لقد جعل الإسلام الزّكاة ركنًا من أركانه، وفريضة من الفرائض الّتي يعاقب المؤمن على تركها ويثاب على أدائها. وفي فجر الإسلام، اضطرّ الخليفة الأوّل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لخوض حرب ضدّ مَن ترك أداء الزّكاة، لأنّه عدَّ ذلك انقضاضًا على حقوق الفقراء الّتي ضمنها الإسلام. الزّكاة في الإسلام هي أوّل نظام عرفته البشرية لتحقيق الرّعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين، والزّكاة طُهرَة لأموال المُزَكّي وطُهرة لنفسه من الأنانية والطمع والحرص وعدم المبالاة بمعاناة الغير، وهي كذلك طُهرة لنفس الفقير أو المحتاج من الغيرة والحسد والكراهية لأصحاب الثروات. وتؤدّي الزّكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية، إذا أحسن استغلال أموال الزّكاة وصرفها لمستحقّيها. ولكي تحقّق الزّكاة هدفها لا بدّ لها من مؤسسة متخصّصة، تقوم على إدارة شؤونها وتصريفها في مصارفها الشّرعية بكلّ دقّة وأمانة، وقد اعتمدت بعض الدول العربية تنظيم الزّكاة جباية وتوزيعًا على مجموعة من القوانين والتشريعات والتعليمات الإدارية والتنفيذية الخاصة بفريضة الزّكاة، غير أنّ هذه الدول عددها قليل جدًّا. إنّ الإسلام جعل الزّكاة وتوزيعها وظيفة للحكومة الإسلامية ولم يتركها لضمائر الأفراد - وإن كان للضمير دور مهمّ في الالتزام بها طواعية - من هنا كان لا بدّ من الانتباه إلى أهمية تناسق التنظيم الإداري لمؤسسة الزّكاة مع النظام الإداري القائم، وأن يقوم هذا التنظيم على الأسس والمبادئ العلمية، وأن تؤخذ في الاعتبار العوامل والمتغيّرات التنظيمية الّتي تحكم تنظيم هذه المؤسسة. ومن المفترض أنّ الوظيفة الدّينية تحتل الدرجة الأولى في سُلّم الأولويات للدول الإسلامية، بالإضافة إلى الدور الخطير الّذي تؤدّيه هذه المؤسسة في حياة المجتمع. ومؤسسة الزّكاة عبارة عن هيئة زكوية تهدف إلى زيادة الوعي بالزّكاة، وترسيخ مفهوم فاعلية الزّكاة، ودورها المهمّ في المجال التنموي على صعيد الفرد والمجتمع، وتعمل على إحياء هذه الفريضة تطبيقًا وممارسةً لتستفيد منها الشّرائح المحتاجة على اختلافها وفقًا للمصارف الشّرعية الّتي تسمّى “مصارف الزكاة”. وتستند مشروعية إقامة مؤسسة تقوم على الزّكاة للأدلة الآتية: المرجعية الشّرعية يجب على الحكومات القيام بشؤون الزّكاة جمعًا وتحصيلًا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وقوله الله صلّى الله عليه وسلّم: “بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان”. وأجمعت الأمّة كلّها خلفًا عن سلف وجيلًا إثر جيل على أنّ الزّكاة فريضة دينية، يجب على الحاكم المسلم القيام بها. والفرد المسلم ليس حُرّا في دفع الزّكاة أو عدم دفعها، بل هو ملزم بدفعها، ويجب على ولي الأمر أخذ الزّكاة من مانعيها مع التّغريم المالي قهرًا عنهم، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “مَن أعطى زكاة ماله مؤتجرًا فله أجرها، ومَن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله عَزمة من عزمات ربّنا ليس لآل محمّد منها شيء”، هذا عدَا العقاب الأخروي الّذي توعَّد به الشّارع مانع الزّكاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}. المرجعية القانونية تُعدّ عملية تنظيم تحصيل الزّكاة وصرفها مهمّة أصيلة من مهام الدولة المسلمة المعاصرة، يدلّ على ذلك الدستور، لاسيما المادة الّتي تنصّ على أنّ “الإسلام دين الدولة”. الضّرورة الاجتماعية والاقتصادية أصبحت هذه المؤسسة ضرورية في ظلّ المحاولات والجهود الصّادقة الّتي تجري على الساحة الإسلامية بهدف تطبيق الاقتصاد الإسلامي بصفة عامة وتفعيل فريضة الزّكاة بصفة خاصة، بما يجعلها تحقّق أهدافها في إصلاح الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدّينية للمجتمع الإسلامي. ولذلك، فإنّه لا بدّ من إقامة وتنظيم مؤسسة الزّكاة، وتوفير عناصر ومقوّمات نجاحها وفعاليتها في ظلّ الظروف والأوضاع المعاصرة. وإنّ نجاحها في أداء وظيفتها يعدّ في غاية الأهمية، لأنّه يقدّم البرهان العملي على جدوى تطبيق الاقتصاد الإسلامي ودوره في إصلاح أحوال المسلمين، وهذا يجعل العالم الإسلامي يأخذ بالمنهج الاقتصادي الإسلامي في مختلف جوانبه. ومن الأسباب الّتي تحتّم إقامة مؤسسة حكومية للزّكاة أنّ ذلك يُعدّ واجبًا دينيًا وضرورة اجتماعية واقتصادية وتنظيمية في نفس الوقت. واعتمادًا على القاعدة الّتي تقول: “ما لا يتم الواجب إلّا به، فهو واجب”، ولن نستطيع تطبيق وتنفيذ ركن الزّكاة على الوجه الأكمل إلّا من خلال تنظيم هذه الفريضة عن طريق مؤسسة تدير أمور الزّكاة بصورة علمية دقيقة. تبرز هنا مسألة ضرورة العمل المؤسسي لتحقيق المصالح المنتظرة من هذه الفريضة، والّتي لا يمكن عمليًا أن تظهر إلّا بتنظيم واسع لها يخرجها عن الفردية والتصرف الخاص، ويضعها بيد المؤسسة الكبرى الّتي تتمكّن من خلال تمثيلها للمجتمع بطاقاتها وتخصّصاتها من معرفة حاجات المجتمع لتغطيتها، وذلك بناء على دراسات وإحصاءات وبأسلوب يحفظ كرامة الفقير. [email protected]