وَردت هذه القاعدة في آيتين من آيات الذِّكر الحكيم {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة:229، {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الطلاق:1. وفي معنى {حُدُود الله} خمسة أقاويل: شروط الله، أو طاعة الله، أو سُنّة الله وأمرُه، أو فرائض الله، أو تفصيلات الله لفرائضه. أمّا معنى الآية العام: فالمراد أنّ هذه الأحكام الّتي بينها الله لعباده هي حدوده الّتي حدّها لهم، لا يحلّ لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها، ومَن يتعدّ حدود الله أي: يتجاوزها إلى غيرها، أو يخلّ بشيء منها فقد ظلم نفسه بإيرادها مورد الهلاك، وأوقعها في مواقع الضّرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعدّيه لرسمه. ثمّ إنّ إضافة الحدود إلى الله سبحانه للإشارة إلى أنّها فاصلة بين الحقّ والباطل والظلم والعدل، والمصلحة والمفسدة، ولتربية المهابةِ وإدخال الرّوعةِ في النّفوس. والآية تُقرّر قضية عامة [الآية جاءت بمَن الشّرطية لإفادة عموم كلّ مَن تعدّى حدود الله] في حقّ التّاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة، كما يقول الشّيخ أبو زهرة في تفسيره [مَن يترك أحكام الله سبحانه وتعالى الّتي شرعها في قرآنه، وبيّنَها على لسان نبيِّه الكريم، فإنّه بسبب تركه لها ظالم لنفسه، وظالم لجماعته، وظالم في الحكم بين النّاس]. وأيّ ظلم أعظم ممّن اقتحم الحلال، وتعدّى منه إلى الحرام، فلم يسعه ما أحلّ الله؟. نعم إنّ تعدّي حدود الله هو ظلم لنفس متعدّيها قبل غيره؛ ظلم لها في الدّنيا بتعريض النّفس لعواقب سيّئة تنجرّ من مخالفة أحكام الدّين؛ لأنّ أحكامه صلاح للنّاس فمَن تعدّاها فاتته المَصالح المقصودة منها، وظلم للنّفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعّد به على الإخلال بأحكام الدّين. بقي أن أشير إلى أنّ هذه القاعدة وَردت مرّتين في القرآن الكريم كلاهما في سياق الكلام على أحكام الطّلاق، وقد أشار الأستاذ الإمام محمّد عبده لسرّ من أسرار ذلك فقال: [والظُّلم آفة العمران ومهلك الأمم، وإنّ ظلم الأزواج للأزواج أعرق في الإفساد، وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرّعية، لأنّ رابطة الزّوجية أمتن الرّوابط وأحكمها في تلاقي الفطرة، فإذا فسدت الفِطرة فسادًا انتكث به هذا الفتل، وانقطع هذا الحبل، فأيّ رجاء في الأمّة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه؟ ثمّ إنّ هذا الظّلم ظلم للنّفس يؤدّي إلى الشّقَاء في الآخرة، كما أنّه مشقٍ بطبيعته في الدّنيا].