لم تحن الساعة الحادية عشر بعد، عندما نزلنا ضيوفا على شارع طنجة بالعاصمة، لتستقبلنا الروائح الشهية لمختلف الأكلات الشعبية التي تحّن إليها شهيتنا عند منتصف النهار ونحن خارج البيت.. نتكلم هنا عن أكثر ما اشتهر به هذا الحي منذ سنين، وهي المطاعم الشعبية للمأكولات التقليدية. رغم أن رقعة المطاعم السريعة انتشرت هنا وهناك، إلا أن مطاعم "الغارغوتي" أو "الفاست فود" لا تزال تحتل الصدارة في الجزائر العتيقة، جمعت طاولاتها الموظف البسيط، المديرين والمسؤولين من مختلف المؤسسات، حول أطباق عديدة يجد كل فرد ضالة بطنه – إن صح القول- فيها مهما كان ذوقه. تنقلنا إلى بعض هذه المطاعم التي عرفت وما تزال تعرف إقبالا واسعا من طرف مختلف فئات المجتمع، حيث فاجأتنا الزحمة الهائلة لعمال المطاعم منذ الساعات الأولى من النهار في ارتباك كلي لتحضير أزيد من 16 نوعا من الوصفات التقليدية والعصرية، فكل عامل منهمك في شغل معين؛ البعض في تقطيع الخبز أو تحضير الطاولات، تقطيع الفواكه، أو وضع اللمسات الأخيرة على المأكولات التي سيتم تقديمها. فضلنا من خلال هذا الاستطلاع، تسليط الضوء على المسار التاريخي لهذا الشارع الذي يتسم بروائح الأكل منذ زمن بعيد.. ففي زقاق طويل وضيق تصطف العشرات من المحلات الصغيرة والكبيرة عارضة في جو تنافسي أفضل مأكولاتها الشعبية التي تربعت في الطوابق الأرضية للمباني العتيقة التي تظهر عليها علامات الزمن... هذا الشارع يشهد إقبال مئات الأشخاص يوميا من مختلف الأحياء، ليبلغ هذا العدد ذروته عندما تدق الساعة الثانية عشرة، سحر المكان وجاذبيته ليس وليد اليوم، فتاريخ بعض هذه المطاعم يعود إلى 20 سنة مضت أو أكثر. وبين مختصين في بيع أطباق السمك أو اللوبيا أو المشوي، الكل في تنافس، ويتفنن في وصفة معينة لاكتساب الشهرة وربح أكبر عدد من الزبائن "المخلصين". وبين جدران هذا التراث الجزائري الصغير.. "طنجة"، يلتف أطباء ومحامون، عمال ومديرون، فنانون، أعوان الأمن وحتى البطالون.. في أجواء صاخبة، حول الطاولات لتذوق أشهى ما يقدمه الطاهي بأسعار معقولة وفي متناول الجميع، ولعل هذه هي الميزة التي تجمع مختلف فئات المجتمع. يأخذ النادل طلبيات الجميع بخدمات سريعة ، وفي لمح البصر يتحصل الزبون على طبقه، فالسرعة أصبحت ضرورية داخل هذا المحل لاستيعاب العدد الغفير خاصة بين الساعة 12 إلى 14 بعد الزوال. تقدمت "المساء" أكثر من أحد تلك المطاعم ذائعة الصيت لتلتقي بعز الدين فاديس صاحب مطعم يحمل اسمه، منذ 6 سنوات، حيث وصف الإقبال بمنقطع النظير وسط هذا الحي الشعبي، مشيرا إلى أن هذا التوافد يكون على مدار السنة، لكن خلال فصل الشتاء تتقدم فقط ساعات الإفطار، موضحا أن الزبون يقبل على المطعم منذ الساعة العاشرة صباحا ليزداد نسبيا بسبب البرد القارس، إلى جانب تفضيل المواطن تناول مأكولات ساخنة شبيهة بأطعمة البيت إلى حد ما، على غرار اللوبيا، "الدوارة"، "بوزلوف"، المخ، "الشطيطحات"، المرق، الشوربات، وشتى أنواع الأسماك، وهي الخدمات التي لا تؤمنها المطاعم السريعة التي لا تغني من جوع على حد تعبيره. أشهر طبق يقدمه مطعمه، هو طبق آسيوي يسمى "البرياني" عبارة عن خليط من الأرز والزيتون المقطع، اللحم والديك الرومي، اللحم المفروم الفلفل والتوابل الحارة، يتميز هذا الطبق بذوقه اللاذع لكن بنسبة أقل من الوصفة الأصلية، حيث أشار محدثنا إلى أن هذا الطبق يعرف شهرة واسعة وسط زبائنه الذين يعشقونه. ويقول المتحدث أن الأسعار منخفضة بطريقة تمكن كل الفئات من اقتنائها، وهذا ما يبرر حسبه - الإقبال الكبير للناس ليس على محله فحسب، بل على جل المحلات ب"طنجة". من جهة أخرى، قال محدثنا: "هذه الأطباق تلبي رغبات بعض النساء اللواتي يجبرهن (الوحم) أحيانا على اقتناء ما يشتهينه من هذه المطاعم دون عناء الطبخ والتحضير". .. محل آخر أدهشتنا الطوابير الطويلة به للظفر بصحن من اللوبيا، أو "مشطة" سردين منه، بمحل "ملك اللوبيا"، هو محل صغير لا تتعدى مساحته 35 مترا مربعا، اتفق سكان طنجة على أنه أقدم مطعم بالحي، يتميز طبق اللوبيا الخاص به بالذوق الرائع، يجذب المواطنين من كيلومترات بعيدة مثل المغناطيس فقط لتناول هذه الوجبة الساخنة التي لا يتعدى سعرها 140 دج للصحن. هذا ما قاله لنا سليمان زبون وفيّ لهذا المحل، مشيرا إلى أنه ينتقل من شارع ديدوش مراد إلى شارع طنجة لتناول هذا الطبق على الأقل مرتين في الأسبوع، خاصة في فصل الشتاء. ومهما كان الذوق وحب الأكلات الشعبية التقليدية، فإن شارع طنجة يبقى شارع "غرفة الطعام" عندما تدق الساعة الثانية عشرة زوالا، لتلبية ما تشتهيه النفوس من الأطعمة.