تكرّر في القرآن العظيم الكلام على حدود الله وتعظيم أمرها، فقال جلّ وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. الحدود جمع حدّ، والحدّ في اللّغة: الحاجز بين الشّيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يُقال: حَدَدْتُ كذا: جعلتُ له حدّا يميّز، وحَدُّ الدّار: ما تتميّز به عن غيرها، وحَدُّ الشّيء: الوصف المحيط بمعناه المميّز له عن غيره، وحَدُّ الزّنا والخمر سمّي به لكونه مانعًا لمتعاطيه من معاودة مثله، ومانعًا لغيره أن يسلك مسلكه؛ وسمّيت حدود الله لأنّها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها هو منها، ومنها سمّيت الحدود في المعاصي؛ لأنّها تمنع أصحابهما من العود إلى أمثالها. أمّا معنى حدود الله في الآيات؛ فقيل هي: شروطه، أيّ شرط الله سبحانه أنّه من يتجاوز حدوده الّتي حدّها لعباده، بأن أخلّ بشيء منها، فقد حمّل نفسه وِزرًا، وأكسبها إثمًا، وعرّضها للعقوبة والعذاب. وقيل: أحكامه. وقيل: حقيقة معانيه. وقيل: معاصيه. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: “أخبر تعالى عن متعدّيها بأنّه ظلم نفسه؛ للتّخويف؛ تحذيرًا من تعدّي هذه الحدود، فإنّ ظلم النّفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار؛ وذلك منه ظُلمٌ لها في الدّنيا بتعريض النّفس لعواقب سيّئة، تنجرّ من مخالفة أحكام الدّين؛ لأنّ أحكامه صلاح للنّاس، فمَن فرّط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها. ومنه ظُلمٌ للنّفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعّد به على الإخلال بأحكام الدّين.. فإنّ للمؤمنين حظًّا من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرّد العصيان، وجيء في هذا التّحذير بمَن الشّرطية؛ لإفادة عموم كلّ مَن تعدّى حدود الله..”. فالحارس لأحكام الشّرع هو الله القدير العليم. فأيّ مؤمن إذن يتعرّض لحدّ يحرسه الله؟! إنّه الهلاك والبوار.. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.. ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها، وهذا ظلم أيّ ظلم!!