الأشياء الكاملة ليست هي الأجمل ولا البدايات أيضاً هي الأفضل، بل البقايا والنهايات هي الأروع والأشهى.. حين تكون الأشياء مكتملة لا تشعر بلذتها ولا تخشى فقدها، عكس الشعور الذي ينتابك في ما لو شارفت هذه الأشياء على نهايتها. هنا تصبح أنت أكثر حرصاً على لذتها. بقايا الأيام في حياتك هي الأمتع، تحاول أن تستجلب فيها كل ما فاتك من جماليات الحياة، وتحرص أن تعيشها بشغف المراهقة. كذلك بقايا فنجان القهوة وأواخر حبات أرز في طبق الفقير. إنك تتذكر غالباً الأيام الأخيرة قبيل الفراق بينك وبين من تحب. وتصبح آثار المدن والحضارات وأوابدها أكثر جمالاً مما هي عليه أثناء وجودها الأول. بقايا صورك القديمة التي انقضى زمنها، تتأملها بفترة أطول مما تتأمل به صورك الحديثة. البدايات قد تكون عاطفية وغير مدروسة فتجلب لصاحبها الصداع، أما النهايات، فغالباً ما تأتي عن خبرة وتراكمات وتجارب، لذلك فقد تندم على قرار البدايات ولا تأسف على قرار النهايات. الحكمة تأتي متأخرة، والطيش يأتي باكراً، وتلك المرأة العجوز التي جلست بجانبي في القطار السريع العابر من مدريد إلى قرطبة أخبرتني أن المحطة الأخيرة في القطار هي الأجمل. كان حديثها غريباً ومثيراً للفضول، قالت بأنها ترغب في رحيل هادئ عن الدنيا، قلت لها: "كيف؟". أجابت وهي تغلق كتاباً صغيراً وتُنزل نظارتيها قليلاً: "أرغب بأن أكون ممسكة بكتاب أمام الوقد ثم أسند رأسي إلى خشب المقعد وأغفو بسلام". باغتتني فجأة صور الذين رحلوا في حروب بلادي، لم يكن موتاً يليق بإنسانيتهم، كانوا يتساقطون مثل جراد لا أكثر. لا أدري كيف تمتزج المأساة بالملهاة، تذكرت مثلاً يقول: "الكفن ليس له جيوب" دلالةً على أن لا أحد يأخذ معه شيئاً من هذه الدنيا. لكن الأموات القدامى كانوا يأخذون كنوزهم معهم إلى الآخرة، كان الأحياء أكثر أمانة من اليوم، يدفنون ثروة الشخص التي تعب بها معه، ثم يأتي الأحياء العصريون لينبشوا المدافن ويسرقوا الكنوز. كنا قد أشرفنا على الوصول إلى المحطة الأخيرة في مدينة قرطبة. كانت بقايا القهوة التي بيدي ألذ، وبقايا المسافات أكثر شجناً من صخب بدايات الرحلة، وبقايا أيام المرأة العجوز أكثر حكمة وهي تقلب بقايا صفحات الكتاب الذي بيدها، وأنا أنظر من النافذة على بقايا آثار العرب في شبه الجزيرة الإيبيرية.