استضافت المكتبة الوطنية أوّل أمس شعراء تونس القادمين من عاصمة الثقافة العربية قسنطينة، بعدما وقّعوا حضورهم في "ليالي الشعر" بالقوافي وعذب الكلام المعطّر بالشوق، والمترجم لأواصر علاقات صلة الرحم بين الشقيقتين الجارتين تونس والجزائر، فتناوبت القراءات في جوّ حميمي دافئ، عكست تجليات ملكات الشعر التي لا تقاوَم، كما عكست التواصل الثقافي الممتد منذ عقود. نشّط هذه الأمسية الشعرية التونسية الأستاذ عبد الرزاق بوكبة، الذي رحّب بالتوانسة المشاركين في تظاهرة "ليالي الشعر" التي تحمل شعار "الشعر والتراب"، والتي يشرف عليها الشاعر بوزيد حرز الله. كما حضرت الفعالية خمسة أصوات شعرية، حاملة معها الجمال كله، ممثلة في نفس الوقت الشعرية التونسية؛ باعتبارها نوافذ مطلة على المشهد التونسي، كما أنّ لها علاقة بالمشهد الجزائري بحكم التاريخ والروابط. وفي كلمته، أكد الأستاذ بوكبة أنّ تونس كانت حاضرة دوما بالجزائر، وساهمت في تكوين الأجيال من خلال الزيتونة والصادقية وغيرهما، ورغم ذلك بقيت العلاقة الثقافية بين البلدين في حدود ضيّقة، وبالتالي أطلقت في هذا الفضاء دعوة للمؤسّسات الرسمية بالبلدين، لفتح سوق ثقافة مشتركة، تسمح بأن يقرأ الجزائري ما يكتبه وما ينتجه المثقف التونسي، والعكس. وانطلقت القراءات مع الشاعر شوقي العنيزي، وهو من مواليد تونس سنة 1979، أصدر عدّة كتب منذ سنة 2002، منها "البستان وما جاوره"، "مرثية الظلّ" و"أسئلة المعنى" الخاصة بدلالة الشعر؛ باعتبار شوقي باحثا أكاديميا. وقرأ الشاعر "الفاتحة" التي تقول: "الوردة التي أوصتني بأن أضعها على قبرك وأقرأ الفاتحة.. الوردة سقيتها بعيننا ومن أجلها سكبت أعوامي على هذه الأرض". قرأ شوقي أيضا "المرآة" و"التعاويذ التي أطلقتها" و"مغارة علي بابا"، ومن هذه الأخيرة قال: "كلّ ليلة أفتح سرة أحلامي لتخرج صورة وجهك الضاحك"، وقرأ أيضا "نتساقط في صمت"، وتحمل دلالات سياسية، وقصيدة أخرى في نفس المعنى، وهي "قصيدة للوطن الصامت"، وقرأ "الأمطار" التي ذكّرته بأمطار قسنطينة، ثم ختم ب"المصافحة". الصوت الثاني كان للشاعرة القاضية عبير مكي، التي بدت عليها سمات الوقار. وقرأت هذه الشاعرة المقلة في إصداراتها - لها "أسماء شرقية" لكنها حصّالة للعديد من الجوائز المهمة، وهي أيضا مترجمة لأعمال الشاعر الجزائري الكبير مالك حداد - "أضواء وعلياء" ومقاطع شعرية أخرى متنوّعة، عكست تمكّنها الشعري ورؤاها الفلسفية ومختلف الصور الجمالية الراقية. تَقدّم بعدها أكبر المشاركين في الوفد، وهو الشاعر محمد الهادي الجزيري، الذي أصدر سنة 1994 ديوانه "زفرات الملك المخلوع"، ثم بعدها بسنتين أصدر "رقصة الطائر الذبيح"، وبعد 7 سنوات من ذلك أصدر "ليس لي ما أضيف"، ثم جلس مع نفسه ليطلق ملحمة شعرية عميقة، ثم في 2009 كان ديوانه "لا شيء في مكانه"، وأخيرا؛ أي في سنة 2013 كان "العاشق لا من ينجده"، ليلتفت بعدها إلى الشعر باللغة الدارجة. بداية أشار الضيف إلى أنّ ثمة قصائد لا تُقرأ إلاّ في الجلسات الدافئة، مثل "زفرات الملك المخلوع"، ثم قرأ "اللون البرتقالي" و"نامت على ساق الغزالة" و"ليس لي ما أضيف"، ليختم بقصيدة شعبية هي "الماء". ما ميّز حضور هذا الشاعر صوته الفصيح الجهوري، وحرصه على تجذير صورة المرأة في شعره بكلّ ما تحمله من جمال وحب ورمزية للأرض والوطن. وعلّق على ذلك الأستاذ بوكبة بالقول: "الرجل التونسي مهيأ فطريا لاحترام وحب المرأة". كما حضرت أيضا الشاعرة إيمان عمارة التي تمثّل الموجة الشعرية الجديدة بتونس، إضافة إلى كونها باحثة في الشعر الكلاسيكي العربي، ولها دكتوراه عن "صورة المرأة في الغزل"، وأصدرت "حريق في الذاكرة" سنة 1996، وصدر لها مؤخرا بالقاهرة مجموعتها الشعرية "فصام". استهلت الضيفة القراءة بالتأكيد على أنّ شعراء تونس يقرأون للجزائر، لتغرّد بعدها ب "أيّها الحب" و«الدولاب" و«مذكرات غيمة"، وكانت تتحدّث بالشعر على لسان المرأة التي تخاطب الرجل حتى عندما يكون غائبا أو ميتا أو في مهمات الحروب الخاسرة. أصغر أبناء تونس الخضراء الحاضرين كان الشاعر أنور اليزيدي، وهو أستاذ اللغة والأدب العربي وكاتب في الشؤون الثقافية، صدرت له "مياه مؤجلة". وقد أصرّ على تجديد محبته للجزائر ولكلّ أبنائها، ليقرأ بعدها "النازح من كفّ أبيه"، التي يقدّم فيها رؤية خاصة بأبناء جيله متعلّقة أساسا بالراهن العربي. جاءت بعدها لحظة الورد مع الشاعر حرز الله المشرف على الفعالية، ليكرّم بها الحضور، وشكر بها التوانسة، واعتذر منهم على كلّ تقصير، مؤكّدا على الحضور هنا وهناك بتونس. أما الأستاذ قانة ياسر عرفات مدير دائرة الأدب والكتاب في تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، فتناول العلاقة بين البلدين؛ باعتبارها متميزة، جذّرتها هجرات الجزائريين نحو تونس وإسهامهم في المشهد الثقافي التونسي، وبالتالي فإنّ التقارب حسبه لايزال ممتدا، متمنيا أن يزورنا التونسيون كما يزورهم الجزائريون كل عام. للإشارة، تمّ في هذا اللقاء الترحيب بالإعلامية التونسية سماح قصد الله من إذاعة تونس المجتهدة في رصد المشهد الثقافي المغاربي، كما تمّ الترحم على روح الكاتبة التونسية ليلى الزيتوني التي توفيت منذ أيام قليلة.