في وثيقة داخلية موجهة لأعضاء مجلس شورى حزبه قبل اجتماع حاسم للمجلس في غضون أيام، يكشف عبد الرزاق مقري، تفاصيل وحيثيات المقابلات التي جمعته بشقيق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتطور هذه العلاقات والتجاذب والحميمية بين قيادة حمس ومستشاري الرئاسة، بشكل يعيد للذاكرة سنوات الود بين الحزب والسلطة. متحدثا عن عروض جديدة للحزب للمشاركة في الحكومة واجتماعات التحالف الرئاسي، مشتكيا من تحرش شبكة المخابرات القديمة على مستوى الإعلام وبعض الأحزاب الإسلامية بحزبه لكسر مبادرته ل "إنقاذ النظام". عرض مقري في ديباجة الوثيقة المكونة من 8 صفحات، حصلت "الخبر" على نسخة منها، مسار مبادرة التوافق الوطني التي اقترحها الصيف الماضي وقام للترويج لها في عشرات اللقاءات العلنية والسرية مع قوى معارضة وقوى في السلطة وفي مقابلات صحفية وندوات إعلامية، والتي تهدف، حسبه، ل"لمّ شمل الجزائريين وتجنّب الآثار العصيبة التي تنتظر الجزائر في أمد غير بعيد ومحاولة تحويل التهديدات إلى فرص تجعل، حسبه، بلدنا (الجزائر) قادرا على السير في ركب الدول التي انعتقت من الضعف والتخلف وتحولت إلى بلدان نامية مزدهرة متطورة. مضيفا أن المبادرة انطلقت من "تحليل علمي واقعي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية التي تحيط بالبلد وكيانه ووحدته ومستقبله جراء سياسات الفشل والفساد اللذان تحلى بهما النظام السياسي الحاكم على مر السنين وخصوصا في العقدين الأخيرين"، أي فترة حكم الرئيس بوتفليقة و"اللذان تنزلت فيهما نعم متعددة كان بالإمكان أن تنهض بها عشر دول لا دولة واحدة" في إشارة للريع النفطي. ووضع مقري مبادرته الجديدة ضمن المنهج الذي أسس له مؤسس الحركة الراحل محفوظ نحناح، ومنها مبادرة التحالف الإسلامي في 1990، مبادرة مجموعة السبع ومبادرة الصلح الوطني والسلام والجدار والسيادة والذاكرة، ثم مبادرة ميثاق الإصلاح السياسي في 2013، ثم تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي في 2014 التي ضمت قوى وشخصيات معارضة. وأشار إلى التحول الذي تم بعد ذلك في مسار الحركة التي "شقّت طريقها لوحدها" ابتداء من الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية، حيث بدأت تدعو لصيغة جديدة من التوافق، وأطلقت لهذا الغرض سلسلة من اللقاءات مع أحزاب وقوى السلطة والمعارضة قاربت، حسبه، خمسين لقاء لم يعلن عن البعض منها. مشيرا إلى أن الوثيقة التي تمت صياغتها على ضوء المقابلات التي تمت أرسلت للجميع، منها الرئاسة ومختلف مؤسسات الدولة ومنها العسكرية. وذكر مقري أن المبادرة قوبلت بتفاعل إيجابي على مستوى الرئاسة وبعض قيادات المؤسسة العسكرية الذين وصلتهم الرسالة، وفهم من ذلك أنه "اعتراف صريح بالأزمة والإقرار المباشر بأن مبادرة التوافق "حل واقعي يمكن التشاور حوله".
لقاء شقيق الرئيس
قال مقري في وثيقته، إن التجاوب الإيجابي على مستوى الرئاسة، تبعه لقاء رسمي مع مستشار رئيس الجمهورية في إقامة الرئيس، أي سيدي فرج (لم يكشف تاريخ المقابلة ومن بادر بها)، حيث تم تثمين المبادرة من قبل المستشار، وينقل مقري هواجس "المستشار الذي أسرّ له ب "صعوبة تحقيق التوافق بين الطامعين في خلافة الرئيس" وتصورات مخبر الرئاسة للخروج من المأزق عبر تعديل ثالث للدستور لتمديد العهدة الرئاسية من عهدة من 5 سنوات إلى 7 بدل الذهاب إلى انتخابات رئاسية وهي فكرة كانت متداولة لسنوات في بعض دوائر السلطة. ومكّن اللقاء رئيس حمس من الحصول على صورة مقربة من خطط السلطة والبدائل المطروحة والتي تضم الذهاب إلى عهدة خامسة والتي ارتفعت أسهمها مؤخرا، واحتمال إجراء انتخابات رئاسية دون الرئيس بوتفليقة وفوز مرشح الدولة والاستمرارية، أي فكرة التمديد عبر تعديل دستوري. وذكر مقري أن على أساس هذه السيناريوهات، تم تكييف خطة التوافق الوطني، مع الأخذ في الحسبان مجموعة عوامل، في مقدمتها البحث عن مصلحة حمس وهي تقوم حسب خطط الحزب بالهيمنة على البرلمان وتقاسم السلطة وفق نموذجي النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب. وأوضح أن المكتب الوطني للحركة، وضع استراتيجية قامت على العمل لأجل إفشال مشروع العهدة الخامسة، استنادا إلى ما فهمه بأن عائلة الرئيس "متحرجة منها كثيرا بسبب التدهور الكبير لصحة الرئيس" ولأجل "تنظيم الانتخابات الرئاسية بالطرق التقليدية دون نزاهة أو توافق أو إصلاحات اقتصادية وسياسية التي ظهر أصلا أن حظوظها أصلا ضعيفة"، أي الإصلاحات. وأضاف أنه وفريقه عملوا على توظيف مقترح الاستمرارية لإضعاف خيار الخامسة أو إجراء انتخابات رئاسية في موعدها، من خلال إطلاق فكرة تأجيل الانتخابات لسنة واحدة (تعديل المبادرة جزئيا)، في إطار توافق بين السلطة على إطلاق إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة.
أكثر من لقاء في رئاسة الجمهورية وشكوك
أشار مقري إلى أن مقترح تأجيل الانتخابات الرئاسية جرت مناقشته في عدة لقاءات في رئاسة الجمهورية، وتوّج بتقديم ورقة تتضمن اتفاق مؤسسات الدولة على التأجيل في إطار التوافق وتحقيق الإصلاحات، ودخول السلطات بحوار جدي وغير إقصائي مع العناصر الأساسية للمعارضة في المعارضة (علي بن فليس على وجه الخصوص) والاتفاق على عناصر الإصلاحات والجدول الزمني والتأجيل، عقد ندوة وطنية، تعديل جزئي للدستور بواسطة غرفتي البرلمان لسنة واحدة، تشكيل وحدة وطنية تشرف على الإصلاحات الاقتصادية والسياسية وتعديل قانون الانتخابات بما يسمح بتحقيق مطلب اللجنة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات (إبعاد وزارة الداخلية عن التنظيم). وأورد مقري أن الرئاسة قبلت من الناحية المبدئية مضامين هذه الورقة، غير أن الحزب اشترط للانخراط فيها الحصول على موافقة كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، وأن تحصل على الموافقة من المصدر، أي من رئاسة أركان الجيش ودون وساطة (وجها لوجه وهو ما تم فعلا). وأشار مقري إلى مخاوف أعضاء في قيادة الحزب وفي المعارضة من سيناريو الخديعة ونصح بالحيطة والحذر وإعداد نفسه للانسحاب في حالة تراجع السلطة عن التزاماتها، واستجابت الحركة لتلك المحاذير من خلال الاعتذار لعرض المشاركة في الجلسات الجماعية لأحزاب الموالاة الأربع والشخصيات القريبة من الرئاسة للمشاركة في أفكار التمديد، (تكررت في نوفمبر وديسمبر) حيث اعتبرت عرض المشاركة "إجراء سابقا لأوانه". وجدد مقري دفاعه عن مقترح تأجيل الرئاسيات، لأنه "يساعد على إنهاء العهد البوتفليقي وليس إدامته وليكون في إطار سلس يحفظ استقرار البلد"، ولكونه "الوسيلة الوحيدة الممكنة والواقعية لإبعاد سيناريوهات أخرى سيئة وخطيرة على البلد وعلى الديمقراطية"، في ظل كون "المعارضة غير قادرة على مواجهة النظام السياسي رغم ضعفه وغير مستعدة لتحريك الشارع أو تقديم بدائل أخرى"، وهو حكم قاس جدا على حزبه وعلى شركائه في المعارضة. وفي تحول عن مبادئ أرضية مزفران التي دعت لدور الجيش في المرحلة الانتقالية، يرى مقري أن التعويل على المؤسسة العسكرية "غير وارد في ظل الدعم الكامل الذي يظهره رئيس أركان الجيش في كل مرة وفي مواجهة أي معارض لرئيس الجمهورية"، زيادة على أن منح دور للجيش يكرّس عسكرة الدولة أي الهيمنة على القرار وينهى فرصة تمدين العمل السياسي.
انقلاب
حاول مقري في الوثيقة دخول عقل الرئاسية، من خلال الخوض في الأسباب الخفية لتفاعلها مع مقترح التأجيل، فهو يمنحها منفذا في ظل اقتناعها بصعوبة قبول الرأي العام المحلي والدولي للعهدة الخامسة (وكأن الشعب له رأي) و"ازدياد مرض الرئيس مقارنة بما كان عليه في 2014، وعدم قدرته على تحمل أعباء الحكم في ظل معارضة ستكون أكثر شراسة" وأوضاع اجتماعية مهيأة لها. وأشار أيضا إلى معطى "خوف عائلة الرئيس على سلامتها مما يمكن أن يسببه الانتقال المباغت للسلطة لجهة أخرى"، أي لمجموعة في الحكم، و"عدم استعداد الرئيس من أن تنتقل لغيره صلاحيات رئاسية ضخمة منحها لنفسه أثناء قوته ولا يريد أن يرثها غيره". وتناول مقري ظهور مراكز مقاومة وتشويش على المبادرة، ويشير في الوثيقة إلى أنه كتب "بعدما ظهرت بوادر إمكانية تحقيق التوافق، تظافرت عوامل لإعاقة خطته. مجددا بالمناسبة هجومه على رئيس تجمع أمل الجزائر، عمار غول، لأن تدخله "كان سيئا جدا على مستوى الطبقة السياسية التي شككت في مصداقية خطة التأجيل واعتبرت أن تبني حزب "تاج" الموضوع دليل على عدم جدية السلطة وفقدان مصداقية وساطة حزبه". وحمل جانب من "فشل" الخطة" للمقاومة التي أظهرها أحمد أويحيى وما يعرف بالدولة العميقة، متحدثا عن "تحرك شبكات المخابرات القديمة (جناح الجنرال توفيق) على مستوى الإعلام وبعض الأحزاب السياسية (مواطنة) لكسر فكرة التأجيل، باعتبارها تمثل خطرا على مشروعهم لإنهاء عقد بوتفليقة بانتخاب رئيس جديد يكون لهم دور في اختياره وتسنده الدولة بالطرق التقليدية (التزوير). ووضع مقري عائلته السياسية أيضا في قائمة الاتهام، وتحدث عن تشويش بعض الإسلاميين من خارج الحركة (البناء والعدالة والتنمية) ومن داخلها (أبو جرة سلطاني وأنصاره) من خلال الاتصال بنفس الأحزاب والشخصيات التي تتصل بهم الحركة، ويورد أن بعض الشخصيات كانت تبلغ حمس بمساعي "المشوشين"، وأن بعض جهات السلطة "حاولت ابتزازهم بها". ورصد مقري انتقال قيادات المعارضة من التشويش إلى إصدار تصريحات إعلامية ترفض فيها مقترح التأجيل (بن فليس، جاب الله، محسن بلعباس)، بحجة الحاجة لاحترام الدستور، محاججا إياها بأن بديل التأجيل هو العهدة الخامسة والتي تعد حسب رأيه قفزا على الدستور بسبب المانع الصحي للرئيس. ويشير رئيس حمس إلى التطورات التي كانت في غير صالحه، متمثلا في رفض المؤسسة العسكرية للتأجيل، مستندا لتصريحات رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح في ديسمبر.
تعديل حكومي وسيناريوهات
تحققت نبوءة مقري بسقوط ورقة التأجيل وفشل صفقة التوافق، حيث أبلغته الرئاسة "رسميا" خلال آخر لقاء معه بأن التأجيل أصبح غير ممكن بسبب عدم القدرة على التوافق (بين الأجنحة) الذي يسمح بالتعديل الجزئي للدستور، وفهمت الحركة أن الغلبة مالت لخيار العهدة الخامسة، لكن الرئاسة وعدته بأن البرنامج الانتخابي سيضم الإصلاحات العميقة التي تم الاتفاق عليها مع حزبه، مضيفا أنه تم تجديد دعوة الحركة بدخول الحكومة في جانفي الجاري إن رغبت في ذلك. وجدد مقري رفض قيادة حمس عدم قبول حمس بالعهدة الخامسة أو دخول الحكومة، وأنه ليس للحركة تفويض بذلك من مجلس شورى الحزب، مبقيا بالمقابل على القنوات المفتوحة مع الرئاسة. وخلص مقري في عرضه إلى أنه رغم ميل الكفة لصالح "الخامسة"، فإن تحولات قد تحدث، منها "انتخابات دون مشاركة الرئيس الحالي أو حدوث توافق يفضى للعودة إلى مقترح حزبه. ودافع مقري عن حصيلته، وتحدث بنرجسية كعادته، عن تحقيق حمس لمكاسب مهمة، ومن ذلك فتح قنوات اتصال جديدة ومد جسور كانت مقطوعة مع العديد من الأطراف في الدولة وفي الساحة السياسية. مشيرا إلى أن حمس هي الجهة الوحيدة التي قدّمت مبادرات ومشاريع لإخراج البلد من الأزمة (إلغاء الآخر)، وتحدّث عن تأكد مكونات الدولة الجزائرية من "حقيقة الحركة وقياداتها على المستوى الأخلاقي والروح الوطنية والكفاءة السياسية والمرونة وسعة الأفق (لا داع للخوف منها) وعدم الخضوع للابتزاز والابتعاد عن الطمع والانتهازية" و"وزن الحركة من خلال حرص السلطة على عودة حمس للحكومة". وأعلن مقري في ختام الوثيقة عزمه على إطلاق سلسلة مشاورات جديدة داخل الحركة وإبقاء خطوط الاتصال مع الرئاسة وتكثيف التحركات الميدانية في الفترة المقبلة لضمان حضور الحركة في الساحة.