أود من خلال هذه المساهمة أن أقاسم المواطنين جملة من المعاينات والآمال وعددا من ألوان الحيطة والتخوف التي يوحي بها ما تجابهه البلاد مرة أخرى من صعوبات وعراقيل. ينبغي في مثل هذه الحال أن نغتنم الفرصة للتمعن ومحاولة فهم أسباب تخبط البلاد حتى الآن في الأخطاء نفسها، وفي ما يمكن وصفه أنه قلة استيعاب، في وقت أن الظروف تغيرت وتغيرت الإرادات والإعلانات وآليات العمل، لنتمعن. من البديهي أن الشعب والأرض هما المصدران المؤسسان للوعي الوطني وللسيادة، وأنهما من أركان تأسيس الدولة والدستور. إن الأرض والشعب والدولة والدستور والمدرسة من خلال القيم التي تزرعها في الناشئة والنخب التي تفرزها وتصقلها، هي العوامل التي يعول عليها للنجاح في انتزاع الحق في الوجود والتعايش مع الأمم والتنافس والتدافع أو المواجهة معها. واضح جدا أن الشعب والمجال الجغرافي قد مثلا بعدين أساسيين في صقل الأمم ذات الهوية الراسخة وبناء دول قوية وإنشاء مؤسسات دستورية متبصرة وماهرة وإنجاب نخب يقظة ومجددة تحشد المواطنين بروح الجماعة الوطنية والمصلحة العامة وتنزع بها نحو التضامن والانضباط السياسي. إن مثل هذه الشعوب ومجالاتها الجغرافية الإقليمية ونخبها هي التي طبعت وتطبع حركة تاريخ الحضارات والمعرفة والقوة والسؤدد. يسمو المجال الجغرافي فوق كل اعتبار. إنه ملك الشعب وملك كل فرد منه. يغذي الشعب رباطه المقدس مع مجاله الجغرافي بتأكيد حقه الثابت فيه، ويتحمل أعباء تاريخه الوطني وذاكرته وهويته. لهذا الغرض يمنح الشعب نفسه وسائل وأدوات مؤسساتية، سياسية وأمنية لتنظيم حياة المجتمع، كما يشهر عزمه على اختيار المثل التي يهتدي بها بكل حرية والقوانين التي تحكم شؤونه وانتخاب قادته ومراقبتهم. وبالفعل المجال الجغرافي هو الذي يطبع الشعب وهو الذي يعطيه إمكانية التميز بهويته وتحديد وجوده وأن يفكر في هذا الوجود وأن يبني نفسه ويزيد عيشه ازدهارا ويتقدم بثبات نحو المستقبل وأن يحمي نفسه ويضع استراتيجيات من أجل استمراره وأمنه. كل شيء يعود في الواقع لهذا التراب وهذا المجال ويتحدد به. ومصطلح إقليم هو مصطلح إداري قليل الشحنة العاطفية وهو للاستخدام الدارج، أما مصطلح البلاد فهو مصطلح عملي للاستخدام الدبلوماسي والإعلامي فقط وهو يؤشر أو لا يؤشر لهوية أو لشكل من أشكال الإرادة ولشكل من السيادة. الشعب والمجال تبعا لهذا هما أساسا الدولة وهما غاية الدستور. والدولة والدستور ولدا من رحم البحث عن الحرية والأمن والأمل في التخلص من الخوف والاحتماء من كل اعتداء وأنواع التهديد وأشكال التخويف والإخضاع. إن غاية الدولة والدستور والمؤسسات هي الحرية والأمن والعدالة. والمأمول منها التأمين من الخوف والحماية من كل ترهيب ومن كل اعتداء ومن كل أنواع الإخضاع. والدولة والدستور والمؤسسات ما هي في الأخير إلا ترجمة لإرادة جميع المواطنين في العيش سواسية في كنف الحرية والأمن والأمان بكل شرعية وقانونية على كامل التراب الوطني. لهذا فالدولة هي سيادة مطلقة في الداخل وفي الخارج ولا ترضخ لأي سيادة أخرى ولا تتقبل أي مساس بها. فالدولة في حالة مواجهة دائمة من أجل البقاءوهي محل تهديد دائم. وحتى يتسنى للدول إقامة علاقات مصلحيه ظرفية والتقليل من التشنج وحدة المواجهة والتدافع بينها كان لابد من التوقيع على معاهدات واتفاقيات ومواثيق منها ميثاق الأممالمتحدة. إن الدولة والدستور والمؤسسات والنخب هي شروط أولية أساسية متكاملة لوجود سيادة وديمومتها ولاستقلال الأرض ولتأسيس الحكم واستمراره. ومن المعلوم أن وجود الدولة يعني تأسيس حكم وإقامة سلطات، وأنه أينما وجدت ممارسة غير مدسترة للسلطة سواء اعتبرت شرعية تاريخية أم لا، قانونية أم لا، مبررة أم لا، مقبولة أم لا، فليس هناك بالضرورة سيادة ولا وجود لشكل من أشكال الدولة. الدستور نص ينظم حياة المجتمع والأفراد والمجموعات يحمي التراب الوطني وينظمه وليس أبدا مبررا وذريعة للسلطة. إن تولي أية سلطة يتم بنص دستور واضح ومنظم وتمارس بواسطة الإنابة ولمدة زمنية محددة لكل مسؤول وكل منتخب، تمنحها انتخابات الشرعية وتندرج في منظومة مؤسساتية سيدة ونظام انتخابي مصون. إذا كان الدستور يمثل السيادة التأسيسية للشعب، فإن الحكم يمثل إرادة انتخابية ظرفية سيدة للناخبين. إن شعبنا وأرضنا في حاجة لدستور يوثق رابطه المقدس الذي لا انفصام له وسيادته التي لا طعن فيها، ويؤكد ثقة الشعب وتماسكه وتطلعه. دستور يحرر الشعب والأرض من كل أنواع الخوف ومن كل أنواع الشكوك ومن الكذب والنفاق والتعنيف والسيطرة. دستور يؤهل المواطنين للحفاظ على حرياتهم ويرسخ سيادتهم ويضمن لهم حقهم في الأمن وحقهم في الوجود. دستور يشعر من خلاله كل أفراد المجتمع أنه تعبير أكيد عما بخلدهم حتى يعتمدونه ويدافعون عنه في كل الظروف. دستور يطبع حاضر الشعب ويقلب مستقبله. إن شكل المؤسسات وموقف النخب وإرادتهم وإصرارهم هي التي ترسم ملامح وضعية البلاد وتحدد شروط إدارة الحكم. لكل هذه العوامل دور أساسي في مسارات التناغم والتوافق والتنمية وأيضا في الاستقرار والأمن وفي مستوى الثقة والطمأنينة في الروابط الاجتماعية وفي الرقي الدائم وفي التنمية المستدامة. هذه العوامل هي أكبر من أن تكون مجرد شروط ضرورية لشعبنا وهو في حاجة ماسة لتحول عميق ولأمة تبني صيرورتها ووجودها. لهذا فكل أزمة تشكل لحظة حاسمة في صيرورتنا. لهذا يقع على عاتق النخب، لاسيما نخبة الحكم، إبداع قواعد وإطلاق مسارات سياسية من أجل حكم الشعب وحكم أرضه وبناء مجتمع الحق والحريات. عليهم يقع كذلك واجب وحتمية الحث على التناغم الوطني وحمايته وضمان حقوق وحريات كل مواطن بجعل نموذج الحكم والقوانين في تطابق وتلاؤم دائمين مع كل الحقوق والحريات. وحتى تظل الوحدة الوطنية نشطة ومنسجمة بالفعل، ويكون الرابط الوطني متواصل وفعال مع كل المجتمع، على الحكام أن يمثلوا إرادة الشعب ومصالحه المشتركة ويضمنون خياراته ويؤمنون استقراره ويحافظون على ارتقائه الدائم، بتحقيق التقدم المستمر في كل المجالات. ولهذا فإن ظهور ظرف أزمة أو إخفاق أو أية أزمة اقتصادية أو صحية وعند حدوث أي احتجاج أو أية قطيعة، هو في حقيقة الأمر يضع محل تساؤل واختبار جوهر الحكم ونموذجه وجدوى آلياته ومناهجه ودوره وفعاليته وكل مناحي اللين والتصلب فيه ونوعية علاقاته الاجتماعية والمحلية. والأزمة الصحية العالمية الحالية ما هي إلا اختبار إضافي جديد والإقرار بأنها أزمة عالمية لا يشكل جوابا قط. فكل أزمة مهما كانت طبيعتها ومهما كان حجمها، وبغض النظر عن الأشخاص، ما هي في الأخير إلا ثغرة أو عطل أو ضعف تقدير وسوء استشراف. بالنسبة للجزائر وقت التساؤل والاختبار هذا، هو الآن وليس غدا، حتى وإن اختفت، خلف بعض المبادئ وبعض المفاهيم والقناعات وبعض المطالب والشعارات والخصومات، نوايا لزرع التفرقة والكثير من المغالطات المضللة والأخطاء القاتلة والأكاذيب الخطيرة والانطباعات الوهمية. إن الحريات الجماعية والديمقراطية السياسية والنقابية والسلطات المضادة والرقابة تعاني من قلة فهم ومن سوء استيعاب وتعاني من نقص في التوظيف والاستخدام ومن غياب مضر في الممارسات السياسية والنقابية والاجتماعية، في حين أنها ضرورية للأفراد والمجموعات وهي أساسية كذلك لديمومة الدولة ومناعتها وللممارسة الرشيدة للسلطة ولحماية الحكام. إنها ضرورية أيضا لحفظ استقرار الحكم وتغذية المشاركة والانسجام والتضامن الاجتماعيين. إن إبعاد هذه الممارسات وإنكارها يعني تعريض مناعة الدولة للخطر ووضع الحكام تحت رحمة الظروف وفسح المجال واسعا أمام التدخلات الأجنبية. يمكن التحجج بأن هذه المفاهيم وهذه الممارسات ترتبط بمستوى الصحوة الاجتماعية والالتزام السياسي أو حتى الادعاء بأنها من لبنات ثقافة أخرى، ولكن لا يمكن أبدا نعتها بأنها مخاطر كبرى مهددة للوعي الوطني الجزائري أو اعتبارها مؤامرات ضد الدولة أو تهديدات أو منغصات على حكم القانون والحق. هذه المفاهيم وممارستها وكذا الصحافة وشبكات التواصل الاجتماعي صارت أدوات لممارسة السيادة الوطنية والمواطنة وهي قلاع وملاذات ضد كل أشكال التشويش والتدخل الأجنبي وهي جدران حامية من الضغوط والابتزاز الاقتصادي والأمني. لقد صارت، في البلدان ذات السيادة الكاملة والبلدان الأكثر يقظة والأكثر قوة، جزءا لا يتجزأ من المنظومة الأمنية ومن أدوات الدفاع الوطني. في هذه البلدان لم يعد يكتفي فيها لتولي الحكم بالوفاء بالوعد وبالفضيلة وأداء القسم أو الادعاء بالوطنية بل أصبح الخضوع للرقابة والمراقبة والتأهيل والمراجعة حتميا. أما بخصوص إسهام هذه الأدوات في تنمية الوعي الوطني وفي الاقتصاد والحياة الاجتماعية وفي الثقافة والمعرفة، فهي أدلة دامغة تقدمها المجتمعات الأكثر تطورا. وغني عن القول أنها أيضا أسلحة مثلى ضد كل أشكال التطرف والرشوة والفساد وكل تعسف وكل قلة كفاءة وكل تبذير وتنازع المصالح. لقد حُرمت الدولة الجزائرية الفتية من هذه الآليات الضرورية للمناعة وممارسة السيادة وحماية الحكام والمسؤولين. إن الرقابة المجتمعية والمؤسساتية، السياسية أو القانونية، هي محل سوء فهم آخر. إن الرقابة ليست عملية تحدي أو غلبة، لأنها آلية تحمي الحكام والمسؤولين من مخاطر قلة اليقظة والانضباط والتآمر أو الانحياز المصلحي ومن الاختلاسات ومن قلة الأمانة ومن قلة النزاهة. معلوم أن الرقابة تسمح بممارسة أنقى للسلطة واحترام أجود للقانون وللتوجيهات والأوامر وهي أيضا ضمانة لإنجاز الأهداف وتجسيد الخيارات. فالرقابة إذن هي الملاذ والحليف الأفضل لكل حاكم ولكل مسؤول. إن حكما وطنيا كاملا، وبغض النظر عن كل دوغماتية، هو الأداء النشط لمجموع هاته الآليات ولكل هذه الممارسات السلطوية وللسلطات المضادة والرقابة والمراقبة والقبول السياسي. فالديمقراطية إذن، وبغض النظر عن تعريفها المتفق عليه أو الأكثر شيوعا، فإنها ليست مذهبا ولا حالا جامدا ولا وضعا مهتزا. إن الديمقراطية مسار حيوي نشط في أداء الحكم وفي الحماية والرقابة. ما الذي يمكن أن نفعله نحن الجزائريون تجاه كل هذا التأخر والعجز والثغرات وتجاه كل هذا القصور ونقاط الوهن وكذا تجاه هذه التحديات وهذه المستلزمات ؟ نحن أمام فراغ سياسي تنظيمي رهيب وشنيع. ليس هنالك هيكل مؤسساتي أو سياسي عدا مصالح الأمن والإدارات الإقليمية (أدوات القانون والخدمات) وهي الوحيدة المتجاوبة والتي تتمتع بمصداقية مؤكدة. وليس هناك تنظيم سياسي أو نقابي يتمتع بالشرعية التنظيمية الأكيدة ولا تمثيل اجتماعي يحظى بالتقدير والتصنيف بما في ذلك تلك التنظيمات الحزبية التي تتغطى بهالة "الثورية" أو تلك التي تتفاخر بدورها أو بمساهمتها في الماضي. كما أنه ليس لأي هيكل اقتصادي أو مالي قائم قدرة الإدارة والحث أو التأثير بشكل حاسم في الاقتصاد الوطني. بلدنا في حاجة ماسة للتعبئة ولكل أشكال التضامن والتآزر. وهو في حاجة ماسة أكثر لدولة قوية ولسلطة تنفيذية ناجعة. إن قواتنا المسلحة التي يتمحور حولها تنظيم أمننا ودفاعنا الوطني مثل باقي الجيوش التي يعتد بها، في حاجة ماسة كذلك لتناغم وتلاحم درعها الوحيد المأمون الشعب وأرضه. وقد تأكد ذلك مرة أخرى خلال أشهر الحراك. يستلزم الظرف اليوم توفر هذه الشروط من أجل حكم فاعل وفعال، لاسيما وأن أزمة الشرعية قد انجرت عن تعاقب أزمات فقدان الثقة وقلة النجاعة وتكرار الفشل. إن كُلف هذا التبذير وكُلف هاته الإخفاقات المتكررة وتلك الانحرافات التي عرتها المحاكمات الأخيرة لم تعد تسمح بأي تصحيح ولا بأية إصلاحات. إن الحكم هو أب كل النجاحات وسبب كل الإخفاقات. فالنتائج الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية باهرة كانت أو باهتة ليست إلا انعكاسا لنضح وحيوية المؤسسات أو لخمولها وقصورها. كما أن كل أمراضنا وألوان ضعفنا وقصورنا ازداد فتكا بسبب وهن إدارات الدولة الدائمة وضعف الإدارات المحلية التي أصيبت باختلالات كثيرة وتقلصت حيويتها بسبب التدخلات ألسياسية العشوائية وأصبحت غير مهيأة لإنتاج أوراق عمل وتقديم تحليلات كاملة وإعطاء معلومات مدققة. كل هذا، نقائص وقصور، يقدم للرأي العام على أنه أمراض البيروقراطية المقيتة، في حين أن مجتمعنا لا يحظى بعناية نظامية كافية وأقاليمنا ليست منظمة ومدارة بشكل سليم. ولهذا فإن كل حل جزئي أو قطاعي لا يندرج في مسار شامل وفي خطة متكاملة لن يكون ناجعا. بل أخطر من هذا فإن أي حل من هذا النوع يتسبب في اختلالات إضافية ويعمق من عجزنا ويزيد في خيبة أملنا واستلابنا. من المؤلم أن هذا الظرف المحك، لم يفرز إجابة قوية ولم يطلق مسارا اجتماعيا سياسيا مجندا، كما لم يمنح النخب طموحات جديدة، بالرغم من أن للجزائر نصيب ثري من ثقافة التجنيد والتوافق وإطلاق مسارات تغيير جذرية كثيرة عبر حركتها الوطنية، من إنشاء المنظمة الخاصة إلى تفجير ثورة التحرير وعقد مؤتمر الصومام ثم تشكيل الحكومة المؤقتة وتوحيد فيالق جيش التحرير الوطني. لقد كانت كل هذه المراحل والمحطات ثمارا لمسارات تحول وتعديل عميقة شجاعة أجريت عقب مداولات المجلس الوطني للثورة الجزائرية والسلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة المؤقتة. وكان النصر المبين. من المؤسف حقا أنه في فترة من فترات ما بعد التحرر أراد البعض أن ينوب عن إرادة الجزائريين ونابت الإملاءات عن المسارات وحرمت سياسة الإبقاء على الأوضاع القائمة فتح أي آفاق جديدة. وبسبب غياب مشروع سياسي وغياب توافق لجأت أغلبية النخب الوطنية إلى البحث عن حلول شخصية. لقد أدت كل هذه الخيارات إلى نشر غموض على توجه البلاد والحط من سلطة الجزائر الأدبية وقللت من أهمية مواقفها ومن قيمة التزاماتها. وتبقى التصرفات العاطفية والتصرفات العفوية والمواقف الجهوية والقبلية وتلك المواقف الرافضة لأي حكم وطني، تشدد على الاستمرار في الإيحاء بأن "الدولة" ليست في حاجة للديمقراطية وأن الحكومة يمكنها أن تستغني عن احترام الحقوق والحريات والانصياع للقانون والاستغناء عن قيام قوى سياسية واجتماعية منظمة تؤطر المجتمع ومهيأة لممارسة الحكم. ينبغي التذكير أن سلطة تنفيذية مهيمنة باسم "الدولة" من دون فعالية تذكر ومن دون أي رقابة ومن دون سلطة مضادة، هي أقصر الطرق نحو التطرف والاضطرابات والتنافر واليأس وزرع الأحقاد وتصفية الحسابات داخل وخارج دواليب السلطة. بل ستبقى مثل هذه السلطة منفذا واسعا للضغوط والتدخلات والمساومات الخارجية. بالمقابل، فإن أية ديمقراطية غير متأصلة وغير مهيكلة ومن دون هيبة الدولة الوطنية ودروعها الواقية من سلطات مضادة وسلطات الرقابة والمراقبة ووجود قوى سياسية محكمة التنظيم هي سبيل أكيدة للإقصاء والتعسف والفوضى وألوان العنف. إن أي رغبة في الاستمرار في العمل خارج منطق الوعي الوطني والالتزام السياسي وخارج مسار سياسي واضح وبعيدا عن أية رقابة وتغيب الرأي العام وتنظيمه تعني في ما تعنيه تغذية الوضع القائم ونتائجه الوخيمة، كما تعني الإبقاء على ألوان الهشاشة الحالية، وزيادة خطورة التمزق القائم وتأجيل التفكير في كبريات المسائل الوطنية ومعالجتها. من حق أي كان أن يعبر عن أمله وأن يقترح وأن يكون له طموح أو أن يتوقع مكافاءات. لكن في مجال ما يخص الدولة والحكم، فإن الخيار السياسي وحقائق الوضع وما هو ممكن هي العناصر الحاسمة التي يعتد بها فقط. وهذا يفرض بالضرورة حتمية اللجوء إلى الممارسة السياسية وفن الممكن فيها. إن مسار إعداد أي توافق سياسي أو تحقيق أي تراض هي من موروثات فن الممكن مشفوعة بجسارة الإيمان وجرأة الوضوح. كل مسار سياسي هو إرادة وخيار وغاية، لأنه بمجرد الشروع في تجسيد أي مسار سياسي سيتغذى هذا المسار من حيويته السياسية الذاتية للوصول لغايته دون حاجة لإحداث أي فراغ في السلطة. يسمح مثل هذا المسعى بإعادة بناء الثقة والحصول على دعم ومساندة إضافية وإقامة روابط سياسية واجتماعية بينة. معلوم أنه يمكن إيقاف أي مسار سياسي توافقي أو تراض، حتى بعد إطلاقه، لكن لا يمكن تحويل مجراه وعكسه، حتى وإن تعرض للتضليل أو أغرق في المزايدات والأطماع. تلكم هي السبيل الحتمية لأي مخرج. * رئيس حكومة سابق (06 سبتمبر 1989/03 جوان 1991)