سُنّة الله في خلقه قضت بأنّ كلّ استعمار يقاومه الشّعب المستعمَر صائر إلى اضمحلال وبوار، فلا دوام له ولا بقاء له، وإن طال زمنه، ورجحت قوته العسكرية. وشواهد التاريخ على ذلك لا تعدّ ولا تحصى، وأكبر شاهد وأقربه ثورتنا التحريرية المظفرة. والغربيون -الأوربيون- يعرفون ذلك جيّدًا؛ ولذلك لمّا استعمروا الأمريكيتين وأستراليا حرصوا على إفناء شعوبها بوحشية لم تعرف البشرية مثلها! لأنّهم يعلمون علم اليقين أنّ الشّعب المستعمَر ما دام فيه عرق ينبض بالحرية، فسيأتي اليوم الّذي يثور فيه ويتأثّر، فأهلكوا شعوبًا وأممًا واستولوا على أرضهم وثرواتهم، وبها بنوا دولهم وامبراطورياتهم! الكيان الصهيوني يعدّ أبرز جيب استعماري صنعه الغربيون لتصدير مشكلة اليهوديّ الّتي كانت تؤرّق المجتمعات الأوروبية، فكان الحلّ الّذي سفرت عنه العقلية الاستعمارية الأوروبية هو إنشاء هذا الكيان الخبيث، فضربوا عصفورين بحجر: تخلّصوا من اليهود، وأوجدوا شرطيًّا مُطيعًا بالمنطقة! ومهما يكن فهذا الاستعمار الصّهيوني لا يخرج عن سنن الله في زوال الاستعمار وفناء المستعمِرين. بل إنّ زوال هذا الكيان قد تقرّر قبل وجوده في التّوراة [سفر أشعيا – سفر أرمياء] ثمّ في القرآن، وحسبك نبوءة يذكرها الله عزّ وجلّ في التّوراة ثمّ يكرّر إنزالها في القرآن الكريم أهمية وخطورة! هذه النبوءة العظيمة جاء ذكرها في سورة الإسراء الّتي تسمّى سورة بني إسرائيل أيضًا، يقول فيها الحقّ سبحانه: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}، فقوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ}، معناه: أعلمناهم وأخبرناهم بقضائنا النّافذ الّذي لا مردّ له فِي التوراة. فالكتاب هنا المقصود به التوراة إذ هو كتاب بني إسرائيل المنزل عليهم. والآيات واضحة في معناها؛ فهي تتكلّم عن حدثين هامين في تاريخ اليهود والمسجد الأقصى [الهيكل في زعمهم]، فيهما سُوء وجوههم، ودمار بيوتهم، وتسلّط عدوهم، وذلّهم وذهاب ريحهم وقوّتهم، بعد عُلوٍّ لهم وجبروت وإفساد في بيت المقدس وأكنافها. والّذي يهمّنا هنا هو أنّ المفسّرين قد اختلفوا في هاتين الإفسادتين، هل وقعتَا كلتاهما أم وقعت الأولى والثانية لم تقع بعد؟
تابعونا على صفحة "الخبر" في "غوغل+"
فأكثر المفسّرين القدامى وبعض المعاصرين منهم يرون أنّ هاتين الإفسادتين قد وقعتَا، وأنّ إحداهما كانت عند الأسر البابليّ، على يد بختنصّر [588 ق.م]، الّذي استولى على دولة بنى إسرائيل ودمّرها تدميرًا، وهدّم بيت المقدس، وساق اليهود أسرى إلى “بابل”، وبقيت أورشليم خرابًا يَبَابًا.. وأمّا المرة الثانية، فاختلفوا في تحديدها اختلافًا كبيرًا، فقيل: كانت بعد أن قتلوا النّبيّ “أرميا”، وقيل بعد أن قتلوا النّبيّ “يحي”..! وقيل بعد تكذيبهم عيسى عليه السّلام وتنكيلهم بأتباعه، فنكّل بهم الرومان، بدءًا بالقائد طِيطُوس [40 م] إلى الإمبراطور الروماني أدريانوس الّذي هدّم القدس، وخرّبها ورمى قناطير الملح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة [135 م]. ولكن ذهب كثير من المفسّرين المعاصرين إلى أنّ الّذي وقع هو أولاهما فقط، في الأسر البابلي مع بختنصّر؛ فهو الّذي وقع بعد عُلوّ لبني إسرائيل على فلسطين وإفسادهم فيها بعد موت سيّدنا سليمان عليه السّلام وانقسام مملكته العظيمة. ثمّ لم يُعرف لليهود علوٌّ كبير كالّذي ذكرته الآية في التّاريخ، حتّى تأسيس الكيان الصّهيونيّ الّذي علا علوّا كبيرًا بدعم بريطانيا وفرنسا عند تأسيسه، ورعاية أمريكا وروسيا وأحلافهم إلى يومنا هذا. وعاثوا في فلسطين فسادًا وإفسادًا؛ ولهذا قال هؤلاء المفسّرون: إنّ الإفساد الثاني هو ما تقوم به إسرائيل، فإسرائيل هي الّتي تقع عليها أوصاف الآية: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. فردّ الكرّة هو غلبتها، والمدد من الأموال والبنين هو الدّعم الغربي السّخيّ، ونفيرهم هو هذه الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. وهي المعنية بوعد الله لعباده المؤمنين: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا}. ومهما يكن فإنّ الله عزّ وجلّ ختم هذه النُّبوءة بقوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}، فسواء على قول مَن قال إنّ الإفسادتين وقعتَا، وعلى قول مَن قال وقعت إحداهما فقط، لا مهرب من حكم الله وقضائه: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، أيّ إن عدتم للإفساد عدنا لتسليط عبادنا عليكم.. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة “إسرائيل” الّتي علت علوّا كبيرًا وأفسدت إفسادًا عظيمًا. وليسلطنّ الله عليهم مَن يسومهم سوء العذاب، تصديقًا لوعد الله القاطع، وفاقًا لسُنّته الّتي لا تتخلّف.. وإنّ غدًا لناظره لقريب!! إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة