في عشق الكِتاب في 23 أفريل من كل عام، يحتفل العالم والهيئات والمؤسسات الثقافية ودور النشر والكُتاب والأدباء في كل المعمورة باليوم العالمي ل "الكِتاب"، هذا التاريخ الرمزي في عالم الأدب أقرته منظمة اليونسكو، كاحتفالية سنوية، بمبادرة أطلقتها لصالح الكتاب والكُتاب وهذا خلال مؤتمرها في باريس عام 1995، حيث خصصت منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة يوم 23 أفريل يومًا عالميًا للكِتاب وحقوق النشر والملكية الفكرية. ومن خلال هذا اليوم أرادت اليونسكو التعبير عن تقديرها وتقدير العالم للكِتاب والمؤلفين وذلك عن طريق تشجيع القراءة بين الجميع. بهذه المناسبة، كُتاب وشعراء يتحدثون عن علاقتهم ب "خير جليس" في يومه العالمي، وعن علاقتهم وشغفهم بالكتاب، منذ بدء التهجي واللحظات البكر للتدرج على فعل وسحر القراءة، وفي حديثهم الكثير من الاحتفاء. إستطلاع/ نوّارة لحرش محمد مفلاح/ روائي جزائري الكُتب قبيلتي الوحيدة التي أعتز بالانتساب إليها أشعر اليوم أن الكِتاب صار جزءا أساسيا من حياتي وهذا بعد رحلتي الطويلة في عالمه السحري، فعلاقتي به بدأت في سن مبكرة، ورغم كل الظروف الصعبة التي عشتها، فلم يفارقني مذ كنت طالبا في السنة الأولى بمتوسطة خميستي، وكانت هذه العلاقة أولا بمطالعة الكتيبات الصفراء التي كان يعرضها الباعة الجوالون على أرصفة الشوارع المحيطة بالمسجد العتيق وأغلبها تتحدث عن الجن والمغازي وفي تعليم الصلوات والذكر، ثم اكتشفتُ في ساحة "مارشينوار" مجلات القصص المصورة وبخاصة سلسلة "بلاك"، و"زنبلا" إلخ.. ثم كانت الدهشة التي ربطت مصيري بالكِتاب، حين عثرتُ بالمصادفة على رواية "الحريق" للروائي محمد ديب التي سحرتني بأجوائها الأصلية، وقد مهدت لي الطريق إلى عالم الكُتب بخاصة الرواية، فكنت -وأنا المراهق اليتيم- أقصد ساحة "مارشينوار" للحصول على أي كتاب يناسبني سعره، وقد عرفت فيما بعد أن تلك القصص التي كُنت أقرأها وجلها من النوع البوليسي، لا تعد في نظر أستاذ اللغة الفرنسية من الأدب، وبتوجيه منه اطلعت على مسرحات "موليار" و"كوناي" وعلى رواية "البؤساء" التي أبهرتني وأصبحت شخوص "جان فلجان" و"كوزيت" و"ماريوس" من أعز الناس إلى قلبي. ثم ولجتُ عوالم بلزاك، واستندال، الخ.. ولما انخرطت في سلك التعليم، أصبحت مكتبة "المعارف" المكان الوحيد بعد البيت، الذي أقضي فيه جل أوقات فراغي باحثا عن أي صديق جديد. وبفضل هذه المكتبة تعرفت على كُتب طه حسين، والعقاد، وجبران، والمنفلوطي، وسلامة موسى، وسيد قطب، ومالك بن نبي، ويوسف إدريس، والطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة الخ.. وأدمنت في هذه المرحلة على قراءة مسرحيات توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ. أما الكتب الفرنسية أو المترجمة إلى الفرنسية، فكنت أشتريها من مكتبة شارع خميستي، وهي لأدباء من مختلف القارات وبخاصة روايات دستويفسكي وتولسوي، وفولكنز، وهيمنقواي، واشتنباك الخ. ولتلبية رغبتي الجامحة، كنت أصرف عليها جزءا مهما من راتبي الشهري، وكانت والدتي تحذرني من هذا الهوس الذي أصبح خطرا حتى على راتبي مصدر رزق عائلتي الوحيد. وبمرور الوقت تطورت علاقتي بالكِتاب من حالة الإعجاب إلى صداقة عميقة فإلى عشق ثم أصبحت الآن إدمانا بنفس درجة إدماني على الكتابة، وقد صرت أرى أن الحياة بلا كِتاب لا معني لها. فأنا اليوم أقضي أكثر من ثلاث ساعات مع الكِتاب، فالقراءة تمنحني القدرة على مواجهة هواجسي كما تُغذي نفسي بطاقة عجيبة على مواصلة الكتابة. وفي مجتمعنا الذي لم تترسخ فيه عادة المطالعة حتى تصبح من تقاليده، يعيش القارئ النهِم متوحدا بسبب غياب الفضاءات التي تسمح له بتنفس رائحة الكِتاب مع أشخاص يقاسمونه الهوس نفسه. وإلى حد الآن حين أقصد مكتبة مدينتي لا أخرج منها إلا حاملا معي بعض الكتب. وبعد كل زيارة إلى العاصمة أعود إلى بيتي محتضنا مجموعة من الكتب وبخاصة الروايات وكتب التاريخ والانترولوجيا والدراسات الاجتماعية، وكم أسعد حين أعثر في المكتبة على أي مؤلف أراه جديرا بدخول قلبي قبل بيتي! فالكِتاب وحده أصبح قادرا على بث الأمل في نفسي لمواجهة الحياة المملة ولتحريضي على الكتابة. وأسعد أكثر وأنا بين الكتب، وأنا أتحدث عن مؤلفيها. ففي عالمها الفسيح يمكنني مناقشة كل الأفكار والقضايا دون خوف من ردة أفعال كتّابها. إنها الحرية التي يحلم بها كل إنسان في هذا العالم، فالكتب هي قبيلتي العتيدة الوحيدة التي أعتز كثيرا بالانتساب إليها. كمال العيادي/ روائي تونسي مقيم بالقاهرة قايضتُ بالكُتب كلّ الدّنيا خلال سنة 2001، وخلال زيارته لميونخ بألمانيا، حيث كنت أقيم، كلّفني الصديق الروائي المصري جمال الغيطاني، بإعداد ملف لملحق البستان بجريدة أخبار الأدب، عن علاقة المبدعين العرب بالكِتاب، وراسلتُ أيامها عشرات المبدعين الكبار والأقلّ كبرًا وتكبرًا، وكان من ضمن الأسئلة، سؤال: "عمّا إذا ما كنت تتذكّر عنوان أوّل كتاب أدبيّ قرأته؟"، ووصلتني الكثير من الردود التي تراوحت أيامها بين الفيض والإدعّاء، ولكنني لم أجد بينها أيّة إجابة عن سؤالي هذا الذي كنتُ في الحقيقة دسسته بمكر ضمن الأسئلة، لغاية في نفس يعقوب. ولقد فعلتُ ذلك، وكنت على يقين مُسبقًا بأنني لن أتلقى إجابة، لأنني كنت أفاخر دائمًا بأنني أتذكّر جيدًا عنوان أوّل كِتاب أدبي قرأته في طفولتي. وما كان ينبغي لي أن أنساه على أيّة حال. حدث ذلك سنة، 1978 وكان لي من العمر عشر سنوات وتزيد بأشهر قليلة، وكنت في طريقي إلى المدرسة الابتدائيّة بالمنصورة بالقيروان، حين عثرت عليه. كان كتابًا ضخمًا، ممزقّ الصفحات وبدون غلاف، ملقى على جانب الرصيف، وكانت الصفحات الأولى منه مبلّلة بزيت أخضر، عرفت بالخبرة فورًا أنّه زيت ملوخيّة تونسية، عرفت ذلك من بقايا الرائحة وشكل توزيعه الشفاف على مساحة الورق وخبرتي التي اكتسبتها من تلطيخ كراساتي بزيوت أكل الوالدة رحمها الله. نسيت يومها المدرسة كليّا، وانهمكتُ بكلّ لهفة ودهشة على ما تبقى من هذا الكنز الورقي الذي بين يدي. بعد أن مزّقت بحذر الصفحات المُلطّخة الأولى والأخيرة منه. والحقيقة أنه كان يتجاوز الخمسمائة صفحة، تبدأ من الصفحة الخمسين تقريبًا، ولم أكن أعرف أيّامها في ذلك السنّ المُبكّر، أنّ ما وقع بين يدي هي إحدى الطبعات المصرية القديمة نسبيًا، لكِتاب "الحيوان للجاحظ". أولّ كِتاب غيّر مجرى حياتي للأبد. أذكر كلّ ذلك بالتفصيل الآن، وحتى بعد مرور قرابة الأربعين سنة تنقص ثلاث، لأنّ أخي الأكبر فاجأني يومها وأنا مقرفص أقرأ ما بين يدي، وأحاول فكّ طلاسم وأحاجي المئات من العبارات التي لم أكن أتصوّر أنها يمكن أن تكون عربيّة أصلاً. وطبعًا، ضربني أخي أكرمه الله ضرب من يرى شقيقه الأصغر يبيع للتوّ حياته ويتبع غواية الشيطان وطريق اللا رجوع والخسارة. وفعلاً. كان أخي على حقّ، فمن يومها نفث الجاحظ سحره العذب في روحي المندهشة الطريّة المستوفزة، فقايضتُ بالكُتب كلّ الدّنيا وخيّبت أحلام الأهل في أن أصبح ضابطًا في الجمارك أو محامي أو قاض أو طبيب أو مهندس، رغم تفوقي المذهل في الدراسة، عبر كلّ مراحلها. وسلكت طريقًا لا عودة منه، طريق الكتابة والكُتب وعشق الحرف والنصوص الفصوص والتيه في أودية وبحور الشعر والسرد والحكاية الفاتنة والعبارة المارقة، و والله، لوّ خيروني اليوم مليون مرّة، لاخترت نفس الطريق. فمهنة الكاتب، على كلّ الشقاء الذي يصاحبها، وعلى تداخلها وضبابيتها وعدم الاستقرار النفسي ولا المادي ولا حتى الاجتماعي فيها. فضلاً عن أخطار عقم بذورها المحتمل، وطول انتظار مواسم حصاد وجني ثمارها التي قد لا تكون ولا تتحقق خلال حياة الكاتب أصلاً، رغم ذلك، فهي أروع وأجمل مهنة وأنبلها. والآن، وأنا على عتبة الخمسين، كاتب مهاجر محترف، أعيش من شرف قلمي وترجماتي وأعمالي الأدبية، وفي بيتي وبيت رفيقة الدرب الروائية الكبيرة، د. سهير المصادفة، في القاهرة أكثر من خمسة وأربعين ألف كِتاب باللّغة العربية فقط، فضلاً عن المؤلفات باللّغات الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية التي نتقنها. أحسّ بل أعرف بأنّه لو مرّ يوم واحد ولم أقرأ فيه خمسين صفحة على الأقلّ من كتاب ورقي وأشمّ رائحته وأنا أتصفّحه، فمن الممكن أن أموت. وفي أحسن الحالات قد أفقد أعصابي وأخرج للشارع بحثًا عن أيّ شيء ورقيّ مطبوع أشمّه وأتصفحه، حتى ولو كان قصة قديمة للأطفال، أو كِتاب دليل الهاتف الضخم. نعم. يمكن أن أصرحّ علنًا، وبدون خجل بأنني مُدمن للقراءة. وأنني أمارس عادة غريبة في هذا الزمن الإلكتروني المريب الصارم، وهي أنني أشم حين أختلي بنفسي كلّ يوم كتابًا على الأقل أو نصفه أو حتى ربعه. وأنني رغم ضعف بصري، أستطيع حتى لو حدث وأنني لم أجد نظارتي الطبية، كما يحدث كثيرًا معي، أن أقرأ نصف الجمل بعيني الواهنة، ونصفها الآخر بقلبي، وخاصة إذا كانت من بين بعض الكُتب التي أعيد قراءتها منذ ربع قرن باستمرار، ولا أملّ منها. خالد ساحلي/كاتب وروائي جزائري في حب الكتب ألوان ومذاهب وأنت تتصفح أي كتاب قيّم تجد نفسك في عوالم كثيرة متنقلا في دروب الحياة وتجاربها، تحيا مآسيها وصراعاتها، أجناس بشر، أزمنة وأمكنة، حضارات غابرة وتجارب كثيرة فيها من المأساة والملهاة، شعوب عابرة تركت العبرة للمتعظ فلا يكون ذلك إلا بالأخذ بالقراءة حسرة ومتعة، عذاب الجهد ومتعة الاستكشاف ونسيان الحاضر إلى ما هو ماضي ومستقبل أو واقع في الأذهان، مخالطة النور، تتشارك الألباب بفتح الباب للأموات الأحياء فتحا للعقل والقلب. كلما احتضنت كتابا أجدني أقرب بشري إلى مؤلفه، أحاوره بعد قراءتي له، أصنع معه الأثر إما فراق بيني وبينه في منتصف الطريق أو اختلاف بعد أخذ ورد وبذلك يحدث التعرف ثم انتقال المعرفة، ولادة العلاقة، الوساطة والتلقين والبحث والنقد، يتم ذلك بمستويات قراءة. الكِتاب ليس جليسا فقط بقدر ما هو ساعة زمن ينقل إليك معارف البشر وعلومهم ومشاعرهم، قصصهم اليومية ومعيشتهم، يروي لك أدق تفاصيل الخصوصية عندهم ليشترك الهم الإنساني ويتوحد وبذلك يتجاوز الشعور قيمة الشيء إلى امتلاك مفاتيح أسراره وإن في حب الكتب ألوان ومذاهب. بالمقابل الكتب ألغام موقوتة وغازات معنوية خانقة، داء جرب وقنابل حرب موجهة توجيها عن بعد كتبها قلم أو رقنتها مفاتيح جهاز أو فتحا على عوالم المدونات، الكِتاب ورقيا أو الكترونيا لا يهم من يصنع طلقة الرحمة على الآخر بقدر الذي يقدّم على صنع الطلقة على العقل والروح معا، أحتاط كثيرا وأنا أقرأ الفكر أكثر، الحذر من المشي وراء المستنسخ المترجم شبه غثاء القطيع حين الرواح والمجيء، لا يوجد كتاب دون غاية إما هدم أو بناء، كل يحمي فكره بسمه أو عطره، وفي الأخير تنتصر الإنسانية في القلوب النقية والعقول النيرة التي تصنع الخير للإنسانية، إنه التوفيق الإلهي الذي تصنعه إرادة الله وتحركها يده من خلال العقول المشعة الصالحة التي تفرغ صلاحها ليتوارثه العلماء الأقرب إلى الصدق خشية من الله، إنها القلوب المؤثرة على القلوب المخطئة الخاطئة لتوقظ الإنسان من حيوانيته التي تدفعه للقتل والفناء لتمسح على ضميره بحنان. علاقتي بالكتاب قديمة وأنا الطفل الملتاع لقراءة قصة أطفال لا يستطيع شرائها لكن يبقى قلبه معلق بالقصص المعروضة على الرفوف يحجبها زجاج العرض الكبير، أقف مشدوها لتلك العناوين الشيقة وقصص الأبطال والمخترعين والرسومات تغريني حد البكاء، وبعد أن يضيق البائع لوقوفي كل يوم ينهرني ويطردني بدل أن يمنحني قصة لا يتعدى ثمنها علبة سجائر التي يدخنها دائما، ليست لعنة بقدر ما هي نعمة الله التي يمنحها لمن يريد، لكنه الفرج حين تحصل على جوائزك بعرق جبينك وتكون جائزة حياتك كلها كتب، هنالك فقط الفردوس. وليد سليمان/ كاتب ومترجم تونسي لعنة "غوتنبرغ" الجميلة لقد قدّم "يوهان غوتنبرغ" للإنسانية خدمة جليلة لا مثيل لها عندما اخترع المطبعة، التي ساهمت في وصول الكتاب بسهولة وبسعر زهيد إلى ملايين البشر. لكن في المقابل تسبب هذا الألماني الطيب، باختراعه هذا، في ظهور مرض جميل يصعب الشفاء منه هو "البيبليوفيليا" (bibliophilia) أو "الحبّ المرضي للكُتب". يعود شغفي بالكتب إلى سنّ مبكرة، إذ أنني اكتشفت لذة القراءة في السادسة من عمري حالما صرت قادرا على فك رموز الكلمات. وفي سنّ المراهقة، تحوّل هذا الشغف إلى حبّ جارف وصل حدّ الهوس حيث كنت أقرأ كل ما تقع عليه يدي إلى درجة أن والدي قد منعني من القراءة خوفا من أن أضيع دراستي. تحتوي اليوم مكتبتي على آلاف الكتب، بلغات عديدة، وهي تتكدّس في بيتي في كلّ مكان، حتى تحت سرير غرفة نومي. وهو ما جعل زوجتي تقول لي يوما: "لو واصلت شراء الكتب بهذه الوتيرة فسنجد أنفسنا يوما في الشارع". غير أنني لم أحاول يوما معرفة عدد الكتب التي أملكها بدقّة لأن لديّ اعتقاد غريب بأنني إذا ما حاولت إحصاءها فسوف أفقدها. عندما اشتريت جهاز "آيباد" لاح لي بصيص أمل في أن أخفف الحمل قليلا عن مكتبتي، لكن سرعان ما تبيّن لي أنه أمل خادع. ذلك أنني قد أدركت مع الوقت أن الكتاب الالكتروني، بدلا من أن يعوّض الكتاب الورقي، كثيرا حرّضني على شراء نسخة ورقية من الكتاب نفسه. وهذا ما جعلني أشبّه الكتاب الإلكتروني بفاتح للشهية. أعترف أنني أعشق رائحة الكتب، وملمس الورق، وفن تصميم أغلفة الكتب، لكنني أعترف في المقابل أن الكتاب الإلكتروني سهّل عليّ الحياة كثيرا، أنا الذي أسافر بكثرة ولا أستطيع أن أحمل معي كلّ كتبي. والواقع أنني لا أتفق مع أولئك الذين يقسّمون الكتاب باحتقار إلى فئتين: ورقي وإلكتروني. وأتعجّب من أولئك الذين يشيطنون الكتاب الإلكتروني، بدعوى أنه سيتسبب في اندثار الكتاب الورقي. الكتاب، في اعتقادي، هو "المحتوى" وليس "الوعاء". وفعل القراءة يمكن أن يتحقّق بسبل شتّى. لنأخذ ملحمة "جلجامش" -التي تعتبر من أقدم الآثار الأدبية التي بقيت شاهدة على عظمة العراق القديم- كمثال. يمكن للإنسان أن يقرأ هذا العمل الأدبي على ورق البردي، أو في كتاب جلدي، أو في كتاب ورقي، أو في كتاب مسموع أو كتاب إلكتروني، إذ أن "الوعاء" أو "الحامل" لا يغير شيئا في إدراكنا للمحتوى. وأعتقد أن ملحمة "جلجامش" التي كُتبت في الأصل على "ألواح طينية" وصارت تُقرأ اليوم في "ألواح إلكترونية" هي أفضل برهان على أن الكِتاب هو الكِتاب، مهما كانت التقنية التي يُقدّم بها إلى القارئ والتي تختلف من عصر إلى عصر. لذلك أنا أؤمن بالتعدد وبالتعايش بين مختلف الوسائل التي تمكّننا من القراءة. وقد يأتي يوم يتم فيه اختراع أداة جديدة تسمح لنا بالقراءة، فهل سيغير ذلك شيئا؟. إن عشقي للكِتاب ينحدر جزئيا من عشقي للكلمات. يذهلني ما للكلمات من قدرة لا نهائية على توليد المعاني. وتفتنني الفكرة المتمثلة في أن عددا محدودا من المفردات يمكن أن يولّد عددا لا محدودا من الكُتب. ختاما، إذا كان لا بد من قول كلمة في حق "غوتنبرغ"، مخترع المطبعة، فإنني أقرّ بأنني واحد من ضحاياه، وواحد من ملايين القراء الشغوفين بالكتب في العالم الذين حلت عليهم لعنته الجميلة. غير أنني سعيد بهذه اللعنة لأنها تؤكد قناعتي بأن الكتاب لن ينقرض أبدا مادام هناك بشر يعشقون الكتب. شريف الشافعي/ شاعر مصري جليسي الدائم وهو بطلي المفضل للكِتاب عندي معنى أرحب، ومفهوم أشمل، من ذلك الهيكل المكوَّن من صفحات ورقية، محفوظة بين دفتين. الكتاب هو كل رافد أستمد منه ما أقرأ وأتلقى، بأية حاسة من الحواس، بأية صورة من الصور، بأية طريقة تتاح بها القراءة، ويتحقق بها التلقي، والتواصل، والتفاعل. بهذا المنطق، فالكتاب (الذي هو "خير جليس" بتعبير المتنبي)، هو جليسي الدائم، في مكتبة بيتي حيث أمكث قدر استطاعتي كل يوم، وفي وسيلة الانتقالات في ذهابي إلى العمل وعودتي منه، حيث ربما كتاب صغير في الحقيبة أو أسطوانة مدمجة مرئية أو مسموعة أو مقروءة أو نص رقمي أطالعه على التابلت أو عبر الإنترنت. ولا أزال برفقة الجليس الطيب، أستقي منه كل ما هو متاح، في دار عرض سينمائية، في معرض فن تشكيلي، في قاعات الأوبرا، في ذروة انشغالات العمل ومشاحناته وربما مشاجراته، في نزهة على ضفاف النيل بصحبة ذاتي أو مع أسرتي الصغيرة. مثلما أن عصرنا هو عصر التعدد في أنماط ووسائل التعبير، فإنه عصر التعدد في آليات وإحداثيات التلقي والقراءة. في سن مبكرة، كان الكتاب الورقي بشكله التقليدي هو بطلي المفضل، وربما الأوحد في فترة ما، حيث مكتبة المدرسة، وأرفف "قصر الثقافة" في بلدتي الصغيرة منوف بدلتا مصر، حيث كنت لا أبرح المكان، وكنت مستعيرًا دائمًا للكتب، خصوصًا التراثية. مع الوقت، لم أتخل بالطبع عن بطلي الورقي المفضل، ولا يزال مفضلاً، لكن لن أنكر أن أبطالاً آخرين أخذوا دورهم، على رأسهم الكتاب الرقمي، خصوصًا فيما يخص الموسوعات والأعمال الكبرى والنصوص التي تتطلب قراءتها توفر خاصية "البحث" وما نحو ذلك، فضلاً عن الكتب الكثيرة التي قد لا تتاح لي ورقيًّا في اللحظة الحالية لسبب أو لآخر، فأضطر لقراءتها إلكترونيًّا. وتبقى أبدًا قراءة الحياة بعنفوانها وتفاصيلها وحركتها اليومية وجمالياتها متعة وثقافة وبهجة لا تضاهيها صفحات، ولا فضاءات. وقد وعى كبار الأدباء على مدار التاريخ أهمية هذه القراءة "المفتوحة" إذا جاز التعبير، فهي طوق النجاة للمبدع، الذي يقيه من الغرق في الجاهز والمكرور والصالوناتي والذهني العقيم. هذا ما وعاه، مثلاً، العملاق نجيب محفوظ، فأفرد لقراءة "المقهى بحركته وأناسه وأجوائه" وقتًا يوميًّا مقدسًا لا يحيد عنه. وهذا ما إنبنى عليه، مثلاً، شعر "الهايكو"، حيث انفتاح حواس الشاعر، بل وتوحدها، مع مطالعات الطبيعة اليومية.