يؤكد الدكتور عبد السلام فيلالي أن ما يحدث في الجزائر، «صحوة مواطنية» من شأنها تأصيل العمل السياسي وتصحيح الانحرافات، وينبه أستاذ العلوم السياسية بجامعة باجي مختار ورئيس مخبر التنمية المستدامة والحكم الراشد بجنوب المتوسط ; وصاحب العمل الضخم «الجزائر: الدولة والمجتمع»، إلى أن صناديق الاقتراع هي الوسيلة الوحيدة لاختيار الممثلين في الديمقراطية، وأن منح الشارع حق تعيين الممثلين سينتهي بنا إلى نقطة الصفر أي إلى الشمولية. ويرى حل الأزمة في الرجوع إلى الدستور وتطبيق القانون والفصل بين السلطات. - كيف تقرأ ما يحدث في الجزائر اليوم، وأنت الذي رصدت تطوّر المجتمع الجزائري ودرست مراحل بناء الدولة الوطنية؟ منعطف جد هام، أعتقد أن الجزائر تعيش صحوة مواطنية. لم يحدث قبل 22 فيفري 2019 أن حدث مثل هذا التواصل الضروري بين المجتمع والدولة، بحيث يقاس الأمر من خلال بعد المشاركة في الشأن العام والسعي إلى توجيهه نحو وجهة جد مأمولة، أي دعم الديمقراطية وتأصيل العمل السياسي وتصحيح الانحرافات التي تشوب الحياة السياسية منذ فشل تجربة الانتقال الديمقراطي في بداية تسعينات القرن الماضي. لقد فهم المواطن أن غيابه عن المشهد السياسي ينعكس سلبا على أداء كل مؤسسات الدولة، ويخلي الفضاء العام فسيحا لصالح الوصوليين والفاسدين. لقد كان تفاعل المواطن في السابق بشكل سلبي مع الأحداث، حين قرر الانسحاب ومساهمته سواء بالصمت أو بالتنديد المحدود. شيء مهم أيضا يمكن أن نقرأه، وهو وجود بذور وعي مواطنة كامن في الجزائر. صحيح أن جيل الشباب لم يعش طفرة ما بعد أكتوبر 1988 في ما يخص حرية التعبير والتنديد بممارسات نظام الحزب الواحد الشمولية، لكنه وبفضل حالة الانفتاح العالمية على الأحداث ودمقرطة وسائل الإعلام عبر وسائل الاتصال الحديثة (الإنترنت)، واستخلاص الدروس سواء من مأساة الجزائر خلال سنوات بطش الإرهاب أو ما تعرضت له بعض البلدان العربية من احتراب داخلي هدد كيانها كدول، أقول سمح هذا ببلورة وعي التغيير السلمي بواسطة تفعيل الحياة السياسية عبر رفض ما هو قائم والذي كان يرسل إشارات تثير الشفقة ومتجاوزة حول تقديس الزعامة الفردية وقابلية الانمحاء وعدم المبادرة. باختصار رغبة المواطن فاعلا، مشاركا، مراقبا، في تسيير الشأن العام. - يقول بعض السّاسة و النشطاء، إن الحراك الشعبي أسقط كلّ الشرعيات التي سبقته وبإمكانه حتى تعطيل العمل بالدستور. هل يمكن أن يتحقق مسعى كهذا، في نظرك؟ لا أظن أن الأمر يصل إلى هذه الحدية، يجب أن يظل الدستور هو سقف كل المطالب السياسية. فقراءة الدستور الجزائر تعطينا فكرة عن وجود توجه حقيقي في تأصيل الممارسة الديمقراطية. لقد وضع دستور 1989 العربة على السكة، من حيث متطلبات العمل السياسي وتنظيم أدوار مؤسسات الدولة، بدء من تكريس المبدأ المطلق للديمقراطية: الحرية. كانت أول عبارة في هذا الدستور جد دالة: « الشعب الجزائري شعب حر ، ومصمم على البقاء حرا» . لقد عوضت تلك الدوغمائية التي لخصتها مفردة «الاشتراكية» التي تحولت إلى عنوان قامع لكل إرادة تغيير وتكريس إرادة الشعب بدل إرادة الفرد. كما أنها أسست لمقاربة جديدة نظام السياسي الجزائري الجديد. فالحرية هنا توحي بالانعتاق والتخلص من الوصاية، خاصة وصاية الحزب. فتكون الرسالة :أيها الشعب..أنت الآن حر والحكم يعود إليك». لقد أعادت الارتباط بتراث الحركة الوطنية الجزائرية وبالرصيد العاطفي الذي لا ينضب لثورة التحرير المجيدة. فالأمر إذن عطفا على سؤالكم هو سعي لتكريس قواعد عمل سياسية وفق متطلبات الحكم الراشد، بتكريس دولة القانون والمؤسسات والجدارة. - هل بإمكان حركة شعبية كبيرة، كالحراك الذي نشهده ، إفراز ممثلين أو محاورين؟ كيف يمكن حلّ مسألة التمثيل؟ في الديمقراطية، الوسيلة الوحيدة لاختيار الممثلين هي صناديق الاقتراع. فليس دور الحراك الشعبي أن يفرز ممثلين، دور هو الضغط لتوجيه العملية السياسية لكي تخدم آمال الشعب وطموحاته في التنمية والكرامة. يجب أن نكون واضحين، تدخل الشارع جاء نتيجة فشل الأحزاب السياسية. إن الشارع هو محصلة الإرادة العامة التي تتضمن مختلف التوجهات الفكرية والإيديولوجية والفئات الاجتماعية، فإذا قررنا أن نمنحه هذا الحق في تعيين ممثلين فنحن نعيد إلى نقطة الصفر أي الشمولية. الطريق إلى تجسيد طموحات الشارع في التغيير يمر عبر إنتاج نخب سياسية تستطيع تحقيق هذه الطموحات عن طريق مؤسسات الجمهورية وتطبيق القانون، وهذا هو دور الحزب السياسي تحديدا في النظام السياسي الديمقراطي. يجب أن ننظر إلى حراك الشارع على أساس أنه نتاج ووعي بأزمة تراكمت فيها مختلف المظاهر الهدامة للسياسة والاقتصاد والثقافة، أي أنه رد فعل سام من أجل المصلحة العامة وليس للانقلاب على النظام الجمهوري ومؤسسات الدولة، فهو لا يريد أن يحل محلها. - لا حظنا طرد بعد الوجوه السيّاسية المعارضة من المسيرات، لماذا يرفض «الشارع» السياسي، حتى وإن قضى حياته في النضال والمعارضة وجرّب السجن؟ وهل يمكن القيام بحراك شعبي كبير لتغيير نظام حكم في غياب كلي للأحزاب؟ رد الفعل هذا هو تأكيد للانطباع السائد داخل كل فئات المجتمع بفشل السياسة (وبالتالي السياسيين) في تحقيق التنمية وتطهير مختلف المرافق العامة من الفساد والبيروقراطية. يوجد شعور عام بالخذلان لدى المواطن الجزائري، إنه يتهم السياسيين بأنهم وراء التدهور الحاصل الذي يمكن معاينته في بعض المجالات. يمكن ضرب مثال في هذا السياق، بنتائج الفياضانات الأخيرة في بعض ولايات الوطن، بوجود تسيب في مراقبة انجاز المنشآت العمومية وتعدم استجابتها لدفتر شروط محدد سلفا. بمعنى أن حلقة الوصل بين المواطن ومؤسسات الدولة معطلة ولا أقول غائبة، فليس يجوز القفز على الإرادات الحسنة فهي موجودة، ولكنها تكاد تكون مشلولة أمام تغول بعض الفاعلين الفاسدين. لنقم بمعاينة عامة لمجمل ما المشاريع لنلاحظ بعض الثغرات التي منها يعبر الفساد ليسمم حياة المواطنين ويفسد فرحة المبادرة التي لا يمكن نكران وجودها. رد الفعل هذا أيضا هو شهادة وفاة لرجل السياسي المنقاد الذي لا يظهر في المواعيد الانتخابية الكبرى لتحصيل بعض المنافع المادية، وهو تنديد بما يشاع من ممارسات سياسية جراء هيمنة المال الفاسد في اختيار المترشحين. لقد حفلت الساحة السياسية بكثير من الأخبار حول بعضهم. وطبعا الأمر ليس تعميما بل إشارة إلى وجود هذه المظاهر التي تقضي على الجوهر النبيل للعمل السياسي وأهدافه في خدمة الصالح لعام والمواطنين. - ترتفع دعوات إلى إعادة «تأسيس» الدولة، وإلى رحيل كلّ من عليها، هل يمكن برأيك هدم كلّ ما تم بناؤه؟ ألا يفتح ذلك الأبواب أمام مخاطر يصعب التحكم فيها؟ لسنا بحاجة إلى ثورة بل إلى إصلاح، التغيير الراديكالي تحقق بعد إقرار الشعب لدستور 23 فيفري 1989. ما يريده المواطن هو دولة القانون والعدل والحق. الشعب لا يريد الفوضى، إن ذكريات المأساة الوطنية ما تزال ماثلة في الأذهان وأخبار الحروب الأهلية الواردة من دول شقيقة ترعبه حتما. نحن كجزائريين نريد رد الاعتبار للسياسة، أن تظهر نخب تستجيب لتطلعاته وآماله في حياة كريمة. إن القناعة راسخة بأن بلادنا تتوفر على كل عوامل النهوض وتحقيق القفزة المرغوبة في التنمية، والتي تظل رهينة وجود هذه النخب، التي هي موجودة أصلا، لكن تحتاج إلى أن يرفع عنها القيود. يدل على ذلك رغبة عشرات إطارات أبناء الجزائر الموجودين في الخارج من أجل العودة للعمل والاستثمار والمشاركة في هذه النهضة المأمولة. نختصر فنقول، الشعب الذي خرج يريد حكما راشدا. - هل بإمكان حراك دون رؤوس ظاهرة بلورة «لوائح» يتم البناء عليها، و ما مدى «شرعية» ذلك؟ أظن أن هذا الطرح هو الطريق الخطأ لبلورة وتجسيد المطالب التي رفعت في الشارع، أي بتنظيم انتخابات وفق قواعد الممارسة الديمقراطية السليمة : ترشحا واختيار حرا لممثليه في مؤسسات الدولة. لذلك وجب التنويه مرة ثانية، أن هذا هو دور الأحزاب السياسية. وليس اختيار بلا أصول قد يؤدي إلى ارتكاب خطأ إنتاج نخب سياسية لا تتمتع بالشرعية التي هي جوهر الديمقراطية، أي احترام نتائج صندوق الانتخاب وممارسة المعارضة على أساس واضح وشفاف في المؤسسات التمثيلية (البرلمان، المجالس المحلية). إن هذا يدفع بنا إلى مطالبة الأحزاب السياسية أن تغير طرق ممارسة السياسة، بأن تجعل المواطن هو منطلقها وأوبتها في وضع برامجها السياسية والانتخابية. هذا هو المطلب الأساس الذي يتعين علينا أن نحققه في جزائر ما بعد 22 فيفري 2019. - قدم الرئيس المنتهية ولايته خطة لتغيير النظام، ما مدى قابلية هذه الخطة للتطبيق؟ وهل يمكن البناء عليها؟
السيادة للشعب هذا هو جوهر الديمقراطية، كذلك الجزائر ليست في أزمة، كل ما في الأمر أن الرئيس تنتهي ولايته في 27 أفريل القادم، وهو كما هو معلوم في وضع صحي لا يسمح له بالترشح، كما أنه سحب ترشحه. أظن أن مسألة التمديد غير صائبة لأن هذا يعطل المسار الطبيعي لمؤسسات الدولة، وأن الوضع الخليق بالحفاظ على استقرار وفعالية هذه المؤسسات هو تنظيم انتخابات رئاسية في أقرب وقت ممكن، ثم تليها انتخابات تشريعية. إن اكتساب الرئيس الجديد للشرعية هو أهم مكسب للدولة ولمؤسساتها، يكفل التخلص من حالة الانسداد والشك التي مرت بها الجزائر منذ تعرض الرئيس المنتهية ولايته لوعكته الصحية. الجزائر الجديدة التي نطمح لبنائها كلنا هي جزائر الجميع، جزائر أجيال الاستقلال التي ستظل وفية لميراث الأجداد وثورة نوفمبر 1954. نقول هذا إيمانا منا أن صلابة صرح المؤسسات للدولة الجزائرية ينبغي أن يكون من خلال الاستمرارية، بذاكرة جماعية يحترمها الجميع وتكون ملك الجميع بدون استثناء. وفي ما بعد حين ينتخب الشعب ممثلي برلمانه الجديد، يجب أن يتجه إلى حماية مكتسبات الوضع الجديد بوضع أسس ثقافة سياسية جديدة تقوم على الولاء للوطن وليس للأشخاص واحترام الدستور وقوانين الجمهورية. بهكذا توجه ستكون الشفافية عنوان كل شيء، وسوف يضلع البرلمان بمهمته الأساسية في مراقبة عمل الهيئات التنفيذية. دون أن ننسى الدور الهام لوسائل الإعلام، لقد أثبت الصحافيون وقوفهم في صف بلادهم ودولتهم في كل أزمة، فلقد رأيناهم يباركون سريعا الحراك الشعبي وانخرطوا فيه بإخلاص. كلمة أخيرة يجب أن تقال تخص حتمية تنزيه الدين الإسلامي من أي توظيف سياسي تحت أي اعتبار. - ما هي الطريقة المثلى للخروج من هذه الوضعية في نظرك؟ لا يوجد طريق ثان أو ثالث، الطريق الوحيد هو الرجوع الدستور والفصل بين السلطات وتطبيق القانون، وفق محددات الرقابة والشفافية والمبادرة الحرة والتصدي للفساد والبيروقراطية وتفعيل حضور المجتمع المدني والتداول السلمي على السلطة وتثبيت دعائم الدولة الديمقراطية المدنية، وعدم السماح للمغامرين والفاشيين بنشر الأفكار الهدامة غير المتوافقة مع ثقافة العيش المشترك والتسامح وقبول الاختلاف واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير. إننا نعتقد أن عناصر هذه التركيبة قد تهيأت منذ فترة طويلة بعد أن تم الحسم في الخيار الجمهوري للدولة الجزائرية، الذي تحقق بفضل تضحيات جسام.