لم يبق من ذلك المكان الوقور الذي كان يجلس فيه محمد شراق على يمين مدخل القسم السياسي في جريدة "الخبر" سوى كرسيه وبطاقته الصحفية التي تشهد على رسوخه في المهنة. تزدحم في هذا المكان الذي قضى فيه محمد نصف عمره مُنْكبّا على لوحة الكتابة ذكريات فرح وحزن، تشهد كلها على أن الرجل كان ذا معدن أصيل. كان محمد آخر من يغادر قاعة التحرير وقد حبك المواضيع التي أرسلها إلى رئاسة التحرير ببصمته الصحفية التي أضحت مع الوقت علامة مسجلة باسمه. يجيد "رزقي"، كما يحلو لمقربيه مناداته، مراقصة العناوين التي تتحول على يديه إلى "صنارة" تصطاد القارئ حتى وإن لم يكن الموضوع داخلا في اهتماماته، تماما مثلما يمتلك تلك الملكة الصحفية التي لم يُؤتَها إلا القليل في كتابة مداخل المواضيع وتزيينها بأسلوبه الوصفي الجميل. يرسم محمد للموضوع الصحفي الذي عادة ما يكون جافا ومتخما بالمعلومات مساحات للتنفس والخيال، تعين القارئ على الاسترسال في القراءة والتمتع بها. لذلك انطبعت بنَفَسه الصحفي كل مواضيع القسم السياسي التي كان يعمل عليها بجد وتفان لإخراجها في أحسن صورة. لم تُغير المسؤولية شراق الذي صار أقرب إلى زملائه بعد أن عُيّن رئيسا للقسم السياسي سنة 2015. الجانب الإنساني كان طاغيا في تعامله، فهو ابن المهنة وأقدر من يمكنه فهم ظروف العاملين بها. كان والكل يشهد يعذر الغائب ويتفهم المُتعَب ويُحاول قدر الإمكان الحفاظ على روح المجموعة، فالكتابة بشكل يومي تتحول مع الوقت إلى عمل مرهق وشاق يسبب لصاحبه استنزافا وعسرا في الكتابة. وعى محمد ذلك جيدا، وكان يحاول إبعاد زملائه عن العمل تحت الضغط، فهو عدو الصحفي الأول وأكثر ما يعكر مزاجه، لكنه كان في كل ذلك يتحمل أكثر من طاقته، فهو من يصبر على الجميع حتى على حساب صحته وعائلته التي لم يكن يدخل عليها إلا والليل أرخى ستائره أو يكاد. ما وضعه محمد من خبرة في خدمة زملائه لم يأت من فراغ، فقد تدرج في الكتابة الصحفية منذ تخرجه سنة 1998، إلى أن برز نجمه في عدة جرائد من بينها "الفجر" و "الأحداث" التي رأس تحريرها، ثم التحق ب "الخبر" سنة 2004. برع الذي كان يُوقِّع في سنوات مضى باسم "عبد القدوس" أكثر ما برع في الريبورتاجات التي كان يصور فيها بإبداعٍ الظواهر السياسية والاجتماعية ويبسطها للقارئ في جمل رشيقة تفيض بالمعاني العميقة. التقط مسؤولو التحرير في "الخبر" بسرعة موهبة محمد وجعلوا منه الصحفي الذي تبتعثه الجريدة لتغطية كبرى الأحداث، لأنها بفضله ستضمن لا محالة التميز على منافسيها. يقول أحد الصحفيين الذين رافقوا شراق إنه الصحفي الوحيد الذي بإمكانه أن يحوِّل فاكسا لا قيمة له يصل الجريدة إلى مقال يُقرأ. ببساطة يملك قدرة رهيبة على استدرار أفكار صحفية وسَوقها في قالب ممتع من أحداث تبدو لغيره ميتة. امتلك محمد سرّ تطويع اللغة الصحفية، فاحترم تلك المسافة التي تميزها عن باقي أنواع الكتابة، لكنه في نفس الوقت عمل على تطويرها وإخراجها من قوالبها الجافة، مستعينا بالأسلوب الروائي الذي امتلك ناصيته. والسرّ في ذلك عدا الموهبة الربانية هو نهمه الشديد في القراءة مذ كان طالبا، إذ يشهد زملاؤه المقربون أنه كان يفضل خلوة المطالعة على باقي متع الحياة الجامعية من سهر وسمر بين الأصدقاء. قد يكون هذا ما صقل أسلوبه في الكتابة وجعل مقالاته تبدو كأن شخصيات روائية تجول فيها، يستطيع التعبير عنها بدقة متناهية ويغوص أحيانا في تحليل يشبه الوصف النفسي لدواخل من يكتب عنهم، ثم ينتقل من هذه الجزئيات المتناهية الصغر بسلاسة مبهرة إلى توصيف المشهد العام وتلخيصه..
البيري.. حفّار قبور وتغطية جنائز الرؤساء
انعكست تلك المهارة التي اكتسبها صاحب "البيري" الأسود في إبداع نصوص لا تتكرر عن عوالم الجنائز الرئاسية، حيث لا يمكن التفريق بين الدموع الصادقة والمنافقة حين يصطف الكل باكيا ومستحضرا الكلمات الجميلة. كان محمد يبتعد عن كل ذلك، ويقص المشهد على القارئ من زوايا أخرى لا يراها غيره. يتحدث عن "حفّار القبور" ورمزية اختيار مكان القبر وتفاصيل أخرى، مثلما كتب في جنازة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الذي توفي أشهرا فقط بعد وفاة الرئيس الآخر أحمد بن بلة يقول: "مربع الشهداء كان الجامع بين الاثنين، بعد أن جمع شملهما الرئيس بوتفليقة مرات معدودة، فاتخذ الشاذلي مرقدا له على بعد 5 أمتار يمين بن بلة، في عدد فردي جمع الرئيس الأول بالثالث، وقبالتهما يرقد الرئيسان: الثاني هواري بومدين ورابعهم محمد بوضياف في عدد زوجي". ثم يتابع: "وكأنما حفّار القبور حدته رغبة في دفن خلافات الرباعي في إدارة شؤون البلد إلى الأبد، لكن جسده المرهق بالجهد العضلي أنساه مراعاة أدنى أبجديات المساواة، لأن الفرق بين الرباعي أن الثلاثة أماتهم المرض، أما رابعهم فمات غدرا، لكن فوق كل هذا، يفخر حفّار القبور أن أربعة رؤساء حكموه في ظرف 30 سنة (من 1962 إلى 1992)، وبالتالي فإن الجزائر ليست مصر ولا تونس ولا ليبيا ولا سوريا". كان محمد فنانا لا يُعلى عليه في تكثيف جمله بالمعاني وشحنها بالعواطف دون شطط أو مبالغة، وله في ذلك طقوسه الخاصة في الكتابة حتى على حساب صحته، فقد كان يستغرق وقته إلى الليل في الكتابة نافثا دخان سيجارته، كأنما يدخل في حالة شاعرية صوفية يختفي فيها تماما داخل حروفه وجمله، فلا تسمع منه سوى طقطقة أزرار الكتابة. لذلك كتب ببراعة عن "ندوة الانتقال الديمقراطي"، مصورا مشهد التقاء خصماء الدهر في المعارضة، وكتب بإبداع عن الإشاعة التي تتسرب وتعبث بعقول الجزائريين، وكان الوحيد تقريبا الذي استطاع تفكيك وتحليل شخصية عمار سعداني الأمين العام للأفالان، وكان دائما يجد ذلك الخيط الرفيع الذي يربط به أحداثا سياسية واجتماعية تبدو لغيره منفصلة ومتنافرة. على هذه الشاكلة، كانت كلّ مقالاته الكبيرة التي يصح أن تُجمع في كتاب وتنشر، لأنها تُخلد أسلوبا فريدا في المعالجة يمكن أن تستلهم منه أجيال الصحفيين القادمة. لم يمهل المرض محمد لإكمال روايته التي كان متحفظا على تفاصيلها، كان يقول فقط إنه انتهى من فصليها الأول والثاني في انتظار اكتمال الثالث والنشر. ذلك المرض الخبيث الذي تمكن منه قبل 4 أشهر فقط كان يبعث بإشارات الإعياء والإرهاق من قبل، لكنه بصبره واستغراقه في العمل لم يكن مقدرا لحجم ما كان يعتمل داخله، إلى أن سقط فجأة في دوامة مرض الموت الذي عضعض جسمه وذهب بقوته. ظل محمد رغم ذلك مقاوما عنيدا مستندا على إيمانه بالقضاء والقدر، وهو الذي أدى مناسك الحج قبل سنوات قليلة كأنما أحس بدنو الرحيل. كان رغم إحساسه الداخلي باقتراب الأجل، وحديثه مع الخواص من أصدقائه عن الموت، مُصدّرا لقيم التفاؤل وحب الحياة. لا يمكن نسيان تلك اللقطة عندما كان أحد زملائه يساعده في حلق لحيته التي صارت كثة من أثر السرير، وهو يمازحه بالقول: "راك هردتني كامل".. وكأن محمد الذي عاش حياته محبا للجمال لم يكن ليتنازل عن هذه القيمة حتى وهو يستعد للموت. عاش جميلا ومات جميلا.