تستحضر الشعوب المغاربية، اليوم، الذكرى ال25 لتأسيس اتحاد المغرب العربي، في ظل متغيرات إقليمية جديدة أفرزتها التطورات السياسية التي عرفتها بعض الدول المغاربية، مما دفع إلى إعادة الحسابات في تحديد الأولويات من جهة، والتأكيد على حتمية تحقيق الاندماج الاقتصادي لمجابهة التحديات التي تواجه المنطقة من جهة أخرى. غير أن الاحتفاء بذكرى هذه السنة يشكل محطة سانحة لتقييم الواقع المغاربي بأبعاده السياسية والاستراتيجية، لاسيما أن قيام هذا الصرح شكّل دوما أحد التطلعات الرئيسة لبلدان الاتحاد؛ إذ حمل في بدايته جميع حظوظ النجاح لتحقيق الاندماج الاقتصادي والتنقل الحر للأشخاص والبضائع. غير أن المتمعن في مسيرة الاتحاد يلاحظ، لا محالة، الجمود الذي يعتري هياكل هذا الصرح لأسباب مرتبطة أساسا بالخلافات السياسية بين بعض الدول المغاربية، والتي زادتها إفرازات ما يسمى بثورات الربيع العربي التي هبّت على المنطقة تعقيدا، مما يستدعي التفكير جديا في الآليات التي من شأنها بعث الاتحاد وفق رؤى براغماتية، تضع في الحسبان إعادة النظر في بعض بنود معاهدة إنشاء الاتحاد، ومنح الأولوية للمبادلات الاقتصادية بين دول المغرب العربي كوسيلة لتجاوز المعوقات السياسية، كما هو شأن تأسيس السوق المغاربية المشتركة للتجارة الحرة، علما أن الإحصائيات تشير إلى أن المبادلات التجارية بين الدول المغاربية في الوقت الحالي، تقدَّر بحوالي 3 بالمائة مقارنة مع 65 بالمائة بين دول اتحاد المغرب العربي والاتحاد الأوروبي. وإذ لا يمكن إنكار النزاعات السياسية التي تحول دون تحقيق الإقلاع الاقتصادي لدول الاتحاد، فإن وضع مقاربات جديدة لتجاوز هذه النزاعات تفرض نفسها في المرحلة الراهنة قبل أن تعصف بما تبقّى من طموحات وأحلام الأجيال المتعاقبة، لا سيما وأن الخلاف مايزال حادا بين الجزائر والمغرب، في حين تعيش ليبيا حالة من التأزم السياسي والتفكك الاجتماعي منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي. أما تونس فهي تمر بمخاض عسير للانتقال الديمقراطي. وما من شك في أن تأخر انعقاد قمة مغاربية إلى غاية اليوم، يعكس حالة الترهل التي يعيشها الاتحاد بسبب تنامي الخلافات البينية؛ حيث كانت آخرها تلك التي عُقدت بتونس في أفريل 1994، وهو ما يؤكد فقدان الثقة بين العواصم المغاربية؛ مما يحيل دون تحقيق أي تنمية حقيقية في غياب توحيد المواقف والإمكانات البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة إرساء نموذج مغاربي مبتكر، يتجاوز العراقيل السياسية. هذا الوضع نبّهت إليه الجزائر مؤخرا عقب الاعتداء على قنصليتها بالدار البيضاء وتدنيس العلم الوطني عشية الاحتفال بذكرى اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، مشيرة إلى أن ذلك لا يخدم تطلعات الشعوب المغاربية، التي تعتز بنضال الشعب الجزائري، الذي يمثل نموذجا للكفاح. والواقع أن الحديث عن التكامل المغاربي أضحى يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما أمام التهديد الإرهابي وتهريب السلاح والمخدرات، فمن المفارقة أن تندمج الدول المغاربية في تكتلات جهوية أخرى من أجل تنسيق جهودها للتصدي لهذه الآفات، في حين يفتقر فضاؤها لتنسيق مواقف من هذا القبيل، بل إن جهود بعض الدول مثل المغرب، ارتكزت على البحث عن منافذ جديدة لخدمة مصالح ضيّقة، كمحاولة تغلغله في شأن دول الساحل الذي لا يعنيه لا من قريب أو من بعيد؛ كونه لا يتقاسم معها الحدود. ويرى محللون أن بعث الاتحاد المغاربي يبقى ضرورة حتمية بالنظر إلى العديد من الأسباب، التي تأتي في مقدمتها مسألة حماية الاستقلال الوطني، الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل بعيدا عن خيار الاتحاد، انطلاقا من أن العدو لايزال يتربص بالبلدان المغاربية عن طريق الضغط والتدخلات بمختلف أشكالها، وبالتالي فإن الخيار الوحيد لمواجهة هذه التدخلات يكمن في الاتحاد. فمن الناحية الاقتصادية فإن التنمية التي تتطلع إليها الشعوب المغاربية، لا يمكن أن تتجسد إلا في إطار تنسيق مشترك وبوتيرة أسرع مما هي عليه الآن، وحتى آراء المتخصصين والخبراء تؤكد ذلك على أساس أن هذه التنمية يمكن أن تصل إلى 8 بالمائة، وهو ما يعني بالضرورة خلق عشرات الآلاف من مناصب العمل ومئات المليارات من الدولارات القادمة من التدفقات الأجنبية في إطار الاستثمارات التي تقودها الشركات الكبرى، وهو ما يستدعي في هذا الإطار، إعادة نسج وتفعيل علاقات دول اتحاد المغرب العربي، لتكريس علاقات حقيقية ترتكز على التوافق والثقة وتقاسم المصالح؛ كون مشروع بناء الاتحاد الذي مازال يراود أجيال هذه البلدان سيظل مشروعا استراتيجيا حضاريا واعدا، بالنظر إلى ما يتوفر عليه من مقومات وعوامل اقتصادية قلّما تتوفر لدى التكتلات الإقليمية الأخرى. كما أن هذه المؤهلات تجعل منه قوة وطرفا مهمّا في نسج العلاقات، خاصة بالنظر إلى موقعه الجغرافي. وبالإضافة إلى ذلك فإن جميع المؤشرات باتت تؤكد أنه لم يعد بإمكان أي مجموعة جيوسياسية بحجم تكتل دول المغرب العربي، أن تبقى معزولة؛ على اعتبار أن العلاقات الدولية صارت اليوم تجنح إلى العلاقات متعددة الأطراف. من جهتها، واظبت الجزائر منذ عقود، على إبراز تمسّكها بتقارب دول المغرب العربي. وبرزت هذه الاستراتيجية كخيار أساس، يتطلع إلى التجاوب مع حجم التحديات والرهانات الإقليمية المقبلة التي تفرض انبعاثا اقتصاديا مغاربيا جديدا، وتجلّى ذلك في تمسّكها بهذا الصرح من خلال مصادقتها على أغلبية الاتفاقات المغاربية.