يروي الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ”أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ من جَهد البلاء، ودَرْك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء”. جهد البلاء كلّ ما أصاب المرء من شدّة مشقّة وما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه، وقيل المراد بجهد البلاء: قلّة المال وكثرة العيال، والحقّ أنّ ذلك فرد من أفراد جهد البلاء، وقيل: هو ما يختار الموت عليه، ودرك الشّقاء يكون في أمور الدّنيا وفي أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء عام في النّفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد، والمراد بالقضاء هنا المقضي؛ لأنّ حكم الله كلّه حسن لا سوء فيه. ذكر هذه المعاني الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري. إنّنا نعيش في هذه الدّنيا وقد ملأها قوم بالمعاصي، وملأها آخرون بالخيرات والمنافع والمبرات، فهذا يقوم على شؤون الدّنيا فيحسن عمارتها، وذاك يقوم بشؤون الآخرة فيحسن لقاء ربّه، والمؤمن بين الاثنين يعمل في الدّنيا ويتحمّل ما فيها، ويعمل للآخرة، فقد جمع بين خيري الدّارين بأمر الله سبحانه. وجهد البلاء سبقنا إليه غيرنا من الأمم فوقعوا فيه، كما حدث لبني إسرائيل الّذين ذكرهم الله تعالى في أكثر من آية مبيّنًا أنواع البلاء الّذي أذاقهم: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، فكان من أنواع ذلك البلاء: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. وعندما أمر المولى سبحانه خليله إبراهيم عليه السّلام بذبح ابنه إسماعيل عليه السّلام، قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ}، وفي الغزوات والجهاد، نوع من البلاء من الله عزّ وجلّ للمؤمنين: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا}، أي: أنّ الله تعالى قادر على أن يرفع عن المؤمنين البلاء، ويدفع عنهم الشّقاء، لكن هذا من أنواع الابتلاء، فهو سبحانه قادر على نصر المؤمنين من الكافرين من دون مباشرة قتال، وهو قادر سبحانه أن يهزم أعداءنا دون أن نقاتل، ولكن الله أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فعلّمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلّم أن نقول إذا داهمنا البلاء: اللّهمّ إنّا نعوذ بك من جَهد البلاء. ونعوذ بك اللّهمّ من دَرْك الشّقاء، والدّرَك هو الإدراك أي: اللَّحاق، فكأنّك أنت فارٌّ هارب عن الشّقاء فيُدركك ويلحق بك، فتستعيذ بالله من إدراكه، والمعنى أعوذ بك يا ربّ أن يدركني هلاك في الدّنيا أو في الآخرة، ومن درك الشّقاء الّذي أمرنا أن نستعيذ بالله أن يُدركنا الشّقاء ضدّ السّعادة، والسّعادة سببها العمل الصّالح، والشّقاء سببه العمل الطّالح، فإذا استعذتَ بالله من درك الشّقاء، فهذا يتضمّن الدّعاء بألاّ تعمل عمل الأشقياء. ونعوذ بك اللّهمّ من سوء القضاء، قال الحقّ سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وسوء القضاء بمعنى المقضيِّ؛ أي: الّذي يكون نتيجة لهذا القضاء؛ إذ حكم الله سبحانه من حيث هو حكمه كلّه حسن لا سوء فيه، والمعنى اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أقضي قضاء سيّئًا، فإذا قضى الله أمرًا قد يكون لبعض النّاس خيرًا، وقد يكون لبعض النّاس شرًّا، فالقضاء كلّه من عند الله خير، لكن على النّاس قد يكون هذا، وقد يكون ذاك. ونعوذ بك اللّهمّ من شماتة الأعداء، فالإنسان إذا وقع عليه جَهد البلاء، أو درك الشّقاء، أو سوء القضاء شمت عادة به النّاس في الجملة والأعداء بصفة خاصة، قال مولانا سبحانه في شأن موسى عليه السّلام: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. قال ابن القيم رحمه الله (في الجواب الكافي) مبيّنًا أسباب البلاء والشّقاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء، عازيًا ذلك كلّه للذّنوب، قال رحمه: ”فالذّنب إمّا أن يميت القلب، أو يمرضه مرضًا مخوّفًا، أو يضعف قوّته ولا بدّ حتّى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية الّتي استعاذ منها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهي: «الهمّ، والحزَن، والعجز، والكسل، والجبن، والبخل، وضَلَع الدَّيْن، وغلبة الرِّجال»، وكلّ اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان: فإنّ المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقّعه أحدث الهمّ، وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن، والعجز والكسل قرينان: فإن تخلّف العبد عن أسباب الخير والفلاح، إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل، والجبن والبخل قرينان: فإنّ عدم النّفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل، وضَلَع الدَّيْن وقهر الرّجال قرينان: فإنّ استعلاء الغير عليه إن كان بحقّ فهو من ضلع الدّيْن، وإن كان بباطل فهو من قهر الرّجال”. ويلخص رحمه الله هذا الأمر قائلاً: ”والمقصود أنّ الذّنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنّها من أقوى الأسباب الجالبة لجهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله، وتحوِّل عافيته إلى نقمته، وتجلب جميع سخطه”.