قدم المسرح الوطني، أمس الأول، بقيادة الفنان والمخرج المسرحي أحمد بن عيسي، العرض الشرفي الأول لمسرحية ”حب مفقود”، وتم اختيار مدينة قسنطينة التي تحتضن تظاهرة ”الثقافة العربية” لتكون المحطة الأولى للعرض المسرحي الذي حاول الغوص عميقا في التاريخ وقراءة ملامح حياة أشهر ملوك الدولة النوميدية. لم يكن عنوان المسرحية ”حب مفقود” يوحي بأن العرض قصة ترتبط فصولها بتراجيديا كلاسيكية تاريخية، إلى أن جاء المشهد الأول، حيث كان يتوسط خشبة المسرح ديكور بسيط يتكون من ممر وسلم صغير مزين ببساط أحمر، يعلو المشهد سماء وبحر شمال إفريقيا. يريد المخرج أن يقودنا إلى سحر العصر الذهبي لعهد الدولة النوميدية 260 سنة ق م، وسرعان ما بدأت تتضح ملامح تلك الحقبة مع صعود بطلة المسرحية، الممثلة الشابة فاطمة زايشي وهي تؤدي دور الأميرة صوفينيسيا. وبين حديثها مع وصيفتها ازلان التي أدت دورها الممثلة وهيبة باعلي، والملك صفاكس الذي أدى دوره الممثل عبد الله نميش، بات المشهد أمام ملحمة تاريخية ولكن بلهجة جزائرية خالصة غير تلك الملاحم والمسرحيات التي دأبت العروض على تقديمها باللغة العربية الفصحى.
بين العنوان المثير والألوان الباهرة، اختار كاتب النص، الباحث غربي عبد الكريم، للقصة منعرجا سرديا معتمدا على الحوار الذي كان متخما بالبحث الأكاديمي التاريخي، تارة يحدثنا عن تأسيس دولة نوميديا وتارة عن مطامع الرومان في شمال إفريقيا، ما جعل عملية المتابعة صعبة، وعقّد مهمة الأداء المسرحي أمام الممثلين الذين غرقوا في التركيز في النص وإلقائه دون أخطاء، على حساب الأداء إلى أن انفصل الجميع في قالب ”الراوي” الذي كان حاضرا دون مبرر حقيقي، في ظل الحوار السردي الذي كان يتلقفه الممثلون على الخشبة. تمضى ساعة من المسرحية ولم يبق أمام المتفرج إلا نصف ساعة أخرى كي يعرف النهاية، ولمن قرأ تاريخ قرطاج بلا شك كان يترقب كيف اختار أحمد عيسى تصوير مشهد انتحار الملكة صوفينيسيا، وهل يكتب لقصة الحب التي عادت لتجمع الملك ماسنس، الذي يعرف عندنا بالملك ”ماسينيسا”، أدى دوره الممثل كريم حمزاوي، أن تستمر؟ وكيف سيتحول مصير الدولة؟ هل ستستسلم أمام جيوش الرومان؟ كلها أسئلة حاول المخرج اللعب عليها والدفع بالجمهور نحو متابعة العرض بلهفة حتى النهاية، وتجاوز عقدة السرد ومتاعب السير وراء حوار مهزوم أمام قوة البحث الأكاديمي وديكور ثابت وبسيط، كان شاهدا على جميع فصول المسرحية، وجمع بين المعارك، لحظات الحب، وحدة الملكة، كان حاضرا وثابتا منذ البداية إلى درجة أنه يطرح السؤال: ”إلى هذا الحد لم تسمح ميزانية العرض بتقديم ديكور أفضل؟”.
أوحى غياب الممثل والمخرج أحمد بن عيسى عن العرض بأن توقيت تقديم المسرحية في إطار تظاهرة ”قسنطينة عاصمة الثقافة العربية” جاء بضغط من الإدارة، حيث كان يجب برمجة أي نشاط لسد الفراغ. بدت سلوكيات الإدارة ضد الإبداع أيضا واضحة، وهي تحاصر 25 ممثلا شاركوا في تجسيد العمل الضخم في وقت ضيق من التحضيرات وبإمكانات بسيطة عكستها ”إكسسوارات الديكور”. يبدو أن العزف على وتيرة الموضوع ذي البعد التاريخي المستمد من تاريخ مدينة قسنطينة وحكاية قصص أبطال المنطقة، كان الجزء الأهم في المشروع، فلم يكن الأساس تقديم العمل في ثوب عالمي يستحق تصفيقات الجمهور ويرفع سقف المنافسة عاليا، وهو ما لم يخفه مساعد المخرج، علي عبدون، الذي قال إنه وقف أمام ضيق الوقت، وقد اضطر في النهاية للاستغناء عن الديكور الأصلي للمسرحية واستبداله بآخر بسيط.
بلا شك، فإن العمل كان يقول الكثير وعلى جميع المستويات، ليس فقط الحكاية بل أيضا الأداء وتكريس عقلية ”العمل الاستعجالي”، ومن دفع ثمن ذلك أبطال المسرحية والممثلون الشباب في النهاية، بينما خرجت الممثلة وهيبة باعلي منتصرة في أدائها، فلم ينهكها النص ومنحها فرصة للظهور ممثلة تؤدي دور الوصيفة، ترقص، تغني، حزينة، مبتسمة، فيما منح الحضور القوي لكريم حمزاوي فوق الخشبة العرض جياشة القائد، ولم تتنفس شخصية صوفينيسيا الحياة، إلا بفضل جمال ملامح الممثلة الرئيسية فاطمية زايشي. يعتبر كاتب النص الأستاذ غربي عبد الحكيم، من جهته، أن أهم شيء في المسرحية هو أداؤها من قبل شباب لا يعرف جيدا ”التاريخ”، لهذا فقد كان الحل من جهته الاستعانة باللهجة الجزائرية لتقديم المسرحية بعيدا عن ”أيديولوجيات” الانحياز للغة العربية الفصحى، فقد حاول الكاتب تحرير اللهجة من عقدة التواصل، ومنحها فرصة لفتح ملفات التاريخ، ووضعها في حيز التفكير، كما أشار إلى أنه استعان ب25 مرجعا إغريقيا ورومانيا وكتب توفيق المدني، عبد الله المغربي وغيرهم، وقد اشتغل على تحويلها خلال مدة 18 شهرا إلى عمل مسرحي مكتوب، ومنه حاول تصحيح بعض المفاهيم الاستعمارية على سبيل المثال اسم القائد ”ماسنس” الذي ارتبط في مخيلة الجزائريين باسم ”ماسينيسا” وهو اسم خاطئ كما يقول غربي عبد الحكيم.