لقد انتصر الشّعب الجزائري ونخبته على المنظومة الاستعمارية انتصارا باهرا ونادرا في التاريخ الحديث. إنّه نصر عمره اليوم 58 عاما، وكنّا نتمنّى أن لا يكون النّصر الوحيد، لأنّ تفكيك المنظومة الاستعمارية كان يستلزم انتصارات أخرى حاسمة في شتى المجالات، فهل تمّ ذلك؟ الأمر قد يكون موضوع جدل بين آراء متعدّدة ومتنوّعة. ما هي المعايير التي يمكن ونحن نستعد لبناء رؤية دستورية جديدة لبناء جزائر جديدة تريدها الإرادة السياسية أن تكون ترسيخا للثّورة النّوفمبرية وغاياتها اللّجوء إليها من أجل تبيّن إجابة على قدرٍ عالٍ من الموضوعية؟ أقترح في هذه المحاولة التركيز على معيار أراه أساسيا وهو بناء الدولة الوطنية التي حدّد ملامحها الأساسية بيان أول نوفمبر، وهل تمكّنت النّخب المتعاقبة على إدارة شؤون البلاد من تجسيد ذلك الهدف الواضح؟ الإجابة قد تلقى توافقا واسعا عندما أقول: طبعا ما زال تجسيد هذه الدولة غاية لم تتجسد كلّية، حتى وإن تحقّقت مكاسب كثيرة. بيان أوّل نوفمبر يقول نصّا: «إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية». الكلمات المفتاحية الأساسية قد تكون هي: الدولة، الديمقراطية، الاجتماعية، والسيادة ثم المبادئ الإسلامية. إنّه برنامج متكامل وتحديد هويّة. ولهذا فإن ماينبغي التوقف عنده هو الدولة، بمعنى المؤسّسات والعلاقة بين السّلطات وبين السّلطات والأجهزة وآليات اتّخاذ القرار ثم علاقة السّلطة، التي تسيّر شؤون الدّولة، بالناس وآليات الحصول على شرعية التمثيل وشكل الرقابة على السّلطة ومستوى تطابق ممارسة السلطة مع نصوص الدستور ومع نصوص القانون. هذه المنهجية تمكّننا من عدم التيهان في تقديرات واعتبارات سياسوية أو إيديولوجية أو غيرها. من ناحية أخرى، قد يحمل هذا الوصف في طيّاته جزءاً هامّاً من الإجابة، وقد يضمن مستوى توافق جيد عليها. فإذا أخذنا بمعيار من المعايير التي نستخدمها في العلوم السياسية وهو البحث في نوعية المؤسّسات ( la qualité des institutions)، سواء من حيث تمثيليتها أو من حيث فعاليتها ومن حيث تطابق أفعالها وسلوكاتها وممارساتها مع القانون، فإنّ تحقيق الغاية المنشودة ما زال في حاجة للكثير من الجهد وخصوصا للكثير من الإرادة. كما نلاحظ أنّ هذه المؤسّسات، بسبب شكل ممارستها للسّلطة وفي الوقت نفسه بسبب طبيعتها، لم تتمكّن من حماية نفسها من الفساد والإفساد. هناك مسألة غاية في الأهمية ويمكن أن تأتي في شكل تساؤل: من كان الأقوى في تجربتنا السّلطة أم الدولة؟ الإجابة أكيدة السّلطة. بل وصلنا حدّ أن صارت الدولة تكاد تقتصر على السلطة، وذلك أمر خطير، لأنّه يحرم الدولة من الكثير من الذكاء والكثير من الطّاقات التي كان ينبغي أن تساهم في ضمان نوعية أجود للمؤسسات. ولهذا يمكن أن نستنتج قاعدة أساسية: القوّة المفرطة للسّلطة تؤدّي حتما لضعف الدولة، وهو ما يحتّم علينا اليوم، بعد 58 عاما من الاستقلال، أن نقلب القاعدة كلّية، أي أن نجعل الدولة قويّة والسّلطة، كل سلطة، مقيّدة بالقانون وخاضعة لرقابة مؤسّساتية وسياسية وشعبية منظّمة بالقانون. لنأخذ مثال المؤسّسات المنتخبة، سواء من حيث مستوى تمثيلها لمختلف الفئات الاجتماعية أو القناعات أو المصالح، أو من حيث مستوى أدائها ومن حيث نظام علاقتها بالسّلطة التنفيذية، والتجارب أثبتت أنها ظلّت، لأسباب متنوّعة، دون الدور المطلوب منها ودون مستوى التطلّعات ودون مستوى القدرة على تجسيد الوعود السياسية والبرامج التنموية التي تضعها السّلطات العمومية. أمّا من حيث علاقتها بالسلطة التنفيذية فيمكن القول أنّها ظلّت في الممارسة الفعلية خاضعة، حتى وإن لم تكن منزوعة السّلطة تماما. أما من حيث علاقتها بالمواطنين، فتلك ظلّت تشكّل مشكلة عويصة، فهي إن مثّلت الناس طرحت على ممارسة السلطة إشكاليات لم تكن مستعدّة للتعاطي معها، وإن هي مثّلت أكثر تقديرات السلطة الظرفية فقدت الكثير من المصداقية، ومن القدرة على تأطير مطالب المجتمع والتكفل بها، وهو أمر ينبغي أن يجد له علاجا في الرؤية السياسية الدستورية الجديدة. لهذا، وبعد تجربة 58 عاما، ينبغي أن يحدث انتقال نوعي في الدستور المقبل في اتجاه تقوية الدولة وإخضاع السلطة للرقابة. ولا يكفي في ذلك تأكيد ضرورة الفصل بين السّلطات بل ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الممارسة الفعلية للسّلطة كثيرا ما لم تكن متطابقة حتى مع نصوص الدستور ومع روحه بالخصوص، فضلا عن تجاوزات أخرى كثيرة ينبغي الاحتماء منها قدر المستطاع. تلك مسائل أساسية يمكنها أن تكون منطلقات لبناء الجزائر الجديدة، وأن تكون أرضية تضبط روح الدّستور الجديد ومواده. إنّ حالة التّدهور التي بلغتها الكثير من مؤسسات الدولة تجعل جهد بناء الجزائر الجديدة معقّدا وضخما بل ومحفوفا بالكثير من المخاطر، منها قوى الركود والجمود (les forces de l'inertie) التي رفضت دائما كل تغيير يُحدث قطيعة كاملة مع «ثوابت الضّبط الداخلي للنظام» ( les constantes de régulation interne)، وخاصة آليات شرعية التمثيل والترتيب المؤسساتي ونظام العلاقة بين السلطة والناس وبين السلطات فيما بينها وبينها وبين الناس، وغير ذلك من آليات العمل التي عطّلت الطّاقات وأوهنت الإرادات، وبدّدت الثروات وحطّمت الآمال في جزائر العدل والعدالة، جزائر الكرامة والحرّية. ينبغي الانتباه إلى أنّه من بين الآثار المدمّرة التي خلّفها حكم الرّئيس بوتفليقة، لاسيما في عهده الأخير، غياب أي فكرة إصلاح متكاملة، بل وأي قدرة على المبادرة وعلى إنتاج فكرة سياسية أخرى. هناك أفكار متناثرة هنا وهناك عند هذا من الأحزاب وذاك، ولكن الفقر السياسي وانتشار الرّداءة على نطاق واسع هما اللّذين سادا. ولهذا، العملية معقّدة على أكثر من صعيد، وليس هناك طرف سياسي جاهز لتقديم بديل سياسي متكامل، فالأحزاب الموجودة والنّشطة، لم تتمكّن من تغيير موازين القوّة، ولم تنتج إلا قليلا من الأفكار أهمّها فكرة كانت تتقاذفها بينها، وهي فكرة التوافق الوطني، وهي فكرة تبنّاها حزب الحرية والعدالة منذ عام 2012، ودعا السيد مولود حمروش وجبهة القوى الاشتراكية إلى جعلها منهجية بناء، ثم أخيرا تلقّفتها حركة «حمس»، ولا ندري بأي منطق سطت على الفكرة سياسيا. إنّ الإرادة السياسية واضحة في التّوجه بقوّة نحو منظومة حكم أكثر حداثة ترفض حكم الفرد وحكم العصب وحكم المصالح وتؤمن بضرورة الفصل بين السلطة والمصالح، لأنّه ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنّ اجتماع احتكار السّلطة باحتكار الثّروة هو نهاية الأنظمة بل ويهدّد الدول في استقرارها وفي وجودها. كيف نجسّد اليوم أهداف ثورة نوفمبر لاسيما في بناء الدولة، لأنها منطلق كل شيء، وكيف نبني دولة قوية لأنّها هي المعوّل عليها في بناء الجزائر الجديدة؟ أول الأسئلة الجديرة بالاهتمام والجدل، من أين نبدأ: هل من بناء الدّيمقراطية ونشرها وتثبيتها أم من بناء نظام سياسي مؤسساتي جديد يتولّى بناء أطر ممارسة الحرية ووضع آليات التحكيم الديمقراطي؟ إنّ السعي اليوم هو لبناء جمهورية أخرى، فالتجربة التي عاشتها البلاد، حتى مع توفر حسن النية لدى بعض الذين سيّروا شؤون البلاد، هي تجربة حكم فقط. من ناحية أخرى لا يمكن أن تقوم قائمة لدولة أخرى من دون «تفكيك» النظام السلطوي القائم والانتهاء منه. فكيف يمكن تفكيك هذا النظام من غير تعريض الدولة لأي خطر؟ الإجابة المباشرة تكون بالقول: إنهاء المنطق الذي أنتج هذا النظام وآليات عمله، ولا ينتهي إن استمر من حملوا هذا المنطق ودافعوا عنه واستفادوا منه. إن الأمر ممكن ما دامت الإرادة السياسية متوثّبة لذلك. كيف نبني دولة مؤسّسات؟ في الأنظمة الشّمولية هناك قاعدة ثابتة: سلطة قوية دولة ضعيفة. ذلك يعني عمليا أنّه لا سلطة إلا السلطة التنفيذية، ولا رقابة تذكر ولا سلطة مضادة ولا معارضة فعلية ولا مجتمع مدني مستقل ولا انتخابات حقيقية. ولهذا ينبغي قلب هذه القاعدة لتقوم دولة قوية وسلطة مقيّدة بالقانون. ولكن، ومن أجل الوصول إلى بناء جمهورية أخرى، بنظام سياسي حديث تعود فيه السيادة للشّعب بشكل صريح كامل ودائم، هناك منطلقات ينبغي الانطلاق منها وهناك قواعد ينبغي وضعها وهناك معايير ينبغي الاهتداء بها. القاعدة الأساسية هي الفصل الواضح بين السّلطة والدولة. فالدولة، هي مؤسّسة المؤسّسات وهي التراب والشّعب، وهي الدستور والقانون فضلا عن الاعتراف الدولي. الواقع أنّ الأمر بسيط والخلط ناجم عن كون الدولة ظلّت هي السّلطة فقط. ذلك يمكن تجسيده من خلال إقامة نظام سياسي آخر بترتيب مؤسّساتي آخر، وربما حتى الوصول لتنظيم إداري وترابي آخر. الدولة اليوم في حاجة لتحول عميق في تنظيمها وفي آليات اتخاذ القرار، وفي نظامها المؤسّساتي وفي طبيعة العلاقة بين السلطة فيها والناس، وفي حاجة لتحول كامل في طبيعة العلاقة بين السلطات الثلاث، وفي حاجة لطبيعة علاقة أخرى بين المؤسسات والأجهزة. لهذا، ولبناء دولة بنظام يضمن عدم عودة هذا المنطق وأدواته السياسية وغير السياسية، لا بد من التخلي عن كل « ثوابت الضّبط الداخلي لهذا النظام». إنّ «التغيير» يبدأ من «الثورة» على قواعد عمل النظام السابق، لأنها هي المعطّل المنهجي لدولة السيادة ودولة المؤسسات وسيادة القانون، وتجسيد وصيّة الآباء المؤسّسين. من حيث التشخيص العملي يمكن التوقف عند المسائل الأساسية التالية: الانتقال: الانتقال اليوم، ينبغي أن يتّجه في اتجاهين مختلفين: انتقال بين جيل نوفمبر وأجيال الاستقلال، وانتقال من نظام سياسي لنظام سياسي آخر. وممّا لا شك فيه أن الهبّة الشعبية المباركة، ستفرز، كما يقول علماء الاجتماع، مع الوقت نخبتها الممثّلة لها ولتطلّعاتها على تنوعها. سيادة الشّعب: لا تمارس السّيادة الشّعبية إلا بتوفّر شرطين على الأقل: الأول هو حرية الاختيار، وحرية الاختيار تتطلّب وجود حياة سياسية حقيقية ووجود أحزاب، ووجود تنافس حقيقي بين مدارس سياسية حقيقية ووجود مشاركة واسعة للمواطنين. الثاني هو وجود دستور حديث وتشريعات، وجود مؤسّسات قوية، وجود رقابة فعلية ووجود سلطة مضادة فاعلة وفعلية. الشّرعية: إنّها المسألة الأولى التي ينبغي تسويتها ولو بشكل مرحلي متوافق عليه. الشّرعية لا تأتي إلاّ من خلال تمثيل حقيقي لكل مكونات المجتمع الجزائري على قاعدة المواطنة وليس استنادا لأي اعتبار آخر. الاستقرار: هذا أمر لا يعدّ شعارا فارغا، لأن عدم الاستقرار بوّابة للسّطو مرة أخرى على إرادة الجزائريّين في التّغيير الشّامل والعميق. الوحدة الوطنية: مسألة غاية في الأهمية وليست شعارا ديماغوجيا، لأول مرة في التاريخ تقوم وحدة ترابية سكانية اسمها الجزائر، ولأول مرة يقوم شعور بالانتماء لهذا الكيان الاجتماعي السياسي، واحتاج ذلك لتضحيات ضخمة من أجيال من الجزائريين. هذه الوحدة كانت معرّضة للشرخ واستعملت السلطة الاستعمارية، بالخصوص، الجهوية وسيلة لتمزيق صف نضالات الجزائريين، اليوم عزّزت الهبة الشّعبية هذه الوحدة، وحدة النضال ووحدة الغاية، وأعطتها قدرة استمرارية رائعة. التّرتيب المؤسّساتي: لم نتوصّل في تجربة الحكم، وهو أمر احتاج لعقود وربما قرون في الكثير من البلدان حتى يستقر نهائيا، إلى ما أسمّيه ترتيب مؤسّساتي ( un système institutionnel)، والترتيب المؤسساتي يعني نظام علاقة بين السلطة والجزائريين، خاصة ضمانات الحريات، ونظام علاقة بين المؤسسات الثلاث، ووضع ضمانات حقيقية للفصل بين السلطات. الرّقابة: تبسيطا للأمور، ألاحظ: النّظام الشّمولي ظل يتّسم بتقييد المجتمع وبالسلطة المطلقة للسلطة التنفيذية وانعدام كل رقابة على ممارسة السلطة ككل. لهذا، لابد من قلب القاعدة كليّا، أي تحرير المجتمع وتقييد السلطة، كل سلطة، بالقانون والرقابة والسلطات المضادة. هذه هي الأمور التي أقدّر ضرورة التّركيز عليها، من أجل البدء في تحقيق انتصارات جديدة تحمي انتصار جبهة التّحرير على النظام الاستعماري، ولا يبقى انتصارا وحيدا، ومعلوم أنّ الشّيطان يسكن في التّفاصيل، ولهذا ينبغي التّوافق أولا على الأساسيات، وتأجيل كل ما يعطّل أو يهدّد أي مسار سياسي توافقي. صحافي وكاتب، صاحب كتاب «كيف تحكم الجزائر؟»