تعرف تجارة ''الكرانتيكا'' أو الأكلة الشعبية التي كانت أكثر رواجاً في القديم تراجعا، إذ قل عدد محلاتها والعاملون فيها مقابل تزايد أعداد محلات ''الشاورما'' بشكل ملحوظ.. ورغم ذلك، يبدو أن كثيرين لم ينسوا نكهة هذه الوجبة التي ما زالت تحتل صدارة الأكلات في الأحياء الشعبية.. مازالت ''الكرانتيكا'' من المأكولات الشعبية التي تسلب أنظار الكثير من المارة، وتمثل موقع تهافت كبير من الراغبين في تذوق نكهة من الزمن الجميل، فعندما تمر عبر إحدى المخابز أو محلات الأكل الخفيف في حدود منتصف النهار، فإن أكثر ما يشد الانتباه هو تلك الطوابير أمام صينية ''الكرانتيكا''. فهذه الأكلة ذات الأصل الإسباني، مازالت تستهوي الأجيال المتعاقبة منذ عدة قرون.. فمشهد الإقبال الملحوظ يدعو للتساؤل: هل هو الحنين لزمن مضى كانت تعرف فيه تجارة هذه الأكلة الشعبية رواجا ملحوظا، خلافا لما يسود اليوم، حيث تكاد المحلات التي تعنى ببيع ''الكرانتيكا'' تعد على الأصابع؟ يتعلق الأمر بطبق تشتهر به مناطق غرب الجزائر، يتميز بكونه سهل التحضير، وهو مطلوب جدا في محلات الأكل السريع. وتقدم الكرانتيكا إما في طبق مع الكمون والشطة الحارة، أو تقدم داخل الخبز الفرنسي. ويتم طهيها بمزج طحين الحمص مع البيض والكمون. وللحديث عن المأكولات الشعبية، كانت لنا وقفة مع بعض الطهاة.. والبداية كانت في مخبزة تمارس تجارة بيع ''الكرانتيكا'' منذ سنة 1962بشارع الرقيب عدون بالجزائر الوسطى، وذلك حفاظا على نكهة مألوفة في الوسط الشعبي، يمتد تاريخها، بحسب المتحدث الذي أشار إلى أنّها موروثة من الأسبان، الأمر الّذي يفسر سبب شهرتها في الغرب الجزائري بالتحديد. وأثناء المقابلة مع أحد عمال المخبزة المذكورة، كان الحوار ينقطع بين الحين والآخر، حيث لم يكن من الممكن التحدث معه بشكل متواصل، نظرا للإقبال الملحوظ في وقت كانت تشير فيه عقارب الساعة إلى العاشرة والنصف صباحا. ويقول محدثنا، وهو أحد المتمسكين بالمأكولات الشعبية، إنّ الطلب على ''الكرانتيكا'' يبدأ في حدود الساعة العاشرة صباحا من طرف شرائح تنتمي إلى فئات عمرية مختلفة، وشيئا فشيئا، يزداد ضغط الطلب عندما تقترب عقارب الساعة من منتصف النهار أو موعد الغذاء.. إذ تتعالى الأصوات بين من يريدها بالشطة الحارة وبين من يرغب في تناولها بنكهة الكمون أو الاثنين معا. وتبعا لما أظهرته المعاينة الميدانية ل ''المساء''، فإنّ كثيرين يفضلون تناولها داخل الخبز عندما يحل موعد الغذاء، مقابل دفع مبلغ 30 دج.. ولو أن الطلب المتزايد على هذه الأكلة في فصل الشتاء يعرف شبه ركود في فصل الصيف الّذي يبحث فيه الناس عن مأكولات أخف، بسبب الحرارة اللافحة. وبهذا الخصوص، يوضح محدثنا أنّ ''الكرانتيكا'' تشكل وجبة الغذاء الأساسية لشرائح عدة تتفاوت في الأعمار، بعدما كانت في عقود خلت تعتبر مطلبا يسد حاجة الفئات المحتاجة، باعتبار أنّ السواد الأعظم يعتبرها أكلة ثانوية تؤكل بدون خبز.. أما اليوم، فقد كثر الطلب عليها في ظل تدهور القدرة الشرائية، ما جعلها ملاذ كل من يبحث عن سد الجوع في وقت الغذاء. وفيما تظهر المعاينة الميدانية وجود إقبال كبير على هذه الأكلة الشعبية، يعرف عدد المحلات التي تبيعها تراجعا كبيرا، ويعلق محدثنا عن ظاهرة إدبار العديد من التجار عن نشاط بيع ''الكرانتيكا'' قائلا : ''الأمر يتعلق بغلاء المادة الأولية التي تدخل في صنعها، حيث أن الارتفاع المستمر في أسعارها أثر سلبا على المداخيل." وبنبرة من الحسرة، يضيف أنّه يتأسف للتراجع الملحوظ لتجارة هذه الأكلة الشعبية التي انضمت إلى قائمة الأكلات التقليدية منذ عدة قرون، موضحا أن تجارة ''الكرانتيكا'' التي غدت منحصرة في بعض الأحياء الشعبية، مهددة بالزوال، خاصة وأنّ شباب اليوم لا يهتم بتعلم صناعتها. ''فرغم تزاحم الناس على هذه المخبزة العتيقة واستحسانهم لما نقدمه من وجبة شعبية موروثة، إلأّ أنّ قلة الأرباح لا تشجع على المواصلة في ممارسة هذه التجارة''، يستكمل حديثه. بائع آخر في شارع طنجة، يذهب في نفس الاتجاه ليؤكد بأنّ غلاء الحمص ساهم إلى حد كبير في تراجع تجارة ''الكرانتيكا''، لافتا إلى أنّ ما يزيد في احتمال اختفاء هذه التجارة هو احتقار بعض شباب اليوم لنشاط صنع وبيع أكلة ''الكرانتيكا''، فضلا عن التكاسل الّذي يدفعه للبحث عن الكسب السهل. أما بالنسبة له، فإنّ هذا النشاط يفتح باب رزق يبعده عن شبح البطالة، إلى حين أن يعثر على فرصة عمل أخرى.. مبرزا أنّه لا يجد على غرار بعض الشباب حرجا في ممارسة تجارة شريفة. وبهذا المحل الواقع في حي شعبي عتيق، كان الإقبال ملحوظا أيضا، رغم أن عقارب الساعة كانت تشير إلى الحادية عشرة تقريبا. لكن محدثنا الثاني ينفي أن يكون حب هذه الأكلة السبب الرئيسي بالضرورة في الإقبال عليها، لأن البعض يجد فيها مخرجا للحفاظ على صحته من خطر التسمم الغذائي المتأتي من خطر الأكل الخفيف، لاسيما ما تعلق بالمقليات واللحوم غير المحفوظة وفقا للشروط اللازمة، فيما أنّ قلة الامكانيات التي تحول دون تمكن البعض من تناول وجبة غذاء متوازنة في المطاعم توجه الأنظار نحو هذه الأكلة. ولمعرفة آراء المستهلكين، كانت لنا وقفة مع السيدة ''مروة''، وتجيب قائلة:'' لا أعلم سر حبي لهذه الأكلة التي أشتهيها في أوقات لا ترتبط بمناسبات معينة أو مواسم محددة.. فكلما خطرت ببالي، لا أتوانى عن استرجاع ذوقها الّذي يختلف باختلاف الطهاة.. فهي تذكرني بسنوات الثانوية، فيشدني الحنين إليها." كذلك الأمر بالنسبة للسيدة ''جازية'' التي ترى بأنها أكلة محبوبة، تنتابها الرغبة في تناولها في أيام البرد بصفة خاصة، لاسيما وأنها تعطي الإحساس بالشبع سريعا. وأبدا الكثير من المستهلكين من الرجال أيضا إعجابهم بتكامل الحياة القديمة مع الحياة المعاصرة في الأحياء الشعبية، حيث تقدم المحلات مثل هذه المأكولات الشعبية. وفي هذا الصدد، يقول السيد ''سمير''، موظف يوشك على التقاعد، إن كثيرا ما كانت تستهويه هذه الأكلة في سنوات خلت، لكنّ الأمر ليس كذلك الآن. وعن السبب يستطرد: ''أصبحت أفضل تناول ''الكرانتيكا'' المطهية في المنزل بعدما وصلت إلى مسامعي أقاويل عن الغش الّذي تتعرض له عملية تحضير هذه الأكلة، إذ يعمد بعض الطهاة إلى إضافة الخبز اليابس للتقليل من كمية طحين الحمص المطلوب في الوصفة." وفي المقابل، يقول مواطن آخر أنه كثيرا ما يحلو له تناول ''الكرانتيكا'' كوجبة غذاء، لأنها ببساطة تذكره بأيام زمان، ولو أنّ لذتها اليوم تختلف كثيرا عن اللذة القديمة، نظرا لنقص احترافية بعض طهاتها وتهاونهم في إعدادها كما ينبغي. ومهما تعددت الآراء، فإن الظاهر عموما هو أن هذه الأكلة الشعبية التي تسير في طريق التراجع ما زال لها أثر كبير في نفوس العديد من الناس، كونها تثير ذكريات الماضي وتقود للعيش في زمن مفتقد