“الشعلة الرمضانية” أو “نار المغرب”.. هي بكل بساطة نار يوقدها شخص ليعلن للناس في تلك القرى المترامية الأطراف هنا بجبل ياورير في ولاية باتنة عن دخول وقت غروب الشمس، ما يعني بالضرورة وقت المغرب والإفطار. هو سلوك لا يزال أهلنا هنا في قلب الأوراس محافظين عليه، متحدين التكنولوجيا وتقنيات الجيل الثالث والرابع في الاتصالات السلكية واللاسلكية.. يقولون إن علاقتهم الروحانية بشهر رمضان هي ذاتها بهذه الشعلة، وأنهم غير مستعدين تماما للاستغناء عنها. “الخبر” رافقت عمي الصالح المكلف بإشعال هذه الشعلة التي تكاد تضاهي الشعلة الأولمبية، بل الأخيرة لا معنى لها لدى السكان بمشتة طاقة أولاد بوعون التابعة إداريا لبلدية سريانة ما دامت “شعلتهم مشتعلة”. الشعلة تضاء على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر استفاد الأذان في التاريخ الإسلامي من العديد من المزايا والأفكار التي اهتدى إليها الإنسان تدريجيا عبر مختلف المراحل التاريخية التي شهدها الدين الإسلامي، فبعد أن كان الأذان في بداية الأمر يتم عن طريق وقوف المؤذن فوق سطح المسجد ويرفع صوته بالأذان، قدمت الهندسة المعمارية القِباب التي استخدمت كثيرا في الهندسة المعمارية الإسلامية لبيوت اللّه، وهذا من أجل أن يسمع الأذان أكبر عدد من المسلمين، مستفيدا بذلك من الارتفاع العالي لهذه القِباب، لتقتحم الأجهزة الكهربائية هذا المجال، وتقدم للمساجد ما يعرف بمكبرات الصوت والتي يصل صداها إلى عدد كبير جدا من المسلمين. لكن ورغم كل الذي سبق إلا أن هذه التكنولوجيا والمعدات الحديثة المستخدمة في سبيل تبليغ صوت الإسلام ومعه صوت المؤذن وقفت عاجزة أمام فكرة أقل بساطة وأكثر فاعلية، بل أكثر من كل ذلك لا تخضع للانقطاعات الكهربائية بتاتا، ولا تطلب ربطا بهذه الشبكات الحديثة تماما، ما يجعلها فكرة فريدة في العالم، إذ يتعلق الأمر بما يصطلح عليه ب«الشعلة النارية” التي تستخدم أساسا من أجل الإعلان عن موعد الإفطار في شهر رمضان. «الخبر” استفسرت عن خبر هذه الشعلة ومكان تواجدها، فوجدت الإجابة بقلب عاصمة الأوراس باتنة بجبل ياورير بمشتة طاقة أولاد بوعون التابعة إداريا لبلدية سريانة، بمحاذاة الطريق الوطني رقم 75 الرابط بين ولايتي باتنة وسطيف، وعلى ارتفاع 600 متر عن سطح البحر، وهي الميزة الأبرز لهذه الشعلة التي جعلتها تغطي أكبر مساحة جغرافية ممكنة. القصة تواصلت لقرن من الزمن استقبلنا عمي الصالح بمسجد الرواقد بحوالي نصف ساعة قبل أذان المغرب، وعمي الصالح هو المسؤول عن إشعال نار المغرب، لنطلب منه الصعود ومعايشة الظاهرة في أول أيام شهر رمضان، وهو ما وافق عليه بصدر رحب، ولم تطل المدة حتى بدأ في تجهيز الوسائل الخاصة بهذا “الحدث”. ويتعلق الأمر بوسائل بسيطة للغاية تتمثل أساسا في القداحة وقليل من مادة المازوت إضافة إلى التبن الذي قدّمه بعض فلاحي المنطقة من أجل هذا الأمر. وقبل ربع ساعة عن موعد أذان المغرب بدأت رحلة صعود جبل “ياورير”، وبالضبط إلى غار ياورير الذي يعد منطقة العمليات الخاص بإشعال نار المغرب، ولم يدم الأمر طويلا حتى رُفع أذان المغرب ومعه رُفع دخان نار هذه الشعلة إيذانا بوقت الإفطار، حيث شاركْنا عمي الصالح الإفطار في أول أيام رمضان بجبل ياورير وعلى الارتفاع ذاته. استفسرنا عمي الصالح عن الانطلاقة الأولى لهذه الفكرة، فأجابنا بأننا محظوظون جدا كوننا نشهد مرور 100 سنة عن أول شعلة، ويرجع ذلك إلى سنة 1916، وخلال هذه السنوات الطوال تداول على هذه الشعلة خمسة أشخاص، بمعدل 20 سنة لكل شخص، وهم على التوالي: راقدي محمد الطاهر، مقواس مسعود، مقواس مرزوق، بومجان محمد وأخيرا راقدي الصالح. مضيفنا أن الفكرة بدأت بعد ملاحظة عدم وجود وسائل إخبارية بموعد الإفطار خاصة في شهر رمضان، وكذا بعض المواعيد الدينية المهمة مثل عيد الفطر الذي كان يجهل السكان المحليون بتاريخه، إذ لا يتحصلون عليه إلا بشق الأنفس، حتى يأتي أحد “المخبرين” كما يُلقب محليا من قسنطينة ممتطيا جوادا ليخبر أعيان القرى والمداشر بذلك، إلا أن ذلك يتسبب في تأخير يصل إلى يوم كامل أحيانا، ما حتَّم إيجاد فكرة تواصلية أشمل وأسرع انتهت بفكرة “الشعلة الرمضانية”. وأضاف عمي الصالح أن الشعلة كانت من قبل تشعل أثناء أذان المغرب في شهر رمضان وصباح يوم العيد أيضا، أما الآن فقد أصبحت تقتصر على أذان المغرب من شهر رمضان فقط. الشعلة تضيء جبل ياورير المطل على 3 ولايات وساهمت العوامل الطبوغرافية بشكل كبير في وقوف هذه الشعلة الند للند أمام التكنولوجيا الحديثة، حيث إن موقع جبل ياورير وارتفاعه عن سطح البحر والأبعاد الخاصة به، حيث يبلغ طول الغار 15 مترا فيما يصل الارتفاع الخاص بمدخله إلى حوالي المترين، ما جعله يوسع من زاوية المشاهدة للسكان القاطنين بين بلدية عين جاسر إلى غاية مطار باتنة عرضا على مسافة مقدرة بحوالي 25 كلم، ومن الجبل إلى بئر الشهداء والمشيرة على مسافة 60 كلم طولا، واصلا بذلك ثلاث ولايات من الشرق الجزائري، هي باتنة وأم البواقي وميلة، وهي النقطة التي تتفوق فيها هذه الشعلة على مكبرات الصوت والتكنولوجيا بصفة عامة. ومن العوامل التي زادت من شهرة هذه الشعلة هو الإضافة النوعية التي جاء بها عمي الصالح عن سابقيه، والمتمثلة في نقل الشعلة إلى مكان أعلى عن السابق وبالضبط إلى غار ياورير، ولما استفسرناه عن سبب ذلك كان رد عمي الصالح أن هذه الإضافة جاءت لسببين، أولها: كلما زاد الارتفاع كلما زادت المساحة الجغرافية التي تغطيها ومعه تزيد نسبة الأشخاص الذين بإمكانهم رؤيتها، أما السبب الثاني فيعود إلى أن الغار وسيلة لحماية هذه النار من الانطفاء في حالات الاضطرابات الجوية وسقوط الأمطار أو الثلوج. وبالعودة إلى اسم ياورير أو ثاوريرث كما يطلق عليه باللهجة المحلية، نجد أن هذا الاسم يعني في اللغة الأمازيغية التجمع السكاني، وأشار أحد كبار السن والعارفين بخبايا المنطقة في السياق ذاته عن تفتيش الفرنسيين لهذا الغار في وقت سابق دون تحديد السنة بالضبط، حيث عثروا على عظام قديمة تم حملها معهم. وكشف عمي الصالح عن استغراب الكثير من الأشخاص لاستمرار مثل هذه الأمور، في عصر التكنولوجيا، في ظل تواجد وسائل الإعلام والاتصال كالمذياع، والهاتف والتلفاز، ليرد عليهم دائما بأن كل هذه الأمور من الممكن أن تتعرض لأخطاء تقنية أو تتأثر بانقطاع التيار الكهربائي، وهي الأسباب التي لا تؤثر إطلاقا على الشعلة، ما يزيد من فعاليتها وبقائها لسنوات أخرى. لشعلة الجبل قصصها الخاصة كما يحمل جبل ياورير عدة قصص تاريخية لا تزال مرتسمة في ذاكرة سكان المنطقة، أبرزها تلك التي عرفت استشهاد الشهيد شعبان بعد أن جرده المستعمر من ملابسه وأطلقوا عليه الرصاص ليستشهد في مكانه ويدفن هناك بالجبل، وسميت إحدى المناطق في هذا الجبل بغار شعبان نسبة له، كما تم اقتياد زميله إلى سريانة وقتله هناك، حسب مصادر محلية، كما كادت همجية المستدمر أن تتسبب في تحطيم الغار برمته وهذا بعد أن رأوا هذه النار، فظنوا أنها عبارة عن لغة رمزية بين الجنود الجزائريين، ليقوموا بإطلاق النيران عليه، وتعددت الأدوار الخاصة بالجبل حيث تحول الغار أحيانا إلى ملجأ للمواشي من الفيضانات التي شهدتها المنطقة بين الحين والآخر. وتعد قصة زوجة أحد الأئمة بالمساجد المجاورة للجبل، والتي لا تفطر إلا بعد رؤيتها لهذه الشعلة، من أبرز القصص التي توضح قصة العشق المتبادلة بين سكان المنطقة مع هذه الشعلة، بالإضافة إلى بعض القصص الطريفة التي وقعت به، مثل قصة قيام تلاميذ ابتدائية طوالي لخضر في سنوات سابقة بالذهاب إلى الغار بعد أن أخذوا معهم كميات معتبرة من المرطبات وهذا خفية عن أوليائهم، لكن هروبهم إلى الغار واعترافهم بفعلتهم بعد ذلك، جعل أحد المعلمين بالابتدائية ذاتها يصفهم ب«أصحاب الكهف”.