يقوم مركز الأرشيف الوطني بتنسيق العمل مع مصالح أرشيف دولة صربيا، للتحقيق في وثائق تاريخية تسلمتها الجزائر مؤخرا، وتخص تقريرا لقنصل فرنسي كان في بلغراد سنة 1850، يتحدث فيه عن تنقّل مجموعة كبيرة من الجزائريين إلى المنطقة؛ هربا من الاستعمار الفرنسي، وإمكانية استقرارهم جنوب يوغوسلافيا في مدينة يطلَق عليها اليوم اسم "بربريشتي". وحسب تصريح سفير صربيا بالجزائر السيد ميروسلاف شستو فيتش، سيتم بذل كل المجهودات، للتأكد من صحة التقرير، لمساعدة الجزائر على كتابة تاريخها. وفي لقاء مع "المساء" تطرق سفير صربيا للعلاقات التاريخية بين البلدين، مع إبراز أهم ما ميّز مختلف المحطات السياسية والاقتصادية التي عرفتها كل من الجزائر وصربيا بعد سنوات الثمانينات، مبديا أمله في أن تعود العلاقات التجارية إلى سابق عهدها بعد إبداء عدد كبير من رجال الأعمال الصرب، نيّتهم في نقل معارفهم وخبراتهم للطرف الجزائري. ^س: يسجل التاريخ أن عاصمة صربيا بلغراد من أولى العواصم العالمية التي اعترفت بالحكومة المؤقت الجزائرية، كيف حصل أول لقاء بين المسؤولين الصرب وقياديّي حزب جبهة التحرير الوطني؟ ^^ ج: العاصمة بلغراد التي كانت في السابق عاصمة يوغوسلافيا، هي السباقة إلى الاعتراف بقياديّي الثورة التحريرية الكبرى بعد أول لقاء جمع الماريشال تيتو مع وزير الخارجية الأسبق الأخضر الإبراهيمي، وهو اللقاء الذي تمت الإشارة إليه خلال الاحتفال الأخير باليوم الوطني للدبلوماسية من طرف الأخضر الإبراهمي نفسه، الأمر الذي ترك انطباعا حسنا لدى الحكومة الصربية، التي تتشرف بأن تكون شريكا تاريخيا ودائما للجزائر. وتشير التقارير التاريخية إلى أن الماريشال تيتو غضب كثيرا من مساعديه في تلك الفترة؛ بسبب عدم إعلامه بالقضية الجزائرية، ليقترح تقديم كل الدعم للثوار سنة 1956، من منطلق أنه كان يؤمن بأن قوة كل الثورات ضد الاستعمار كانت خارج ساحات المعركة، كما أن قضية الاستعمار مسألة وقت فقط. وكان الماريشال تيتو ينظر إلى قادة الثورات على غرار الأخضر الإبراهيمي بالنسبة للقضية الجزائرية وجواهر لال نهرو بالنسبة للهند، وزعيم غانا نكروما، بمثابة سفراء لقضيتهم خارج أوطانهم المستعمرة. وفي سنة 1958 تناقلت وسائل الإعلام السوفياتية أول لقاء جمع الماريشال برئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس، وهو اللقاء الذي وصفته العناوين الصحفية بالاعتراف الرسمي بالقضية الجزائرية وحزب جبهة التحرير الوطني. ومن خلال اللقاء تم توجيه صفعة قوية للجنرال الفرنسي ديغول، الذي كان يحقد على الماريشال تيتو بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية. وخلال اللقاء طلب الماريشال تحديد نوعية المساعدات التي يمكن أن تقدمها يوغوسلافيا للثوار، ليرد عليه فرحات عباس بأن الثورة بحاجة لمن "يخلّدها" للأجيال القادمة، ليقرر تيتو إرسال مصوره الخاص ستيفان لابودوفيش، لقضاء ستة أشهر بالجزائر، غير أن هذا الأخير بقي 6 سنوات. ^س: إذن المصور هو من أُطلق عليه "المجاهد الجزائري الصربي"؟ ^^ج: نعم، إنه المجاهد الصربي الذي آمن بالقضية الجزائرية بعد قضائه ستة سنوات يتنقل ما بين الجبال، فلا اختلاف اللغة ولا العادات والتقاليد حال دون تواصله مع الثوار وقادة حزب جبهة التحرير الوطني. وحسب شهادات ستيفان الذي قرر تقديم آلة التصوير التي استعملها في التقاط الصور، لمتحف الجيش، فقد استشهد المئات من المجاهدين وهم يحمونه من أسلحة العدو، خاصة أنه تمكن من المرور عبر خطوط شارل وموريس خمس مرات، والتقط العديد من الصور التي تعكس بسالة الثوار، والظروف الاجتماعية الصعبة التي كان الشعب الجزائري يعيشها خاصة في المناطق النائية، علما أن كل تنقلات المصور كانت تتم ليلا وفي سرية تامة لحمايته من أيادي العدو. وبعد الاستقلال عرضت الحكومة الجزائرية المساعدة من خلال اقتناء مسكن للائق للمصور بصربيا، لكنه رفض قائلا: "الشعب الجزائري بحاجة إلى الدعم المالي أكثر مني". وقد تم تكريم المجاهد الصربي من طرف السفارة الجزائرية بصربيا، وتتم زيارته باستمرار من طرف القياديين الجزائريين في كل مرة. ^س: يوغوسلافيا سابقا كانت من بين الدول التي ساعدت قياديّي الثورة التحريرية على حضور أول مؤتمر لحركة عدم الانحياز سنة 1961، كيف تم ذلك؟ ^^ج: تم تأسيس حركة دول عدم الانحياز أثناء مؤتمر القمة الأولى الذي عُقد في بلغراد خلال الفترة الممتدة من الفاتح إلى 6 سبتمبر 1961، بحضور ممثلين عن 25 دولة، وهي أفغانستان، اليمن، ميانمار، كمبوديا، سريلانكا، الكونغو، كوبا، قبرص، مصر، إثيوبيا، غانا، غينيا، الهند، أندونيسيا، العراق، لبنان، مالي، المغرب، نيبال، المملكة العربية السعودية، الصومال، السودان، سوريا، تونسوالجزائر، التي كانت ممثلة بوفد رفيع المستوى يقوده فرحات عباس، وهو ما اعتبرته الساحة السياسية والدبلوماسية العالمية اعترافا رسميا بالحكومة الجزائرية المؤقتة، مع التعريف بالقضية الجزائرية في الساحة الدولية. ^س: بعد الاستقلال كيف أصبحت العلاقات بين البلدين؟ ^^ج: عرفت البلدان بعد الاستقلال ارتباطا قويا خاصة بعد أن تم اختيار نفس المنهج السياسي والاقتصادي لتسيير البلدين من طرف أكبر القادة في العالم، وهم الماريشال تيتو بيوغوسلافيا والراحل هواري بومدين بالنسبة للجزائر. وعرفت سنوات 1970 انتعاشا من ناحية المبادلات التجارية التي بلغت أرقاما قياسية ومست عدة مجالات، على غرار التسليح والمنتجات الصناعية، بالإضافة إلى إرسال خبراء إلى الجزائر لمرافقته في مرحلة إعادة البناء وتطوير القطاعات الصناعية والتجارية، لكن بعد وفاة هواري بومدين سنة 1979 وتيتو 1980، انقلبت حال البلدين اللذين عرفا عدة تحولات مست المجال السياسي والاقتصادي. غير أنه بعد انتخاب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة تَقرر إعادة العلاقات التجارية ما بين البلدين، خاصة أن الرئيس زار عدة مرات بلغراد كوزير للشباب، ثم كأصغر وزير للخارجية، ليتقرر التوقيع على عدة مشاريع مختلطة في مجال الموارد المائية والأشغال العمومية، ناهيك عن تدعيم العلاقات العسكرية في مجال بيع الأسلحة وتبادل الخبرات والمعارف. ^س: كم هو عدد المؤسسات الصربية التي تنشط بالسوق الجزائرية؟ ^^ج: نحصى اليوم 20 مؤسسة صربية بالسوق الجزائرية في مجالات الري وإنجاز السدود والصناعات الغذائية، وقد تطورت العلاقات ما بين رجال الأعمال بعد التوقيع على عدة عقود لإنشاء مؤسسات مختلطة ما بين "إيدرو تكنيكا صربيا" و«إيدرو تكنينك الجزائر"، وهي الشركة التي تنتظر الاستفادة من صفقات خلال الخماسي المقبل. وهناك شركة مختلطة ثانية تم إنشاؤها بعد التوقيع بين الشركة الصربية المتخصصة في إنجاز غرف التبريد "أي تي اين"، والشركة الجزائرية التابعة لشركة تسيير المساهمات للإنتاج الفلاحي "فريغوميد"، لإنشاء مجموعة من مخازن التبريد بأحدث التقنيات. كما يجب تأكيد أن رجال الأعمال الصرب موافقون على العمل بقانون الاستثمار 49/51، وجاهزون لنقل الخبرات والمعارف في عدة مجالات للطرف الجزائري، في انتظار استقطاب رجال أعمال جزائريين للاستثمار في صربيا من جهتهم، ونتعهد كسفارة بتقديم التأشيرات في ظرف لا يزيد عن ثلاثة أيام، لتسهيل عملية تنقلهم. ^س: ألا تعتقدون أن بُعد المسافة بين العاصمة بلغراد والجزائر وراء عزوف رجال الأعمال الجزائريين عن عقد صفقات شراكة مع نظرائهم من صربيا؟ ^^ج: لا أظن ذلك؛ لأن العاصمة بلغراد قريبة مقارنة ببعض العواصم العالمية الأخرى التي تتعامل معها الجزائر، لكن اختلاف اللغة هو العائق حاليا ما بين رجال أعمال البلدين، في حين يمكن أن نقول إن عدم وجود خط جوي مباشر ما بين العاصمتين يحول دون تقريب رجال الأعمال، خاصة أن كلا من السوق الجزائرية والصربية تبقى مجهولة بالنسبة للطرفين ولا أحد يعلم بطلبات الثاني، وعليه نتباحث حاليا للتوقيع على اتفاق جوي ما بين البلدين؛ حتى يتم فتح خط مباشر وتنسيق العمل ما بين الخطوط الجوية الجزائرية والخطوط الجوية الصربية، التي تضم أسطولا كبيرا من الطائرات، يمكنه تلبية طلبات المسافرين الجزائريين إلى منطقة شمال آسيا. والجدير بالذكر أنني استقبلت في الفترة الأخيرة، ثلاثة وفود من رجال أعمال صرب، يقومون حاليا بزيارة عدد من المدن لاكتشاف طاقات الاستثمار وإمكانية عقد صفقات. ^س: تم الاحتفال سنة 2012 بمرور 50 سنة على العلاقات الدبلوماسية الجزائرية - الصربية، وكانت فرصة لعقد الدورة 20 للّجنة المختلطة الجزائرية الصربية، ماذا تَحقق إلى غاية اليوم؟ ^^ج: لقد تم تنظيم الدورة بالعاصمة بلغراد، وخرج المجتمعون بعدة توصيات تخص إطلاق عدة مشاريع في عدة قطاعات، مع دراسة مجالات جديدة للشراكة خارج مجال الري والصناعات الغذائية التي خطت خطوات عملاقة. وبمناسبة الاحتفال ب 50 سنة من العلاقات، تم إصدار طابع بريدي مشترك ما بين البلدين، الأول صدر بصربيا نهاية 2013، والثاني بالجزائر مؤخرا، وهو يحمل صورة مشتركة لسجادتين، الأولى من صنع صربي، وهي تعكس عمق التقاليد، والثانية من صنع جزائري، وتشترك السجادتان في الألوان والرسومات التي تتضمنها. ^س: شاركت وزارة السياحة والصناعات التقليدية مؤخرا في أكبر معرض للسياحة ببلغراد، هل يمكن أن تكون الجزائر وجهة سياحية لصربيا، والعكس صحيح؟ ^^ج: مشاركة الديوان الوطني للسياحة كممثل للجزائر في المعرض الدولي للسياحة بالعاصمة بلغراد، ترك انطباعا حسنا لدى سكان صربيا، خاصة أن الجناح استقطب عددا كبيرا من الزوار والعديد من المهنيين، ونتوقع أن تكون صربيا في أقرب وقت، الوجهة المفضلة للسياح الجزائريين مستقبلا. ^س: علمنا أن مركز الأرشيف الوطني تقدم إليكم بطلب يد المساعدة للتحقق من بعض التقارير التي تسلّمها في إطار استرجاع الأرشيف الجزائري من فرنسا، وهي تخص هجرة بعض الجزائريين إلى يوغوسلافيا مباشرة بعد دخول الاستعمار؟ ^^ج: فعلا علمنا أن الجزائر تسلمت جزءا من أرشيفها من السلطات الفرنسية، ومن بين التقارير التاريخية التي تحصّل عليها مركز الأرشيف الوطني تلك التي تتحدث عن هجرة أفراد من الجالية الجزائرية مباشرة بعد الاستعمار، إلى إسطنبول مرورا بيوغوسلافيا. وتَطرق تقرير القنصل الفرنسي للحالة المزرية للجزائريين الذين كانوا بملابس رثة وبدون مؤونة، وهناك احتمال كبير أن يكون هؤلاء الجزائريون هربوا من الاستعمار، ورفضوا العيش تحت سيطرة المسيحيين ليستقروا جنوب يوغوسلافيا، في منطقة كانت تابعة للإمبراطوية العثمانية في تلك الفترة، يطلق عليها اسم سنجاق، وأنشأوا مدينة لهم بالمنطقة يطلق عليها اليوم اسم بربريشتي. هذه الحقائق التاريخية نحاول اليوم تأكيدها عبر الأرشيف الذي تحصلت عليه صربيا بعد انفصالها عن يوغوسلافيا. ويبقى على الجزائر طلب الأرشيف من إسطنبول لجمع كل المعلومات، مع العلم أن صربيا سلّمت كل الأرشيف المتعلق بتاريخ الجزائر، للسلطات المتخصصة بين 1962 و1990.