* الحلقة الثانية والأخيرة إن الدستور، وخلافا لما يعتقده البعض، ليس وثيقة قانونية فحسب، بل وثيقة سياسية اقتصادية واجتماعية؛ وبعبارة أخرى هو حلم يعبر عن رغبات وآمال وطموحات شعب لسنوات طويلة قد تصل إلى قرون، وكلما كان هذا الدستور ترجمة لهذا الحلم كانت حياته أطول وكلما كان ترجمة لفئة معينة كانت حياته أقصر. فالأحكام الدستورية هي في الحقيقة انعكاس للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع السياسي تؤثر وتتأثر بها، وينبغي مواكبة تطورها بإجراء التعديلات الضرورية التي تقتضيها سنة التطور(1) ولما كانت المعضلة التي تواجه المجتمعات في طريق الانتقال إلى الديمقراطية تنحصر في القضاء على مقومات النظام الشمولي وتأمين مصالح كافة شرائح المجتمع ورؤيتها وضمان مستقبل كافة أوجه الحياة التي تحمل تلك التيارات رؤية مغايرة لها ولاسيما ما يتعلق منها بمدنية الدولة ونظامها السياسي واعتماد النظام الأمثل لشكل الحياة في مجتمعها، النظام الرئاسي ﴾أو شبه الرئاسي﴿ أم البرلماني؛ فقد كان الانشغال الكبير يتمحور حول من يتولى وضع أو تعديل هذه الوثيقة التي هي بهذا القدر الكبير من الأهمية؟. بالرجوع إلى الدستور الجزائري القائم نجد أن الفصل الثاني منه، يقر في مادته السادسة بأن الشعب مصدر كل سلطة وأن السيادة الوطنية ملك للشعب وحده بل أن المادة 7 من نفس الدستور تنص صراحة على أن السلطة التأسيسية ملك للشعب وأن الشعب يمارس سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها. وبخصوص كيفية ممارسة الشعب لهذه السيادة، نجد أن المؤسس حددها بكيفيتين: عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين. والملاحظ أن صياغة المادة السابعة هاته استعملت حرف الواو (واو المعية) الذي يعني بأنه قيد وممر إلزامي عند ممارسة السلطة التأسيسية التي ينطوي تحت لوائها إعداد أو مراجعة الدستور، وأعطت لرئيس الجمهورية حرية اللجوء إلى إرادة الشعب مباشرة بنصها على ذلك صراحة في الفقرة الثالثة من نفس المادة. من له الحق بالمبادرة بالتعديل يستشف من نص المادة 174 الباب الرابع المتعلق بتعديل الدستور أن المؤسس الجزائري نص صراحة على ما يلي: 1 أن لرئيس الجمهورية حق المبادرة بالتعديل الدستوري وبعد أن يصوت عليه المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة بنفس الصيغة حسب الشروط نفسها التي تطبق على النص التشريعي، يعرض التعديل على استفتاء الشعب خلال 50 يوما الموالي لإقراره، بل أن المؤسس منح لرئيس الجمهورية في المادة 176 إمكانية إصدار القانون الذي يتضمن التعديل الدستوري مباشرة دون أن يعرضه على الاستفتاء الشعبي متى أحرز ثلاثة أرباع أصوات غرفتي البرلمان، وطالما لا يمس البت بالمبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري وحقوق الإنسان والمواطن وحرياتهما ولا يمس، بأي كيفية، التوازنات الأساسية للسلطات والمؤسسات الدستورية. 2 / لثلاثة أرباع 4 / 3 أعضاء غرفتي البرلمان المجتمعتين معا (بحكم أن البرلمان الجزائري يتكون من غرفتين)، فلهم الحق بالمبادرة باقتراح تعديل الدستور على رئيس الجمهورية. وفي الحالتين فان رئيس الجمهورية يمكنه عرض نص المراجعة على الاستفتاء الشعبي قبل إصداره بعد الموافقة عليه؛ كما يحق له توقيف إجراءات المراجعة حتى ولو توصلت غرفتا البرلمان إلى تبني النص، طالما أن له الحق في استدعاء المؤتمر أو الهيئة الناخبة في حالة الاستفتاء. وحول دور البرلمان في الصناعة الدستورية، تجدر الإشارة إلى أن هناك جانب من الفقه الدستوري ممن يتحفظ على إشراك البرلمان في العملية بدعوى أن الدستور ابتداء هو الذي يخلق المؤسسات التشريعية، القضائية والتنفيذية وليست أي من هذه المؤسسات منشئة للدستور، بل أن جانبا من الفقه المتشدد يعارض منح السلطة التشريعية أيا كان اسمها دورا في وضع الدستور، لأنه سيكون دستور الأغلبية البرلمانية القائمة، ومن ثمة لا يمثل حلم الأمة ولكن يمثل حلم من وضعوه وسوف تكون النتيجة عكس الآمال المرجوة، ومن ثمة سيأتي مجلس آخر ليضع دستورا آخر وبالتالي وجب عدم تمكينه من الانفراد بوضع الدستور. وبالرجوع إلى الدستور الجزائري يمكننا أن نستشف من المادة 122 الفقرة الأولى من الدستور الجزائري نجد أن المؤسس جعل البرلمان مختصا بعملية إعداد أو مراجعة الدستور في المسائل المتعلقة بحقوق الأشخاص وواجباتهم الأساسية، لاسيما نظام الحريات العمومية والحريات الفردية وواجبات المواطنين، وهي لا شك من الأركان الأساسية في الدساتير الحديثة. إن جميع الشعوب تطمح إلى التغيير ومنها أمة العرب التي تعيش موسم صناعة الدساتير من أقصاها إلى أدناها، وقد أصبحت كلها الآن مهتمة بالفنون القانونية والنظم والملكيات الدستورية وأصبحت العديد من القضايا جوهرية كفتح النقاش حول موضوع النظام الإداري الواجب اتباعه مركزية الدولة أو لا مركزيتها بتحديد صلاحيات واسعة للجماعات المحلية، بما يخدم حسن الإدارة وجلب المنفعة ومدى تدخل السلطة في إدارة السلطة والمجتمع، إذ الأصل في الدولة والمواطنة أن المواطن حر فيما يعمل والتزام الدولة بحمايته وهو من دافعي الضرائب، وطالما يدفعها فمن حقه رقابة سبل صرفها، من خلال تمثيل الأمة في انتخابات شرعية ونزيهة. (2) كما أنه يتعين على الدستور الجديد أن يجعل من صلاحيات البرلمان سلطة مركزية في تمثيل مصالح الأمة، من خلال التشريع والرقابة، الدبلوماسية البرلمانية، وفي علاقاته مع المجتمع المدني، بل أن نجعل من البرلمان سواء بغرفة واحدة أو اثنين: المصدر الوحيد للتشريع أي الانفراد بالتشريع، وينبغي التفكير في مراجعة طريقة عمله باعتماد الدورة الواحدة المفتوحة، وتخصيص على الأقل يوم واحد لدراسة المقترحات والتعديلات وتكريس حق المبادرة التشريعية للبرلمان في الدستور والنظر في إمكانية إشراك المجتمع المدني المتخصص في المساهمة كقوة اقتراح في تعزيز دولة الحق والقانون. كما أن آليات المراقبة البرلمانية في حاجة ملحة لتعزيزها، من ذلك إقرار الجلسة الأسبوعية العلنية المخصصة للأسئلة الشفوية، والجلسة الشهرية لرئيس الحكومة للأجوبة وتقديم الحصيلة بمبادرة منه أو من البرلمان، والمراقبة على مالية الدولة، وتفعيل دور لجان تقصي الحقيقة بصلاحيات دقيقة، ومناقشة سنوية للبرلمان لدراسة تقارير المؤسسات العمومية الدستورية داخل البرلمان، كآلية للرقابة، القضايا المتعلقة بالحقوق والحسابات والحكامة.. كما يتعين لكي يتسنى للحكومة الاضطلاع بدورها كاملا أن يعاد النظر في تركيبة السلطة التنفيذية بالتخفيف على رئيس الدولة في مجالات عديدة كالتعيين في بعض الوظائف المدنية وفي الإشراف على بعض القطاعات دون غيرها وفي تعيينها على أساس الأطياف السياسية الحاصلة على الأغلبية البرلمانية بعد انتخابات نزيهة ومسؤولة. وفي حالة الإبقاء على الغرفة الثانية ينبغي تمكينها من أدوات العمل أي من صلاحيات التشريع في بعض المجالات وإحداث آلية الذهاب والمجيء للنصوص بين الغرفتين la navette وإلا فانه يتعين إزالة الغرفة الثانية لزوال الغرض الذي أنشئت من أجله أساسا. إن الدستور المأمول، يجب أن يكون متماسكا وأن يتم بالكامل فلا بد من وجود سلطة تنفيذية كفئة وسلطة تشريعية قادرة وسلطة قضائية مستقلة تعمل في إطار التوازن والتعاون والانسجام، ولذلك وجب تفادي اللجوء إلى مجرد تعديل بعض المواد قد تخل بالتماسك والانسجام. الآثار التي يمكن أن تترتب على وضع دستور جديد في رأي فقهاء القانون الدستوري أن المبادئ الدستورية تقضي عند وضع دستور جديد العمل على حل المؤسسات القائمة وفسح المجال لانتخاب مؤسسات جديدة قد تطال مؤسسة رئاسة الدولة، وذلك إذا فرضنا أن الدستور الجديد يقر مبدأ أن رئيس الجمهورية القادم يكون وفق نظام برلماني لا يملك أي سلطات وأن الرئيس المباشر تم انتخابه في ظل دستور يمنحه كافة السلطات. إن كل الدول تقريبا اليوم لها دساتير ولكن هناك البعض من له حكم دستوري والسبب في ذلك أن الحكم الدستوري هو مفهوم ثقافي أكثر منه قانوني (3) يرجع إلى قبول حكم القانون من قبل السلطة الحاكمة وبدونه يكون الدستور نفسه في حكم العدم. إن الدستور بدون ثقافة داعمة أو مساندة وخصوصا بين النخبة يظل بقيمة محدودة للغاية. فالبنية الدستورية غالبا ما تتضمن أجزاء عدة منها: 1 ديباجة الدستور التي تبحث عن دعم شعبي للوثيقة مع إعلان حيوي للمبدأ الذي غالبا ما يكون مكيفا يقر بالعدل والسلم والدفاع وتطوير الرفاه العام ومباركة الحريات. 2 القسم التنظيمي، وهو خاص بالسلطات المختلفة وتغطية الحقوق الفردية والجماعية وعليه تضع قيودا على الحكومة وإجراءات مراجعة الدساتير. إن أغلب الدساتير كما يقول المنظر السياسي الانجليزي جون ستيوارت ميل هي من عمل الرجال وأن الرجال لا يستيقظون في صباح صيف ما ليجدوا هذه الدساتير وقد انبثقت. كما أن الدساتير نادرا ما تولد في احتفال فأغلبها هي نتاج أزمة وأنه غالبا ما تنتج عن توافق بين فاعلين سياسيين ربما كانوا في نزاع ومازالوا يثقون في بعضهم (ى) . لقد كانت الثمانينات والتسعينات فترات مشغولة من قبل صانعي الدساتير فقد كان هناك 17 دستورا جديدا تم وضعها في أوروبا الشرقية بين 1991 و1995 وأكثر من 30 دستورا في إفريقيا خلال التسعينات. لقد بينت إحدى الدراسات التي أنجزتها جامعة برينستون الأمريكية ل200 دستور في دول العالم المختلفة في الفترة ما بين 1975 إلى 2003، بينت أن هناك 9 طرق لكتابة الدساتير عرفتها دول العالم المختلفة وقد كان الأكثر استخداما فيها هو أن عهدت هذه الدول إلى البرلمان المنتخب صياغة الدستور (42 ٪ من الحالات) أو عبر هيئة تأسيسية معينة من قبل البرلمان (9 ٪ من الحالات) تضم أعضاء من البرلمان ومن خارجه ممن يشهد لهم بالكفاءة والإخلاص والوطنية )1 أما الدساتير الموضوعة خارج البرلمان فتقدر ب17 ٪ من الحالات وهذا يعني أنه خلال 30 سنة التي شملتها الدراسة فإنه في 51 بالمائة من الحالات كان البرلمان إما واضع الدستور أو صاحب القرار في اللجنة أو الجمعية التي تولت إعداده وصياغته. هوامش 4-3) WWW. Benarab Forum actif. Org./t.116.topique ) وبخصوص السلطة التشريعية تجدر الإشارة إلى أن الدول البسيطة لا تحتاج في الحقيقة إلى نظام قائم على غرفتين تشريعيتين فالحاجة إلى ذلك غالبا ما تكون في الدول المركبة كالولاياتالمتحدةالأمريكية مثلا بغرض حفظ التوازن بين الولايات الصغيرة والكبيرة أما ما يتم في الدول البسيطة التي تبنت نظام المجلسين بدعوى توسيع مشاركة العمال والفلاحين مثلا هو ضد المساواة وضد المواطنة. 5) franklin and Baum 1995 - 6) كدستور إفريقيا الجنوبية لعام 1996 كمثال عن التسويات المنجزة على أساس المناقشة بين السود والبيض 7) أ. شروق محمد تكتب : معركة الدستور المصطنعة في مصر شبكة الأنترنات 26 أفريل 2012.