من جوامِع كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قولُه للصّحابي سفيان بن عبد الله رضِي الله عنْه حين سألَه قائلًا: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “قُلْ: آمنتُ بالله، ثمّ استَقِمْ”؛ والاستِقامة هي لُزُوم طاعة الله عزَّ وجلَّ، وطاعة الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ولُزُوم الأَوامِر والنّواهي بفعل الأمر وترك النّهي، وهي إتيان الطّاعات واجتِناب المعاصي. كما قال بذلك عمر بن الخطاب رضِي الله عنْه: (أن تستَقِيم على الأمر والنّهي، ولا تَرُوغ روغان الثعلب). الاستقامة بمعناها الواسع هي الالتزام التام بأوامر الله تعالى في جميع الأقوال والأفعال وفي المنشط والمكره والعسر واليسر وفي اللّيل والنّهار وفي السرّ والجهر وفي حال الصحّة وحال المرض، وهذه الاستقامة لا يتحصلها الإنسان إلّا بجهد وتعب ومشقّة لأنّ الدّنيا هي دار الابتلاء والاختبار كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. والاستقامة واجبة، فلقد جاءت الآيات توجب لُزُوم الصّراط المستقيم؛ قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وقد أمَر الله سبحانه وتعالى نبيَّه محمّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعه من المؤمِنين بالاستِقامة على الدّين؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقال عنها الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: “شيَّبتني هودٌ وأخواتها”. كما بيَّن سبحانه وتعالى عاقِبةَ أهلِ الاستقامة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. والاستقامة على منهج الله تعالى مطلب سام وغاية يسعى لها كلّ مؤمن، وهو ما يلهج به لسان المصلّي صباح مساء في صلاته بل في كلّ ركعة منها عند قراءة سورة الفاتحة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. وإنّ من الأسباب المُعِينة على الاستقامة: تقوى اللهِ ومُراقَبته، ودعاء الله سبحانه وتعالى بالهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، والاستِعانة بالله عزَّ وجلَّ، والتوكُّل عليه؛ لحديث عبد الله بن عبّاس رضِي الله عنْهما: “احفَظِ اللهَ يَحفظْك”، وطلَب العِلم الشّرعي (العلم نور)، ولزوم الرّفقة الصّالحة (الجليس الصّالح)، والأعمال الصّالحة مِن برِّ الوالدين، وصِلة الرَّحِم وغيرها، وكثرة النّوافل، وقراءة القرآن الكريم وتدبُّره، وكثْرة الذِّكْر؛ قال تعالى: {اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}.. وغير ذلك من الأعمال الصّالحة. والمتأمّل في قول الله تعالى: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} يجد أنّه سبحانه وتعالى قرن الدّعوة إلى الله تعالى مع الاستقامة في آية واحدة، لا لشيء إلّا أنّها من أهمّ المهمّات، وأوجب الواجبات، وأعظم القُرُبات، فالدّعوة مهمّة الرسل، ووظيفة الأنبياء، فبها يستقيم أمر الفرد، ويصلح حال المجتمع، وقد رتّب الله عليها الأجر العظيم والفوز العميم واختار لها أفضل الخَلق وأكرم البشر وسادة القوم وصفوة الأمّة وفضلاءها، وهم الأنبياء والمرسلون والدّعاة والمصلحون ومَن سار على نهجهم واقتفى أثرهم. ولن تتأتّى الاستقامة وتكمل إلّا بأمور، أهمّها معرفة طريقها والعمل بها واستبانتها بالدّليل الشّرعي الصّحيح، والعمل بها والتزام تطبيقها ظاهرًا وباطنًا، مع الدّعوة إليها والتّواصي بلزومها ودفع ما يعيقها ويضعفها، والثّبات عليها والصّبر على لزومها حتّى الممات. وقد بيَّن تعالى عاقبة هذه الاستقامة في الآخرة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وذكر أنّ ملائكته الكرام تنزل بالبُشرى لهم بالفوز والظفر والمنّ من الخوف والحزن كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، بل إنّ ثمرات هذه الاستقامة تظهر عاجلًا في حياة الإنسان كما قال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}. أمّا ثمرات الاستقامة فهي: الأمن في الدّنيا والآخرة، والمحبَّة مِن الله عزَّ وجلَّ، ومِن النّاس، والتّوفيق مِن الله عزَّ وجلَّ، والتّعاوُن وترابُط وقوّة المجتمع وتماسُكه. [email protected]