دخلت أقطاب المعارضة في عملية “كسر العظام”، ولكن ليس لإضعاف السلطة ودفعها لتقديم تنازلات باتجاه تحقيق “التغيير” في البلاد، وإنما لكسر المبادرات السياسية التي اقترحتها أحزاب المعارضة، سواء كانت مبادرة الانتقال الديمقراطي أو مبادرة الإجماع الوطني، من خلال عمليات إطلاق النار الجارية بين التنسيقية وبين الأفافاس وما تخللها من اتهامات تصب في نهاية المطاف في خدمة أجندة السلطة التي نجحت في إيقاظ الفتنة النائمة. فهل بمقدور المعارضة التأثير في السلطة، بعد تفرقها بين مبادرة الأفافاس والانتقال الديمقراطي؟ إن طفو هذه الخلافات إلى السطح قد يسهل أكثر على السلطة الالتفاف على المطالب السياسية للمعارضة وإجهاض كل المبادرات مثلما فعلته في سنوات فارطة، طالما أن الضغط على أصابع السلطة لم يرق إلى المستوى الذي يدفعها إلى بسط يديها كل البسط وعدم إبقائها مغلولة إلى عنقها. استعملت الغزل مع الأفافاس والرفض مع التنسيقية السلطة نجحت في إحداث الوقيعة بين أقطاب المعارضة
رغم أن مبادرتي الإجماع الوطني والانتقال الديمقراطي تتقاطعان معا في هدف واحد “تحقيق التغيير”، غير أن الخلاف بين التنسيقية والأفافاس، سار لفائدة السلطة التي نجحت في إحداث الوقيعة داخل صفوف المعارضة، بعدما أظهرت للعيان أن الأفافاس اقترب من السلطة أكثر من اقترابه من المعارضة. نجحت السلطة من وراء المواقف المؤيدة لأحزاب الموالاة لمبادرة الإجماع الوطني، من تجريم “الأفافاس” في عيون أحزاب المعارضة التي سارعت إلى إطلاق النار وإدارة ظهرها لحزب الدا الحسين، وهي بذلك اعتمدت في مواقفها الرافضة لما اقترحه الأفافاس على مقولة “إذا أردت قتل كلبك اتهمه بالجنون”، فأرادت وأد مبادرة “الإجماع الوطني” فقط لكون أحزاب السلطة رحبت بها، وهو ما رأت فيه تنسيقية الانتقال الديمقراطي بأنه سلوك فيه “إن”. فما ذنب الأفافاس إذا كان أول المرحبين بمبادرته بغض النظر عن محتواها، هي أحزاب السلطة؟ لقد أعطت قيادات المعارضة المنضوية في تنسيقية الانتقال الديمقراطي أو هيئة التشاور والمتابعة وحتى في قطب التغيير، الانطباع من وراء مواقفها إزاء مبادرة الأفافاس، بأنها ليست من أهل الحوار، بينما عكس ذلك نجحت السلطة، من وراء تعليماتها لأحزاب الموالاة بفرش الورود أمام الأفافاس، بأنها مستعدة دوما للحوار والتشاور بدليل قبولها التعاطي مع ما يقترحه أقدم حزب متمرس في المعارضة وخبرته فيها تفوق الخمسين سنة، رغم أن السلطة لم تقدم صكا على بياض لمبادرة الإجماع الوطني بقدر ما سعت لتكبيلها منذ البداية بشروط تعجيزية لإجهاضها في نهاية المطاف، بعدما تكون قد نجحت قبلها في تفريق صف المعارضة بجعل الأفافاس بمعية الانتقال الديمقراطي يفقدان ريشهما في صراع الديكة الذي انطلق بينهما. لقد ردت السلطة على لسان حزب الأفالان، بأنها ترفض طرح شرعية الرئيس بوتفليقة للنقاش، وبالتالي فهي رفضت تحقيق الإجماع الوطني الذي يريد الأفافاس الوصول إليه، غير أن هذا الرفض لم تتلقفه تنسيقية الانتقال الديمقراطي ولا قطب التغيير ولا هيئة التشاور والمتابعة للتقرب أكثر من الأفافاس وعدم قطع التواصل معه، بل رأت فقط في ترحيب أحزاب السلطة بمبادرة الإجماع الوطني دليلا كافيا على دخول الأفافاس في جيب السلطة، وهو ما أسماه أبو جرة سلطاني ب”الحكم على النوايا”. فما الذي ستكسبه قوى المعارضة في طلاقها مع الأفافاس؟ الأكيد أن الرابح الأكبر في ذلك هو السلطة التي قد تنجح في جلب أقدم حزب معارض في البلاد إلى ساحتها، أو على الأقل استعماله كمخلب قط لتقطيع صفوف المعارضة من وراء تأجيج القطيعة بين هذا وأولئك، بل حتى داخل التشكيلة الحزبية الواحدة، على غرار ما جرى داخل حركة حمس بين سلطاني ومقري. وفي آخر المطاف فإن السلطة، أي سلطة مهما كانت ديمقراطية ومتفتحة، ليس بمقدورها الإقدام على تقديم تنازلات لخصومها ما لم يشتد عليها الضغط القوي، وهو ما ليس متوفرا حاليا بعدما تحولت المعارضة إلى ما يشبه القطة التي تأكل أبناءها. الجزائر: ح. سليمان
بين الإجماع والتوافق تشتتت أصواتها وتفرقت صفوفها المعارضة تضرب نفسها بنفسها ترك تجمع “التنسيقية الوطنية للحريات والانتقال الديمقراطي” في جوان الماضي بزرالدة، انطباعا قويا بأن المعارضة بصدد تشكيل سلطة مضادة حقيقية ترعب النظام وتدفعه إلى تقديم تنازلات في المستقبل. لكن اتضح فيما بعد أن ذلك غير ممكن، طالما أن الأفافاس بقي خارج “السرب”. ثم تبين بعد الرمي بمبادرة “الإجماع الوطني”، إلى ساحة التداول، أن زعزعة النظام مستحيلة لأن شتات المعارضة لا يبدو أنه سيتلملم على المدى القصير. حصل نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على هدية من ذهب، عندما أطلّ عليه أقدم أحزاب المعارضة بأفكاره عن ندوة للإجماع تحضرها السلطة وممثليها الأفالان والأرندي، والمعارضة. فقد خفف عليه حزب رجل الثورة آيت أحمد ضغطا داخليا وخارجيا، مارسته عليه عدة أحزاب، خصوصا شريكه السابق حركة مجتمع السلم، وزاد على هذا الضغط صدور “كتاب أبيض” عن تزوير انتخابات الرئاسة التي جرت في أفريل الماضي، من توقيع شخص يعرف “المرميطة” من الداخل بحكم المسؤوليات التي كان فيها في عهد بوتفليقة. مبادرة الأفافاس، إن كان يصح تسميتها كذلك طالما أن لا أحد يعرف عن مضمونها شيئا، كانت بمثابة نفخة هواء لجماعة الرئيس. فقد جاءت في وقت تواجه فيه حرجا كبيرا بسبب شغور منصب الرئيس، بفعل عجز بوتفليقة عن الوفاء بأعباء رئاسة الجمهورية. بعبارة أخرى، تحرّك الأفافاس في الدقيقة التي كان ينبغي أن يتحرك فيها، بالنسبة للنظام، حتى ينقذه من ضغط اشتد عليه وكان ينذر بتصاعده مع الوقت. وبالمحصلة تلقي أعضاء “تنسيقية الحريات” ضربة في الصميم، بحكم أن أكثر الأحزاب راديكالية (حتى ماض قريب) ضد النظام، انسحب من “حظيرة” المعارضة مخلّفا تصدعا في صفوف التأمت حديثا. وما كان يشار إليه على أنه “أكبر تجمع للمعارضة منذ الاستقلال”، انتزعت منه قطعة أساسية ما أصاب “التنسيقية” بالضعف حتى لو رفض نشطاؤها التسليم بهذه الحقيقة. وقد أعطى الأفافاس الدليل على أنه يبحث عن إنقاذ النظام، عندما بدأ أول اتصالات في إطار الترويج ل«مبادرته”، بحزبي النظام. بل كان محتارا فيمن يبدأ باللقاء، الأرندي أم الأفالان. في البداية عقد موعدا مع حزب عبد القادر بن صالح ثم ألغاه فجأة تحت مبرر لم يقنع الأرنداويين، ففضل أن تكون البداية بحزب الرئيس بوتفليقة! وكان الأفالان أول من أعلن حضوره الندوة المفترضة! وبذلك منح الأفافاس شرعية للحجم الذي أخذته جبهة التحرير في البرلمان، كحزب صاحب الأغلبية، رغم أن الحزب الذي يسعى أن يكون وطنيا منذ 1963، ظل منذ 51 سنة وهو يشكك في نتائج كل الانتخابات التي جرت، ما عدا اقتراع 26 ديسمبر 1991 الذي حلّ فيها ثانيا من حيث الترتيب بعد الجبهة الإسلامية للإنقاذ. المشكلة بالنسبة ل«التنسيقية” أن الخلخلة التي عرفتها بسبب “مبادرة” الأفافاس، طالت حتى الحزب الذي يقودها وهو حمس. ففريق أمقران شريفي ومحمد نبو يعلم علم اليقين أن أبو جرة سلطاني ميّال إلى الأضواء ومنجذب إلى المنابر، فقدم له دعوة ل«الحوار” بمقره، ويعلم أيضا علم اليقين أن عبد الرزاق مقري سينفعل ويعلن براءته من تصرفات سلطاني. وكانت هذه هدية أخرى لا تقل أهمية بالنسبة لجماعة الرئيس، عن رفض الأفافاس الانخراط في “التنسيقية”. الجزائر: حميد يس
رئيس حزب الحرية والعدالة محمد السعيد ل”الخبر” ”المشككون في مبادرة الأفافاس ينطلقون من حساب خاطئ هو ضعف السلطة”
تميزتم في الفترة الأخيرة بفكرة إمكانية دمج مبادرتي الانتقال الديمقراطي والإجماع الوطني. كيف يمكن للمبادرتين أن تتكاملا عوض أن تتصارعا؟ القاسم المشترك بين أرضية تنسيقية الانتقال الديمقراطي ومبادرة جبهة القوى الاشتراكية هو المطالبة بضرورة التعجيل بالتغيير، الفرق بينهما يكمن أساسا في موقع السلطة منه: التنسيقية تقترح معايير وآليات كحكومة انتقالية توافقية ودستور توافقي، وهذا يعني ضمنا إحداث فراغ في السلطة لا أظن أن البلاد اليوم قادرة على تحمله بسبب هشاشة الاستقرار الداخلي وتوتر الوضع الإقليمي. وجبهة القوى الاشتراكية من جهتها تدعو أيضا إلى التغيير ولكنها لا تطرح آلية محددة وتترك ذلك - كما فهمت من قيادتها - لندوة التوافق الوطني التي تقترح أن تحضرها ثلاثة أطراف وهي السلطة والقوى السياسية والمجتمع المدني. هذا الطرح يتفق مع موقف حزب الحرية والعدالة الذي عبرت أمام ندوة زرالدة بالدعوة إلى اعتبار السلطة واقعا لا يمكن تجاوزه في أي مشروع للتغيير. فالمرحلة تستدعي إعطاء الأولوية للمّ الشمل وبناء جبهة داخلية قوية ومتماسكة، وتستدعي أيضا بناء توافق بين أطياف المعارضة قبل الحوار مع السلطة بلغة واحدة. أصحاب مبادرة الانتقال الديمقراطي يشككون في أهداف مبادرة الأفافاس، ويدعون السلطة الحقيقية إلى محاورتهم دون وسيط. هل لهذا الرأي وجاهة في اعتقادكم؟ بعض المشككين في مبادرة التوافق الوطني ينطلقون من حساب خاطئ وهو ضعف السلطة ويرون أن أصحاب المبادرة يريدون استغلال هذا الضعف قصد تحقيق مكاسب آنية، وكأنهم الأقوياء والسلطة هي العاجزة، وهذا غير صحيح في الوقت الحالي، لأن الضعف موجود في صف المعارضة مادامت منقسمة على نفسها وغير قادرة على تغيير ميزان القوة في الميدان، ولأن وسائل التغيير بيد السلطة: المؤسسات، المال، الإعلام، الإدارة، الأمن، الجيش، الجهاز الدبلوماسي.. والسؤال هو من المستفيد من إضعاف المعارضة للمعارضة؟ أليس من الأفضل للمعارضة العمل الجماعي حتى لو كان بقاعدة الحد الأدنى من التفاهم والتوافق؟. ما هي المخاطر المترتبة عن استمرار الخلاف بين أقطاب المعارضة أمام هدف التغيير الذي يبدو هاجس الجميع؟ إن الموقف يقتضي من المعارضة اعتبار الخلاف بين أطيافها استثناء وعدم الوقوع في فخ الذين تعودوا على الاصطياد في الماء العكر. يجب أن يكون هدفنا هو بناء أوسع توافق وطني ممكن لإعادة الثقة إلى المواطن في مؤسساته ومستقبله في كنف دولة يحكمها القانون وتحميها الأخلاق ويسودها العدل. إن التغيير لا يكون ناجعا بالمعطيات الراهنة إلا بالتعاون بين السلطة بوجهيها العسكري والمدني والقوى السياسية بجميع مكوناتها. فليس من مصلحة الحاكم العمل بقاعدة “الحوار مع من حضر” لأن مصير البلاد يهم الجميع، وليس من مصلحة المعارضة استمرار انقسامها بعد التئام شملها في زرالدة، لأن ذلك يمنح السلطة إمكانية البقاء، كما هو الحال اليوم، لاعبا وحيدا في الساحة. الجزائر: حاوره محمد سيدمو
أبو جرة سلطاني وزير الدولة السابق ل”الخبر” ”النخب الوطنية مغيبة وبإمكانها الجمع بين مبادرات المعارضة”
هل تعتقدون بإمكانية الجمع بين مبادرتي الانتقال الديمقراطي والإجماع الوطني، بدل المواجهة بينهما؟ ما تطرحه قيادة الأفافاس لا يتعارض مع أرضية الانتقال الديمقراطي، فالهدف المشترك هو الوصول الآمن لدولة الحق والقانون، والحفاظ على استقرار الدولة، وتغيير هذا الواقع بالحوار المباشر مع السلطة. صحيح أن للتنسيقية حق السبق في مشروع الأرضية، لكن ذلك لا يعني عدم الاستمرار في البحث عن المشترك الذي يكون بتوسيع فضاءات النقاش، حتى تكون المبادرات السياسية المطروحة بحجم الوطن وليس بحجم الجهات المقدمة لها. ولأجل أن تكون هذه المبادرات متكاملة، ينبغي التنبه في اعتقادي إلى أن هناك طرفا غائبا في هذه المعادلة وهي النخب الوطنية التي يفترض أن تكون عاملا مرجحا وجامعا للنقاش ورقما معمقا للأفكار المطروحة. أصحاب مبادرة الانتقال الديمقراطي يدعون السلطة الحقيقية إلى محاورتهم دون وسيط، ويشككون في أهداف مبادرة الأفافاس. إلى أي مدى تتوافقون مع هذا الطرح؟ محاكمة النيات تحت أي مسمى تؤخر الحلول المطروحة وتجعل الرأي العام يائسا من طروحات المعارضة. هناك إحساس عام بضرورة التغيير السلمي، لا يهم تسمياته بقدر ما تهم مقاصده وأهدافه، لأن الإبقاء على “الستاتيكو” الحالي مضر، وتبادل التهم لا يخدم طرفا، سلطة كان أو معارضة. كما أن الحوار عن طريق الوساطة أو تحت الطاولة أو الوكالة، يزيد من بعد كل طرف عن الآخر، ويُتفه المبادرات في نظر الرأي العام. المفروض أن تنفتح المعارضة على نفسها، وتنفتح السلطة بالمقابل على واقع التحولات الدولية والإقليمية والوطنية، وتتعامل مع المعارضة على أنها شريك في الوطن، يبصرها بعيوبها. من جانب آخر، أعتقد أن الأحزاب الموجودة في الحكومة هي جزء من السلطة، والحوار لا يكون مع الأجزاء ولكن مع رأس السلطة. مسمى “السلطة الحقيقية” هي الجهات التي تملك القرار وحق التعيين وإنهاء المهام، والحق أيضا في استدعاء الأحزاب والمنظمات والشخصيات، حول مشروع وطني يخدم المصلحة العامة. المعركة ليست بين أحزاب السلطة والموالاة، ولكنها في جوهرها بين أحزاب لا تملك برامج وتوجهات وبين أحزاب استطاعت أن تبلور رؤية للمستقبل. هل للسلطة مصلحة أو يد في الوقيعة بين أحزاب المعارضة وتشتيت صوتها؟ السلطة سلطة، واسمها مشتق من التسلط، لذلك هي تبحث عن نقاط الضعف في كل طرف لتستثمرها لصالحها، وما تقوم به حتى الآن هو سياسة إدارة الظهر لمطالب الجميع والتفرغ للمشكلات الطارئة والاهتمام أكثر بالاجتماعي على حساب السياسي، معتقدة أن المشكلة اجتماعية بالمطلق، وأنه لا توجد مشكلة سياسية تتطلب التفرغ لمعالجتها، على خلاف المعارضة التي ترى أن كل حل لا ينبثق عن هذا الأصل هو مضيعة للوقت وشراء للسلم وكلاهما سوف يزيد الأزمة تعقيدا. الجزائر: حاوره محمد سيدمو