمذابح الفلسطينية، مثلما تنبأ شاعر فلسطين محمود درويش: هوية عصرنا حتى الأبد. انتهى *سياسي ومؤرخ فلسطيني وخبير إستراتيجي رئيس تيار الاستقلال الفلسطيني، ومركز القدس للدراسات والإعلام والنشر- غزة/ فلسطين