الزّكاة ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره، والزّكاة في دلالتها اللغوية طُهرة ونماء، وهذه هي حقيقتها. وفي الاصطلاح؛ هي استقطاعٌ مالي جبري من أموال الأغنياء المكلّفين، يعاد توزيعه على مستحقين معينين وصفًا، فهي كما عرّفها الفقهاء: “فريضة مالية مخصوصة تجب في الأموال بشروط مخصوصة وبمقادير مخصوصة وتوضع حصيلتها في مصارف مخصوصة”. شرع الإسلام الزّكاة لتنظيم حياة الناس، وتحقيق مزيد من الأمن والاستقرار، والترابط الاجتماعي، والتنمية المعيشية والاقتصادية، وتعميق القيم الروحية والمعاني الأخلاقية والتربوية، في الحركة الدائبة للأفراد والمجتمعات. إنّ الزّكاة من أهم أدوات السياسة المالية بل هي الأساس في التضامن المالي الإسلامي، ومن خلال عملية تحصيل الزّكاة وإنفاقها نجد أنها أداة ذات كفاءة عالية في المساهمة أو التأثير على أهداف المجتمع، وبالتالي تؤدي دورًا كبيرًا في التنمية الاقتصادية. وقد أشارت العديد من النصوص الإسلامية إلى مقاصد تشريع الزّكاة وأهدافها وآثارها، ومن ذلك: تطهير النفس، نفس المعطي وتزكيتها من الشحّ والبخل، وتخليصها من سيطرة حبّ المال، فيعلم أن الحياة ليست كلّها مادة، الأمر الّذي يدفعه إلى البذل والعطاء، وتحقيق مزيد من التآلف والمحبّة والتّواصل بينه وبين أفراد المجتمع. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. ونفس الفقير وتخليصها من الحسد والطمع، وإبعادها عن الحقد والكراهية وعن ما يسمّى “الصراع الطبقي”، وذلك حينما يرى اهتمام الغني به، وقيامه بمواساته، ومدِّ يد العون له، فحينئذ يطمئن قلبه، وتُقَال عثرتُه، ويزداد حماسًا وإخلاصًا في تمنّي زيادة المال عند الغني، وذلك ليحصل له النماء والانتعاش المعيشي، في حاضره ومستقبله ومعيشة أسرته. والزَّكاة شكرٌ لنعمة الله المتجددة، واعتراف بفضله سبحانه وإحسانه إليه، وهي علاج للقلب من حبّ الدّنيا، وتزكية للنفس وتحويله إلى الرغبة في الآخرة. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ}. ويتحقّق بها معنى العبودية والخضوع المطلق والاستسلام التام لله ربّ العالمين، عندما يخرج الغني زكاة ماله فهو مطبّق لشرع الله، منفّذ لأمره، وفي إخراجها شكر المنعم على تلك النعمة، يقول تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}. وتنشر المعاني الأخلاقية وتشيع القيم الإنسانية في المجتمع، حيث يلاحظ المراقب لأحوال المجتمعات أنّ البيئات والمجتمعات الّتي يؤدي أغنياؤها فيها الزّكاة، تتمتع بنسبة أعلى من معاني الترابط الاجتماعي والمودة المتبادلة والتكافل والتراحم والمواساة، فيصير المجتمع كالجسد الواحد. كما أنّ الزّكاة تُقلِّل الفجوة بين الفئات الاجتماعية، وتخفّف حدّة التفاوت في تملك الأموال، وتحقّق العدل الاجتماعي الممكن. ومن العدل الاجتماعي أن لا يُتخَم بعض الناس بالمال، ويموت آخرون جوعًا وحرمانًا ومرضًا. وتحقّق بأدائها مفهوم الضمان الاجتماعي، والتوازن النسبي بين فئات المجتمع، فبإخراجها إلى مستحقيها لا تبقى الثروة المالية مكدسة في فئات محصورة من المجتمع ومحتكرة لديهم. يقول الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}. إلى جانب الإسهام في إشاعة الأمن وترسيخه، وتحصين المجتمع وحمايته من الجرائم عمومًا، والجرائم المالية خصوصًا، التي يرجع كثير من أسبابها إلى الحرمان من المال مع الحاجة إليه، فحين تؤدى الزّكاة وتعطى للفقراء والمحرومين، لا تحدِّثهم نفوسهم بسرقة أموال الآخرين والاعتداء عليها؛ لأنهم ما عادوا محرومين من المال، وهم ليسوا بحاجة إلى الاعتداء على الآخرين وأموالهم، والمخاطرة بحياتهم وحريتهم ومستقبلهم. وللزّكاة دور مهم في تَنشيط الحركة الاقتصادية، لأن المسلم إذا كَنز ماله فهو مضطر لأن يدفع الزّكاة عنه بمقدار أدناه 2.5% كلّ سنة، ممّا يؤدّي إلى نفادِه، لذلك فهو حريص على الاتِّجار به حتّى يؤدّي الزّكاة من أرباحه فيكون ذلك سببًا لتنشيط الحركة الاقتصادية، وتستفيد طاقات الأمّة كلّها من تلك الأموال. فهي تساهم في التنمية الاقتصادية وتنشيط عملية الإنتاج والاستثمار، وذلك من خلال العمل المتلاحق على تدوير الأموال واستثمارها في إشادة المصانع وإقامة العمائر وزراعة الأراضي وتبادل السلع والمنتجات وعدم تجميد الأموال وتعطيلها. والزّكاة علاج عملي لكثير من الآفات الاجتماعية كالبطالة والتسول عن طريق استثمار أموالها في تشغيل القادرين على العمل حتّى يصبحوا بدورهم منتجين ومُزَكّين، كما أنها من أعظم ما يحقّق التواصل والتآلف والمحبة والتآخي بين أفراد المجتمع. وتوفّر فرص العمل للعاطلين عن العمل، وتؤمّن لهم أسبابه ووسائله وأدوات الإنتاج الّتي تساعدهم على بدء حياة جديدة، يُوَدِّعون فيها البطالة والفقر والحرمان، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: “إذا أعْطيتم الزّكاة فأَغْنُوا”. وتطهّر أيضًا صاحبها من الشُّح وتُحرِّرُه من عُبوديَّة المال، وهذان مَرضان من أَخطر الأمراض النَّفسية الّتي يَنحطُّ معها الإنسان ويشقى، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، وقال صلّى الله عليه وسلّم: “تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَم، تَعِسَ عبد القَطيفَة...”. وإنّ من أهم ما يلزم القيام به لتفعيل الزّكاة واستظهار آثارها هو القيام بعملية توعية وتثقيف علمية واعية ومستمرة، تشترك فيها المؤسسات التربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية، تستهدف تجديد التزام الناس بالنظام الزكوي بأبعاده العقدية والقيمية. وننتهز هذه الفرصة للتذكير بأن الأزمات المالية والاقتصادية يتم معالجتها عن طريق التوجه إلى النظام المصرفي الإسلامي والّذي تتمثل بتوفير بدائل تمويل تستمد معظم خصائصها من الإطار العام للعمل المصرفي الإسلامي, والّتي تعني ضمنًا استبعاد الأسباب الرئيسية للأزمات المالية، وإحلال نظام المشاركة في الربح والخسارة, والتركيز على الاستثمار الحقيقي. وليس عن طريق طبع النقود الذي يوقع المجتمع في التضخم ويعقد الأزمات ولا يحلّها. كلية الدراسات الإسلامية/ قطر