دعا الدكتور يوسف الخطيب، رئيس مؤسسة ذاكرة الولاية الرابعة التاريخية، السلطات الجزائرية لفتح قنوات رسمية مع الحكومة الفرنسية لاسترجاع رفات العقيدين الشهيدين، أحمد بوڤرة (سي امحمد) وجيلالي بونعامة (سي محمد)، اللذين لا يعرف لهما قبر، ضمن مسعى المؤسسة الرامي لحفظ الذاكرة التاريخية من النسيان وإعادة الاعتبار للشخصيات الثورية وتثمين معالم ورموز الثورة. ولهذا الغرض، وجهت المؤسسة عددا من المراسلات للسلطات الجزائرية لدراسة سبل استرجاع رفات الشهيدين، ودفنهما في أرض الوطن. تقدمت مؤسسة ذاكرة الولاية الرابعة التاريخية بطلب لوزارة المجاهدين بتاريخ 26 ماي 2014 ملتمسة دراسة سبل استرجاع رفات الشهيدين الرمز العقيدين أحمد بوڤرة وجيلالي بونعامة (سي محمد)، اللذين لا يعرف لهما قبر، بعد أن استشهدا في معركتين ضد العدو، وتمكنت قوات الجيش الفرنسي من نقل جثتيهما إلى مكان مجهول نظرا لمكانتهما في حرب التحرير، مثلما فعلت بعدد من قادة الثورة وأشهرهم العقيدين عميروش وسي الحواس، قبل نقلهما إلى مربع الشهداء سنة 1980. وكان العقيد أحمد بوڤرة قد استشهد يوم 5 ماي 1959 بمنطقة أولاد عشرة بالمدية، بينما استشهد العقيد جيلالي بونعامة بتاريخ 8 أوت 1961 بوسط مدينة البليدة، خلال معركة مع العدو. وجاء في بيان للمؤسسة، تحصلت ”الخبر” على نسخة منه، أن المؤسسة تسعى منذ فترات زمنية متعاقبة للبحث عن رفات الشهداء والعمل على تخليد مآثرهم، لاسيما المسعى المتواصل في المطالبة الرسمية باسترجاع رفات الشهيدين الرمز العقيدين أحمد بوڤرة وجيلالي بونعامة، وهما من القادة الذين أشرفوا على قيادة الولاية الرابعة في فترات مفصلية من مسار حرب التحرير.
وكانت المؤسسة التي يرأسها الدكتور يوسف الخطيب (سي حسان) الذي قاد الولاية الرابعة بين أوت 1961 إلى غاية الاستقلال، قد راسلت الحكومة الفرنسية في وقت سابق، وتلقت عقب ذلك ردا رسميا من طرف وزارة الدفاع الفرنسية سنة 2010، ويتضمن هذا الرد الرجوع إلى القنوات الرسمية للدولة الجزائرية لتمرير طلب استرجاع رفات الشهيدين اللذين لا يعرف لهما قبر لحد الآن. كما وجهت المؤسسة طلبات عديدة للرؤساء الفرنسيين المتتالين على الحكم بباريس، كان آخرها مراسلة الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا هولاند في إطار زياراته الرسمية للجزائر. والتمست المؤسسة من وزارة المجاهدين وبصفة رسمية اتخاذ ما تراه مناسبا وناجحا لبلوغ هذا الهدف، والمتمثل في استرجاع رفات الشهيدين. وفي رد من وزارة المجاهدين، جاء أن موضوع جثامين الشهداء الذين لا يعرف لهم قبر، وكذا المفقودين من مجاهدي حرب التحرير هو محل عناية ومتابعة، من خلال العمل الجاري لإحصاء المفقودين الشهداء مع السلطات الفرنسية المعنية. أما رد وزارة الدفاع الفرنسية فكان في سبتمبر 2010، وجاء فيه أن الحكومة الفرنسية تتقاسم مع المؤسسة ”روح المصالحة على مستوى الذاكرة الذي يشغل بال أعضائها”، كما جاء في الرد أن وزير الدفاع الفرنسي قرر إنشاء لجنة عمل تابعة لديوانه مباشرة، تعمل مع ممثلين عن الأرشيف الفرنسي للنظر في ملف رفات أحمد بوڤرة وجيلالي بونعامة، تقدم إجابة لاحقا. واعتبرت وزارة الدفاع الفرنسية أن بحث سبل استرجاع جثامين الشهيدين أحمد بوڤرة وجيلالي بونعامة، يشكل خطوة أولى نحو إيجاد إطار جديد للبحث عن جثامين مفقودين آخرين، وإيجاد علاقة ندية بخصوص هذه المسألة. أحمد بوڤرة.. عقيد في سن الثامنة والعشرين تشير المصادر التاريخية إلى أن العقيد أحمد بوڤرة المدعو سي امحمد كان قائدا نابغة، ترأس الولاية التاريخية الرابعة بعد أن غادر العقيد الصادق دهيليس مقر الولاية متوجها إلى تونس، وشغل منصب نائب العقيد هواري بومدين في الجبهة الغربية. وأشاد كثير من المؤرخين بالقدرات الثورية والسياسية لأحمد بوڤرة المولود سنة 1926 بخميس مليانة من عائلة محافظة متوسطة الحال، تابع تعليمه الابتدائي بالمدرسة الفرنسية، وحفظ القرآن الكريم. شارك ككل أبناء جيله في مظاهرات 8 ماي 1945، فألقي عليه القبض من طرف السلطات الفرنسية. عقب إطلاق سراحه، توجه سنة 1946 إلى تونس للدراسة بجامع الزيتونة. وإثر عودته تنقل إلى مركز التكوين المهني بالقبة وتعلّم حرفة التلحيم الكهربائي وتعرف على العقيد عميروش. انخرط أحمد بوڤرة في الكشافة الإسلامية الجزائرية وعمره 16 سنة، ثم انخرط في صفوف حزب الشعب سنة 1946، ثم بحركة الانتصار للحريات الديمقراطية. وفي هذه الفترة، انخرط في صفوف المنظمة الخاصة (لوس) باعتبارها الجناح العسكري لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، بفضل مؤهلاته الكشفية والعلمية، حيث استطاع خلال فترة وجيزة أن يصبح عضوا بارزا وترقى إلى منصب مسؤول عسكري سياسي بناحية الخميس. توصلت السلطات الاستعمارية إلى القبض عليه سنة 1950، وتم سجنه ثلاث سنوات، ليزداد تشبثه بالوعي الثوري، فانضم إلى الثورة بمجرد قيامها، فتقلد مهام مختلفة، حيث رقي إلى رتبة مساعد سياسي سنة 1955، ثم كلّف بمهمة الاتصال بين العاصمة وما يحيط بها. شارك في العديد من المعارك التي كانت الولاية الرابعة ساحة لها، وذلك في كل من (بوزڤزة، ساكامودي، وادي المالح ووادي الفضّة) وغيرها من المناطق الشاهدة على ما كان يفعله الشهيد ورفقاؤه، فرقي إلى رتبة رائد، وهذا ما أهَّله لأن يحضر مؤتمر الصومام المنعقد في 20 أوت 1956 الذي كان فيه ”سي امحمد بوڤرة” واحدا من الفاعلين الحقيقيين في صنع أحداثه، وتحديد وتوجيه مسار التنظيم السياسي والعسكري للثورة عبر التراب الوطني، وعين خلال المؤتمر مسؤولا سياسيا، وعضوا في مجلس الولاية الرابعة. وفي سنة 1958، رقي إلى رتبة عقيد قائدا للولاية الرابعة.
استشهد العقيد سي امحمد بوڤرة يوم 5 ماي 1959 بجبال أولاد بوعشرة جنوب غرب المدية، بعد وقوعه رفقة مجموعة من جنوده في اشتباك غير متكافئ مع القوات الفرنسية، حينما كان عائدا من أولاد بوعشرة إلى مركز قيادته البعيد مسيرة ساعتين بالقرب من بوغار، على حافة الجبل المواجه لوادي الشلف. وصلته معلومات عند اقترابه من المركز بأن تحركات واسعة وكبيرة للعدو منذ صباح 4 ماي في المراكز المجاورة، وخاصة بثكنة بوغار. وبعد أن اتضح لديه أن التمشيط سيرتكز خاصة في الناحية التي يقع فيها مركز قيادته، قرر الرجوع إلى المكان بأولاد بوعشرة، وهو مكان تمركز الكتيبة ”الزبيرية” التي زارها فيما سبق للاطمئنان على أحوالها بعد مشاركتها في مواجهة القوات الاستعمارية التي كانت تنفذ ما سمي آنذاك ”مخطط شال” والخطة المتفرعة عن هذا المخطط والمعروفة بعملية ”التاج” التي خصصها العدو الفرنسي للولاية الخامسة وجزء من الولاية الرابعة. اشتبك العقيد سي امحمد بوڤرة وجنوده مع قوات العدو، فسقط شهيدا، فأخذت القوات الفرنسية جثمانه إلى مكان مجهول. وعليه، تأتي مساعي مؤسسة الولاية الرابعة لاسترجاع رفاته من فرنسا ودفنها في مربع الشهداء. جيلالي بونعامة..أسد الونشريس ولد الشهيد جيلالي بونعامة (المدعو سي محمد) الذي تسعى مؤسسة ذاكرة الولاية الرابعة لاسترجاع رفاته ودفنها في مربع الشهداء، يوم 16 أفريل 1926 في قلب الونشريس، بدوار بني هندل قرية ”موليار” التي حملت اسمه بعد الاستقلال (بلدية برج بونعامة ولاية تيسمسيلت). ينتمي إلى أسرة ميسورة الحال، التحق بالمدرسة الابتدائية بمسقط رأسه، وطرد منها في سن مبكرة في جويلية 1939 (مستوى السنة السادسة ابتدائي). سنة 1944، أدى الخدمة العسكرية الإجبارية بالهند الصينية، ضمن فرقة القناصة، قبل تسريحه بسبب مرض رئوي، ليعود ثانية إلى عمله بمنجم الرصاص لبوقايد، وهو مهيأ للعمل السياسي والعسكري.
انخرط جيلالي بونعامة في صفوف نقابة المنجميين، ثم في حركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1946، ليصبح بعد ذلك ممثلا للحركة في كل الناحية، ثم اختير عضوا في صفوف المنظمة الخاصة، وأثناء فترة انتخاب النواب للمجلس الوطني الفرنسي سنة 1948 نظم مظاهرة مناهضة فألقي عليه القبض وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر. وفي سنة 1951، نظم إضرابا للعمال المنجميين ببوقايد دام 5 أشهر، وكان له صدى كبير حتى في فرنسا نفسها. حضر فعاليات مؤتمر هورنو ببلجيكا للمصاليين في جويلية 1954، وبعد عودته باشر التحضير لاندلاع الثورة التحريرية بمنطقة الونشريس والشلف رفقة الشهيد أحمد عليليي المدعو سي البغدادي، تحت إشراف الشهيد سويداني بوجمعة. وفي 6 نوفمبر 1954، سارعت القوات الفرنسية بعد تعرفها على تحركاته المكثفة إلى اعتقاله وتدمير منزله، والتحق والده وأمه بالجبال هربا من القمع الاستعماري. سجن بالجزائر العاصمة، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية بوهران في نوفمبر 1955، على غرار عدد كبير من مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية. تمكن من الفرار إلى الشلف، فالتحق بصفوف جيش التحرير الوطني بجبل بيسا (تنس)، حيث فرض وجوده بسرعة، وبفضل حيويته ونشاطه، تمكن في مدة قصيرة رفقة سي البغدادي من جعل جبال الونشريس معقلا للثورة التحريرية. رقي سي محمد بعد مؤتمر الصومام إلى رتبة ملازم عسكري، وعين عضوا في مجلس المنطقة الثالثة بالولاية الرابعة، فكوّن وحدات قتالية محنكة لمهاجمة الوحدات الفرنسية، كما كوّن أفواجا من الفدائيين والمسبلين، ملقنا جنود وضباط العدو الفرنسي دروسا في القتال والتكتيك الحربي، ملحقا بهم الخسائر والهزائم التي لا تنسى. وفي صيف 1957، عين سي محمد قائدا للمنطقة الثالثة التي كانت تشمل وادي الشلف، جبال الونشريس والظهرة وزكار وجزء من سهل سرسو، وبفضل براعة تنظيمه السياسي والعسكري والاجتماعي أصبحت هذه المنطقة محرمة على العدو الذي اكتفى بقنبلتها جوا. خطط جيلالي بونعامة لكثير من العمليات العسكرية وشارك في تنفيذها، منها إبادة وحدة آليات قرب ناربو، إبادة كتيبة فرسان شمال شرق ثنية الحد وأسر قائدها، عملية ”لامارتين” وأسر 30 جنديا. وكان يقود فيلق العمليات بالونشريس بنفسه، حيث نصب كمينا لقافلة على الطريق الرابط بين الأصنام - موليار، أسقطت خلاله طائرتان، كما تمكن من تنظيم عملية فرار جماعية لعناصر بلحاج، وإلحاقهم بصفوف جيش التحرير الوطني والقضاء على قائدهم ”كوبيس” في أفريل 1958.
تولى قيادة الولاية الرابعة في صيف 1960، حيث شرع في إعادة تنظيم صفوف جيش التحرير الوطني بالمناطق الجبلية التي أخلاها العدو من السكان وتنظيم المدن. واصل سي محمد ووعيا منه بالعمل الشعبي، دوره في تأدية الاتصالات وجمع المعلومات. حرر لإطارات جيش التحرير الوطني ”دليل الفدائي”، كان عبارة عن مجموعة من المبادئ الأساسية لحرب العصابات، تحول فيما بعد إلى مرجع للمجاهدين، وأرسى جهازا للدعاية شديد الفعالية بالبليدة، يعتمد على بعض مطابع المدينة، بمساعدة بعض مستخدمي البلدية وأعوان مستشفى الأمراض العقلية. اختار سي محمد قلب مدينة البليدة مركزا لقيادة الولاية، ولتنفيذ خططه الجريئة مثل تنظيم مظاهرات 11 ديسمبر 1960 ومظاهرات جويلية 1961 تعبيرا عن رفض تقسيم الجزائر. وفي ليلة 8 أوت 1961 استشهد سي محمد ورفاقه، مصطفى النعيمي صاحب المنزل الذي كان متواجدا به، إضافة إلى خالد عيسى الباي مسؤول الاتصال بالولاية، وعبد القادر وادفل مشغل الجهاز اللاسلكي، وأصيب بجروح خطيرة كل من محمد تقية مسؤول التوعية والأخبار، وبن يوسف بومهدي مسؤولا في جبهة التحرير الوطني، بعدما تمكنت القوات الفرنسية المتكونة من وحدات المظليين وحامية البليدة من محاصرة المكان، مستعينة بالفرقة 11 للتدخل السريع التابعة للرئاسة، التي نقلت على جناح السرعة من كورسيكا إلى مكان المعركة. ومثل العقيد أحمد بوڤرة، نقل جثمان بونعامة إلى الجزائر العاصمة (حيدرة) ليدفن بعدها في مكان مجهول. للعلم، لا يعرف إلى حد الآن قبور عدد كبير من شهداء حرب التحرير، منهم العربي التبسي، حمو بوتليليس، محمد درليلي، محمد عيشاوي، مورس أودان، وعلي بومنجل.. وغيرهم.