يتناول كتاب "قوة القداسة.. تصدع الدُّنْيَوة واستعادة الدّيني لدوره" للباحث الجزائري عبد الرزاق بلعقروز، عودة الديني في فضاء الفكر والممارسات المعاصرة، كما يناقش أسباب تراجع مسار الحداثة في العالم ككل، وليس في العالم العربي فقط. يحاول الكتاب الصادر عن دار منتدى المعارف بلبنان، الإجابة عن عدة تساؤلات تتعلق بكيفية الحديث عن عودة الديني في فضاء الفكر المعاصر، وكيف يمكن للفرد الذي يعيش في زمن تصدعت فيه -برأيه- إرادة الدُّنْيَوة وإرادة العلمنة الكاسحة التي تزحف لكي تجفف منابع المعنى والقيمة؟ ويتساءل الكاتب عن حقيقة عودة هذا المضطهد -ويقصد بذلك المقدس- الذي "يجر خلفه تاريخا من الصراع وتاريخا من التحكم في العالم وإضفاء المعنى والدلالة عليه؟"، متسائلا عن سبب عجز "منظومات الحداثة عن توليد وتطوير مشاريع تضاهي المشاريع الأولى التي تخلقت في رحمها واستأسدت بها على الإنسانية، وتمركزت حول ذاتها إيمانا بها؟". ويوضح الكاتب عبد الرزاق بلعقروز أن نصوص الكتاب جاءت نتاج مكابدة روحية، وأنها ليست من صنف الكتابة التي يتقنها من وصفهم على أنهم أصحاب "ميتافيزيقا الحقيقة الأكاديمية"، مقرا بأن هذه المكابدة الروحية كانت "بدافع القلق حول تدبير الذات، وحول مصير رسالة الإيمان على الأرض، من يحمل همها؟ ومن يتكبد روحها؟ ومن تسري في كيانه، من أجل أن يمسح بإسفنجه الإيمان عتمة العلمنة، وليل الضلال ويعيد للقيم فاعليتها". ولفت بلعقروز إلى أن قوة القداسة واستعادة الديني لدوره بالمعنى الذي سلكه في الكتاب هي "ذات توجه كوني لا خصوصي"، بمعنى أن قوة القداسة باتت تفرض نفسها في العالم ككل، العربي منه الغربي، مستشهدا بما أورده محمد أركون في كتابه "الإسلام.. الأخلاق والسياسة" عندما اعتبر أن عودة الديني لا تعني المجتمعات الإسلامية، لأن هذه المجتمعات لم يغب فيها الديني حتى يعود، وإنما هذه العودة للديني ظاهرة غربية محضة قصدها التمويه والتغطية على عمليات العلمنة الجذرية. ورغم وجاهة رؤية محمد أركون في رؤية الفضاء الغربي، يقول بلعقروز؛ إن أركون لو عاش لزمن الثورات العربية لشاهد "كيف يعود الديني من جديد، وكيف جرى تحريك الجماهير بإلهاب عاطفتهم الدينية التي لن تقوى أية طاقة عقلية على تحريكهم من دونها، وكيف تصدعت تبعا لهذا مشاريع العلمنة والتحديث التي لم تقدر على أن تستوعب صميمية المقوّم الديني في نسيج وثقافة الإنسان العربي، وصلته الجوهرية العضوية مع دائرة السياسة". ومن أجل إبانة هذه الحقيقة وتعريف الناس بقوة القداسة واستعادة الديني لدوره، قسّم الكاتب مؤلفه في إطارين على طريقة البحوث الإنسانية، إطار نظري تحت عنوان "إرادة العلمنة الكاسحة وقوة القداسة"، وجاء في ثلاثة فصول؛ الأول كلام عن قوة الدافع الديني على النحو الذي كان في الربيع العربي وكيف أن الإقناع العقلي بالتغيير وحده لا يكفي، بل يجب أن تتحرك الجماهير بلغة العاطفة الدينية، فكانت الخلاصة أن القداسة الدينية هي المكون الأساسي والقلب الممد للجسم الاجتماعي بنسغ الحياة، ومن هنا يقول الكاتب؛ "بدأت أعراض الخسوف العلماني تتبدى سافرة باستعادة الديني لدوره في تنظيم الشؤون السياسية، وإدخاله كمقوم ثقافي في مشاريع التربية والإصلاح الحضاري". أما الفصل الثاني، فكان مداره افتتاح مجلس نقاش مع الحداثة بوصفها مشروع العقل، ومن خلال التحليل المعرفي والملاحقة التاريخية والمشاهدة الحية تبدى للمؤلف أن ثمة تحالفا قويا بين العقلنة والعلمنة، كون مشروع العقلنة في تقديره ما هو إلا "إرادة كامنة تقصد التحرر من هيمنة الدلالات الدينية والأخروية وإسكات النشاط المعرفي في النسبية التاريخية". "الكتاب تناول محنة المعرفة بين القداسة والعلمنة، متخذا من عبد الوهاب المسيري ومساءلته الجذرية للانفصال بين المعرفة والقداسة نموذجا" في حين سلك الفصل الثالث مسلك "تعليق الحكم" حول إرادة الكونية التي لازمت التجربة الحداثية الغربية، واختص الباب الثاني برصد الشواهد على "استعادة الديني القِيَمي لدوره ضمن فضاءين اثنين هما: فضاء القيم الإيمانية، وفضاء المعرفة وإدراك العالم. بينما اختصت الفصول الباقية بالكلام في محنة المعرفة بين القداسة والعلمنة، متخذة من عبد الوهاب المسيري ومساءلته الجذرية للانفصال بين المعرفة والقداسة نموذجا، وكيف أن هذا الانفصال هو من أرَّخ لنشأة النموذج المعرفي المادي، وهيمنة العلمنة الشاملة اللاغية للمقاصد والمدمرة للقيم. يذكر أن الدكتور عبد الرزاق بلعقروز يشغل منصب عميد كلية الفلسفة بجامعة سطيف الجزائرية، وفي رصيده العديد من المؤلفات، ورشح لجائزة الشيخ زايد الدولية للكتاب في دورتها الثامنة لعام 2014 فرع المؤلف الشاب، عن كتابه "المعرفة والارتياب -المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر".