يؤكد الدكتور عامر رخيلة الأستاذ الجامعي ورجل القانون والمحلل السياسي والباحث في تاريخ الحركة الوطنية، أن الشعب الجزائري كان الممول الرئيس للثورة الجزائرية، التي اندلعت بدون تنظيم محكم يضبط جانب التمويل لأسباب موضوعية، لكن مع ثقة كبيرة لدى مفجريها بأنها لن تجد حضنا أفضل من الشعب برغم الحالة الاجتماعية المزرية التي كانت تعيشها أغلب العائلات الجزائرية حينذاك. ويعود في هذا الحوار الذي أجرته معه «المساء» إلى أهم المحطات التي عرفتها عملية تمويل ثورة نوفمبر، ومدى مساهمة كلا من الجالية الجزائرية في المهجر، وكذا الدول العربية بالخصوص وأصدقاء الجزائر في الوقوف سدا منيعا أمام كل محاولات العدو الفرنسي لتجفيف منابع تمويل الثورة. @ المساء: نعلم أن المال هو عصب كل شيء، وهو بالنسبة لأي ثورة عامل مصيري لنجاحها، فكيف تم التعاطي مع هذه المسألة عشية اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر من طرف مفجريها؟ @@ الدكتور عامر رخيلة: إن مسألة تمويل الثورة باعتبارها عملا عسكريا سياسيا ودبلوماسيا طرحت للنقاش من طرف النواة الأولى لجبهة التحرير الوطني، وكانت من بين الأسباب التي جعلت البعض يعتبرون أن الظروف لم تتهيأ بعد لاندلاع الثورة لأنهم تساءلوا «من أين سنمولها؟»، لاسيما وإنها ستواجه قوة عظمى لها ترسانة من الامكانيات العسكرية ولها إمكانيات إعلامية كبيرة ومنظومة كاملة مدعومة بحلف أطلسي بحكم الارتباطات الموجودة في المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية...ففرنسا عضو فاعل في مجلس الأمن وهي على المستوى العسكري عضو فاعل في الحلف الأطلسي. وقد طرح أمام مفجري الثورة خياران، إما إعلان الثورة ثم التفكير في مصادر التمويل، أو العكس. فيجب التنبيه إلى أن الاشكالية التي كانت مطروحة حينها هي هل نقوم بالتنظيم ثم نعلن عن الثورة أو نعلن عن الثورة ثم ننظم؟. ولما كانت مجموعة 22 والكثير من المناضلين مطاردين من طرف البوليس الفرنسي، وكان هناك تضييق فرنسي أمني كبير على نشاطهم، كان يتعذر سريان الرأي القائل بالتنظيم ثم إعلان الثورة...وبالتالي اندلعت الثورة وهي لاتملك من الامكانيات إلا شيئا بسيطا جدا من بعض الأسلحة التي تمكن بعض المناضلين خلال الحرب العالمية الثانية من الاستيلاء عليها أو شرائها من قوات الحلفاء وبالتحديد من الأمريكيين والإنجليز، وبعض الأسلحة التي كانت متواجدة في الأوراس وكذا في المتيجة وفي منطقة القبائل، ولو أنها كانت محدودة. كما تلقت الثورة أول هبة متمثلة في مجموعة من الأسلحة التي كانت مخزنة منذ الحرب العربية الإسرائيلية، من طرف جامعة الدول العربية. وبمجرد اندلاع الثورة طرح إشكال التمويل لأن الاعتماد كان أولا على إمكانياتها الذاتية رغم محدوديتها، فالأسرة الجزائرية كانت تعيش يومئذ على الكفاف، وقلة قليلة من الشعب الجزائري كانوا يملكون إمكانيات للمساهمة المالية في تمويل العمل الثوري، ومع ذلك تم فرض اشتراكات على المواطنين البسطاء تم التمييز فيها بين العامل وغير العامل وبين التاجر والعامل اليومي وبين من يملك إمكانيات ومن لايملك. @ إذا الشعب كان هو أول ممول للثورة الجزائرية؟ @@ فعلا هو كذلك...وهنا نقف عند حقيقة وهي أنه كان هناك تنافس بين أفراد الأسرة الواحدة على من يمكنه أن يدفع أكثر، بالرغم من حالة الفقر المدقع التي كان يعيشها المجتمع. لذلك فإن تمويل العمل الثوري والعمل المسلح والمساعدات لأسر المجاهدين والفدائيين والسجناء قبل مؤتمر الصومام 1956 كان يعتمد أساسا على التضامن العائلي والأسري الشعبي الذي كان كذلك مصدر تموين وحدات جيش التحرير الوطني بالغذاء وتوفير المأوى، لاسيما في القرى والمداشر والأرياف.. لكن المسألة لم تكن متوقفة عند هذا الحد لأن هناك مجهود حربي كبير ولابد من اقتناء أدوية وأسلحة وعتاد وأدوات، خاصة بالمجاهدين في القرى والمدن. @ قلتم أن العملية كانت تتم بصفة تضامنية...لكن كيف كانت تتم الأمور ميدانيا؟ وماهي الآلية التي استخدمت لجمع الأموال؟ @@ لابد من التمييز بين حالتين ..الأولى أنه من أجل أن تكون جبهة التحرير الوطني هي التنظيم الوحيد للثورة لجأت إلى فرض اشتراكات تسلم مقابلها وصولات، وكثير من المواطنين كانت لهم هذه الوصلات بمثابة شهادة شرفية، بل أن بعضهم كان يسعى من خلالها بالحصول على شهادة النضال البلدي ...وتسليمها كان فرضا ومقننا. الحالة الثانية هي أن يتطوع الفرد من تلقاء نفسه، وهكذا فإذا فرضت الجبهة اشتراكا بفرنك أو اثنين، يمكن دفع أكثر من ذلك تضامنا مع الثورة. ويمكن إذا القول أن جمع الاشتراكات كان يتم بطريقة نظامية من جهة، وتلقائية من جهة أخرى. هذه الأخيرة كان يغذيها الوازع الديني لدى البعض فكانوا يرفضون ذكر هويتهم، فيما كان يخشى آخرون الافصاح عن تضامنهم مع الثورة خوفا من الوشاية بهم أو متابعتهم من طرف عملاء فرنسا، بل أن بعض النساء قمن ببيع أو رهن مصوغاتهن للمشاركة في المجهود الحربي. @ هذا داخل الجزائر...فماذا عن مساهمة جزائريي المهجر في تمويل الثورة؟ @@ النواة الأولى للجبهة كانت تدرك أهمية الجالية الجزائرية في المهجر..لأنه لاننسى أنه في 1954 تقول التقديرات إن عددهم كان يتجاوز ال 300 ألف، بل قد يصل إلى 400 ألف مهاجر. لكن ما كان يمثل خطرا بالنسبة للجالية في المهجر ليس عدم وحدتها بل التأثير الكبير عليها من طرف مصالي الحاج كرجل تاريخي ومؤسس للحركة الوطنية. لذا فإنه بمجرد اندلاع الثورة سعى منسقها المرحوم محمد بوضياف إلى إنشاء هياكل خاصة بالجبهة في فرنسا بالخصوص والبلدان المجاورة لها لاسيما بلجيكا وسويسرا وألمانيا، من أجل تأطير المهاجرين، حيث لم يكن الأمر سهلا. فالمحاولات الأولى بدأت في ماي 1955 ولم تتمكن الجبهة من بسط تحكمها على الجالية حتى 1957...بعدها لاحظنا أن مؤسسات الجبهة وفي مقدمتها الحكومة المؤقتة كانت تتلقى 500 مليون فرنك فرنسي قديم شهريا، تنقل في حقائب من باريس وغيرها من المدن الفرنسية إلى تونس ثم إلى الجزائر أو توضع في حسابات بسويسرا وألمانيا... وارتفع المبلغ المحصل شهريا منذ عام 1959 إلى مليار فرنك فرنسي قديم. وهنا أتحدث عن الدور الكبير الذي لعبه مناضلو جبهة التحرير الوطني في خلق شبكة جونسون التي كانت تتولى نقل هذه الأموال إلى خارج فرنسا. كل هذه الأموال كان يتم جمعها عن طريق 3 مصادر، الأول هو الاشتراكات الشهرية المفروضة على كل عامل مهاجر في فرنسا، الثاني هو الاشتراكات المفروضة على أصحاب المحلات من مقاهي ومطاعم وأخرى التي يسيرها ويملكها جزائريون، والثالث هو الهبات والمساعدات التي تأتي من بعض الأحرار بفرنسا أو بعض الجاليات التي تتعاطف مع القضية الجزائرية. ومثلت هذه الأموال رصيدا رئيسيا لتمويل العمل الدبلوماسي والعمل الحربي داخل الجزائر وتأمين التمويل للولايات في الداخل لاسيما في سنة 1956 عندما وضع تنظيم للجيش ووضعت الرتب وخصص لها مقابل تمثل في مكافآت شهرية تدفع للمجند أو أسرته أو أسر الشهداء. ولايفوتني هنا أن أذكر بمسألة أخرى أزعجت موريس بابون وغيره من متطرفي فرنسا الذين اعتبروا المساعدات المالية التي تمنح للجبهة من اتحاديتها بفرنسا سبب في استمرار الثورة، ومن أجل خنقها فكر الاستعمار في تجفيف في مصادر تمويلها، وبما أن الاشتراكات كانت تجمع ليلا والاتصالات والاجتماعات تتم ليلا، اتخذ قرار تمييزي لم يسبق وأن عرفه العالم بتاريخ 5 أكتوبر 1961، هو حظر التجول على الجزائريين فقط من الساعة الثامنة والنصف مساء إلى الخامسة والنصف صباحا وأن يغلقوا محلاتهم ابتداء من الساعة السابعة مساء. @ هذا على المستوى الجزائري...فماذا عن المساعدات الخارجية للثورة..ومن هي البلدان التي ساهمت في تمويل الثورة الجزائرية؟ @@ ابتداء من 1955 أقرت الجامعة العربية لائحة تنص على تمويل الثورة الجزائرية عن طريق اشتراكات من طرف كل الدول العربية تدفع عن طريق الجامعة...وكانت الأخيرة هي التي تحدد قيمتها حسب إمكانية كل دولة...هذا لايعني أن الدول تقيدت بما تم إقراره..لاحظنا بالنسبة للعراق مثلا أنها تجاوزت ماقرر عليها من مبالغ ...ومن 1955 إلى 1962 كانت هناك ميزانية على مستوى الجامعة لتمويل العمل الدبلوماسي الجزائري وبعثات الجبهة ومكاتبها الخارجية...ثم خصصت ميزانية لتمويل الحكومة لمؤقتة بعد تأسيسها في 19 سبتمبر 1958. @ هذه المساعدات هل كانت حقيقية وهل كانت تصل إلى الثورة أم مجرد قرار للجامعة؟ @@ لم نسجل في أي وثيقة من الوثائق أن هناك تقاعس من طرف أي عضو من أعضاء الجامعة العربية في تسديد ماتم الاتفاق عليه في مجلس الجامعة، بالعكس سجلنا أنه لم تكن بعض الدول العربية تكتفي بما حدد لها بل تقدم خلال زيارات الوفود التي تنظمها الجبهة والحكومة المؤقتة مساعدات إضافية ...هذا في الجانب الرسمي، ولاننسى المستوى الشعبي بالدول العربية فسجلنا في أقطار المشرق العربي وبالتحديد في بلاد الشام تفاعلا كبيرا من طرف الشعوب، حيث كانت تجمع اشتراكات على مستوى المدارس وكان هناك تنافس بين أبناء سوريا والعراق والأردن خصوصا لجمع التبرعات. وقد ذكر المرحوم عبد الحميد مهري هذه الهبات الشعبية بامتنان لأنها كانت تأتي من أطفال وتلاميذ ونقابات عمالية وبعض رجال المال والأعمال. @ وخارج الدول العربية؟ @@ وجدنا مساعدات من دول بأمريكا اللاتينية تمثلت خصوصا في مساعدات دبلوماسية وإعفاء الجزائريين من بعض الرسوم وتقديم مساعدات أخرى كانت تصل بطرق سرية بسبب الصراع «شرق-غرب» الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. لكن منذ عام 1957 بدأت الولاياتالمتحدةالأمريكية تنزع نحو التملص من التزاماتها مع فرنسا من خلال التصويت بالامتناع بعد أن كانت تؤيد المواقف الفرنسية...فعملية العزل السياسي لفرنسا حررت الكثير من الأقطار في أمريكا اللاتينية وآسيا لتقديم مساعدات وهبات. وهكذا فإذا رتبنا التمويل المالي للثورة الجزائرية يمكن القول أن التمويل الشعبي الجزائري يأتي في المقام الأول رغم حالة الفقر التي كان يعيشها الشعب...وفي المقام الثاني الجالية الجزائرية في المهجر التي كانت لديها تقاليد ووعي وتكوين تنظيمي تعود إلى احتكاكها بالحركات الوطنية منذ نجم شمال إفريقيا..أما المصدر الثالث فكان عربيا، رسميا وشعبيا. وهنا يمكن فتح قوس للإشارة إلى أن الكثير من العرب كانوا يتمنون الانضمام إلى الثورة الجزائرية، إلا أن الرد الجزائري كان «إن الثورة تحتاج إلى كل المساعدات إلا العنصر البشري لأنه لدينا فائض في الراغبين في التجند». @ بالنسبة لتسيير الأموال المجموعة، كيف كانت تتم العملية ومن كان يقوم بها؟ @@ لا يجب أن ننسى أنه عند اندلاع الثورة فإن الذين عينوا على رأس المناطق هم مناضلون كانوا موجودين في مجموعة 22 ومناضلون عقائديون ولديهم امتداداتهم النضالية. لذلك ركزوا في البداية على التمويل المحلي. كل منطقة كانت تشرف محليا على التمويل وتوزع الامكانيات المتوفرة على مستوى المنطقة والنواحي والأقسام. وهو ما يعني أن المناطق كانت مستقلة في تسييرها المالي. لكن بانعقاد مؤتمر الصومام طرحت مسألة التمويل وتنظيمه وتم رسم قواعد له، لاسيما بعد أن زادت نسبة المداخيل المالية التي أصبحت تفوق الحاجيات العسكرية إلى التسليح، إذا سجل فائض مالي كان يوجه إلى قادة الولايات في مجلس الولاية الذي يتكون من 3 أعضاء والذي كان يقوم بصرف المبالغ على المناطق والنواحي حسب حاجتها وأهميتها العددية ومستوى التجنيد. فالتنظيم كان على المستويين المركزي والمحلي..لقد ظل على مستوى الولاية لكنه مرتبط بقيادة مركزية متمثلة في المجلس الوطني للثورة الذي يعقد جلسة كل سنة يحضره ممثلو الولايات ويتم فيه مناقشة الجانب المالي. هذا من سنة 1956 إلى سنة 1958. لكن بعد إنشاء الحكومة المؤقتة أحدث منصب وزير المالية الذي شغله المرحوم أحمد فرانسيس، وهكذا كلفت الوزارة باعداد موازنة بالمداخيل والمخارج وفصولها لتمويل الهيئة العامة لأركان الجيش والولايات والتكفل باللاجئين الجزائريين في الشرق والغرب. وهنا لابد من الاشادة بالمساعدات المالية واللوجستيكية التي قدمتها ليبيا وتونس والمغرب للثورة. @ نعلم أنه كانت هناك صعوبات في نقل الأموال...كيف تمكن قادة الثورة من تجاوز هذه الاشكالية؟ @@ تمت الاستعانة بأجانب وفي مقدمتهم بعض الأحرار الفرنسيين الذين كانوا في شبكة جونسون، كماجزائرية.تعانة بمصري يهودي كان ابن رجل مصرفي وكان بعيدا عن الشبهات، وبواسطته تم فتح حسابات مالية سرية في ألمانيا وسويسرا حيث استغل هذا الجانب التقني القانوني المصرفي- أي سرية الحسابات المعمول بها في هذه البنوك- بذكاء من طرف فيدرالية الجبهة لاخراج المال من فرنسا. كما تمت الاستعانة بالسفارات العربية لاسيما المصرية التي كانت تمنح لنا جوازات سفر غير جزائرية..دون إغفال الدور الذي لعبته دول أخرى وتنظيمات يسارية لاسيما في الخمسينات حين عرف اليسار والحركات التحررية توهجا، سمح بتقديم مساعدات لوجستيكية من كثير من الأحرار. @ كيف كان الوضع المالي عند الاستقلال؟ @@ كنا نعيش أزمة حقيقية، لم تكن الوضعية المالية جيدة...تم تسجيل عجز كبير في الميزانية ناتج عن نزيف رؤوس الأموال الأجنبية، وتم سحب الودائع من طرف المستوطنين الأوروبيين...إذ بلغ الانخفاض 110 مليون فرنك قديم...و20 مليون قيمة الديون التي تركوها...ونتيجة انخفاض كمية النقود حدث جمود في الحركة التجارية وعجز في تغطية حاجيات التجهيز في كل القطاعات، فقد بلغ العجز في القطاع الفلاحي مثلا 60 مليار فرنك قديم، وفي القطاع الصناعي 50 مليار فرنك، فيما بلغ العجز في القطاع التجاري 30 مليار فرنك...وهي مبالغ ضخمة.