تعتبر فترة التقاعد من أصعب المراحل التي يخافها الرجال خاصة، حيث يصبح هاجس الفراغ من أكبر انشغالاتهم، إلا أن "عمي الطاهر جبار"، لم يفسح المجال لهذا الشعور ليفتك به، وسعى لملء فراغه بإعطاء مخيلته مجالا رحبا للإبداع، وهو ما يبدو واضحا من خلال مجموعته القيمة من العتاد العسكري في شكل نماذج مصغرة من صنع أنامله. الطاهر جبار المدعو "هواري"، عمره 74 سنة، أب لسبع بنات وثلاثة أولاد، مجاهد وفدائي، عايش أيام الثورة العصيبة وكان واحدا من النشطاء على الحدود التونسية، اشتغل بعد الاستقلال ككهربائي للعمارات، وبعد ان أحيل على التقاعد بدأ يفكر في الطريقة التي تمكنه من ملء وقت فراغه والاستفادة منه.. ففترة التقاعد على من اعتاد العمل تعد من اصعب الامور، بل هناك من يرفض تقبلها كونه يعتبرها بمثابة نهاية الحياة بالنسبة له، وعلى العموم، فقد رفع "عمي الطاهر" التحدي وأثبت أن التقاعد ليس نهاية المشوار. وعن الطريقة التي من خلالها اهتدى محدثنا إلى فكرة صناعة العتاد الحربي في شكل نماذج مصغرة تبدو عند النظر اليها وكأنها حقيقية لدقة انجازها، يقول "عمي الطاهر" » حدث ذات يوم وأنا أتابع احداث حرب العراق ان عادت بي الذاكرة الى أيام ثورتنا المجيدة، وكيف كانت فرنسا تحاربنا من خلال استخدام عتادها الحربي، الذي كان متطورا جدا مقارنة بما كنا نستخدمه من اسلحة، فخالجني شعور جامح ورغبة كبيرة في تجسيد هذه الطائرات والمدافع في نماذج مصغرة، ومنها كانت الانطلاقة«. أما عن الأدوات المستخدمة لإنجاز هذه النماذج، فيشير الى انها عبارة عن البلاستيك والألمنيوم والمحركات الصغيرة وبعض الاسلاك الكهربائية، حيث يقوم "عمي الطاهر" برسم النموذج أولا لطائرة او سيارة ثم تأتي مرحلة التجسيد، ويراعي جميع التفاصيل الصغيرة والدقيقة عند الإنجاز، حتى تبدو هذه النماذج عند النظر إليها وكأنها حقيقية، ناهيك عن كونها تتحرك عن طريق التحكم فيها عن بعد وتصدر اصواتا كتلك التي تصدرها النماذج الحقيقية.. وكان اول نموذج قام بصناعته، طائرة صفراء استخدمها الجيش الفرنسي إبان الاحتلال للبحث عن المجاهدين في الجبال. للإشارة، فإن "عمي الطاهر" احترف هذه الصناعة اليدوية منذ 1990، ونظم اول معرض لإنجازاته في 2006 بمقام الشهيد، حيث لقيت معروضاته إعجاب الزوار، الذين كان من بينهم أجانب من سفارات بعض الدول كأمريكا والصين وروسيا، هؤلاء عبروا عن إعجابهم ودهشتهم لجمال هذه الانجازات، من منطلق ان هذا العمل من انجاز كهل غير متعلم تعليما عاليا، وهو ما جعل "عمي الطاهر" يقول » إنه لا حدود للعطاء أبدا...«، وبلغ عدد القطع التي قام بإنجازها 120 قطعة بين طائرات وأسلحة يدوية وسيارات حربية وحديثة. أما عن أمنية هذا المجاهد والمبدع فيقول » أرغب، بل وأتمنى أن تمنحني الجهات المعنية مكانا أعلم فيه هذه الحرفة لشباب اليوم من الراغبين في التعلم، من اجل ان يعيشوا بها، ولا أطلب اي مقابل مادي لقاء خدمتي هذه، لأن هدفي هو ان أقدم لجيل الاستقلال شيئا يذكرونني به فقط«... هو الأمل الذي يراود "عمي الطاهر"، خاصة وأن اولاده لم تستهويهم هذه الحرفة، على الرغم من انه عرض على واحد من اولاده ان يعلمه، بل ويدفع له مبلغا من المال لتحفيزه على التعلم إلا أنه رفض!.