كانت الساعة تشير الى اقتراب منتصف النهار، عندما اتصلت هاتفيا بمدير مؤسسة إعادة التربية والتأهيل بوهران، للاتفاق على الموعد الذي يمكنني فيه زيارته والحديث عن حالة المساجين في هذا الشهر الكريم، والتعرف عن قرب على ظروف تأديتهم لفريضة الصوم وكيفيات قضاء وقتهم خلال هذا الشهر المعظم، فما كان من مدير المؤسسة المعنية، إلا أن رحب بالفكرة مقترحا على المجيء الى مكتبه على الساعة الثانية زوالا من منطلق "خير البر عاجله". عندما تنقلت إلى مؤسسة إعادة التربية والتأهيل المتواجدة قبالة قصر المعارض وغير البعيدة عن المدينةالجديدةبوهران، أول ما شد انتباهي، تلك الطوابير الطويلة والتجمع الكبير لنساء وشيوخ أمام باب "القصبة" كما يحلو لأهل المساجين تسميتها، الهدف منها مقابلة أهاليهم من المسجونين أو تقديم وجبات أكل لهم حضروها بالمنزل قصد تقديمها للابن او الزوج أو الأخ المسجون لجريمة يكون قد ارتكبها في حق مواطن أو المجتمع.
أسئلة كثيرة لمعرفة واقع مجهول هنالك بدأت أسأل نفسي إذا كان من المنطقي أن يتنقل الأهل لزيارة مسجونيهم وفق رزنامة معينة؟ وما هو سبب إحضار الأطعمة والوقوف في الطوابير لساعات طويلة قصد تقديم وجبة من الممكن ان تصبح فاسدة وقد تصبح ضارة أكثر من نافعة، وهو ما التزمت بطرحه على مدير المؤسسة لمعرفة السبب، وهل فعلا أن الوجبات المقدمة داخل السجن غير جيدة الى درجة تدعو العائلات الى ضرورة تحضير العديد من الأطباق وتقديمها لذويها حتى يتمكنوا من الحصول على السعيرات الحرارية الناقصة وتعويضها بما يأتيهم من خارج أسوار السجن من فواكه إضافية وأكلات دسمة. أتذكر هنا أنه مباشرة بعد طرح هذا السؤال على مدير مؤسسة إعادة التربية والتأهيل بوهران، بادر بأنه سيتكفل شخصيا بمرافقتي في زيارة السجن وكل زنزاناته ومختلف مصالحه، للتأكد من أن المؤسسة تسير بطريقة جد متقدمة. وقد بدأت الزيارة بالجناح الطبي ثم الصيدلية، فالمطعم وقاعة المسرح والمكتبة وغيرها من المرافق الأخرى الى غاية زيارة زنزانات مختلف فئات المساجين، انطلاقا من أولائك الموجودين في السجن المؤقت، وهم ينتظرون محاكمتهم، الى أولائك الذين تقدموا بالاستئناف، الى المحكوم عليهم بصفة نهائية وهم يقضون عقوبتهم، منهم من يوجد في شهره الأول ومنهم من يوجد على مرمى حجر من الخروج والعودة الى اهله وأحضان المجتمع، ومنهم من قضى نصف العقوبة وهو ينتظر العفو الرئاسي لتخفيفها، الى غير ذلك من القضايا، التي منها محاولات السرقة والقتل والتزوير واستعمال المزور والغش وغيرها...
الرعاية الصحية والنفسية مضمونة الزيارة انطلقت بالجناح الطبي ومختلف لواحقه من الطب العام الى جراحة الأسنان الى الطبيب النفساني، وكلهم يؤكدون أن السجين بمجرد التحاقه بالمؤسسة يتم فحصه بدقة متناهية للتأكد من أنه غير مصاب، وفي حالة تعرضه للإصابة بأحد الأمراض فلا بد من علاجه والاهتمام به، حتى أن العديد من السجناء أكدوا ان الرعاية الصحية التي يلقونها بالسجن غير متوفرة خارجه، حتى أن الأدوية على مستوى الصيدلية متوفرة بشكل عادي وهي في متناول السجين كلما نصح الطبيب المعالج بها، ونفس الشيء لدى جراح الأسنان الذي يؤكد أن علاج السجناء يتم بصفة عادية جدا، ولم يسبق للسجناء أن اشتكوا من أي نقص في التكفل بصحتهم. وعن أكثر الأمراض التي يعاني منها السجناء، قال طبيب الفحص العام أن الأمر متعلق خاصة بالزكام، ولذلك فإن كل السجناء لديهم ملفاتهم الإدارية والصحية كاملة على مستوى الادارة والعيادة. علما، أن المرضى الوحيدين المعزولين داخل هذه المؤسسة الاستشفائية هم مرضى الربو البالغ عددهم 6 مرضى والمناعة المكتسبة البالغ عددهم مريضين، والثمانية كانوا مصابين بهذه الأمراض قبل دخولهم السجن، ورغم ذلك فإن معالجتهم تتم بشكل عادي ويتم نقلهم الى المستشفى الجامعي أو الى العيادات الخاصة حسب طلبهم شريطة تكفلهم الشخصي بالمصاريف المالية التي تتطلبها حالاتهم المرضية... أما عن الوفيات في مؤسسة إعادة التربية والتأهيل بوهران، فيؤكد مديرها أن هذه الحالات نادرة وهناك مسألة لابد من توضيحها، كون مختلف السجون ومؤسسات إعادة التربية بالغرب والجنوب الغربي، ينقلون مرضاهم المساجين الى وهران قصد إجراء الفحوصات الطبية ومختلف التحاليل ليقضوا مدة إجراء هذه الفحوصات بسجن وهران، وهناك من يتوفى وهناك من يشفى، ولذلك فإن المتوفى أحيانا لا علاقة له بسجن وهران، إلا أنه التحق بجوار ربه وقت اجراء فحوصاته وتزامن ذلك بوجوده بسجن وهران الذي لابد عليه ان يقضي ليلته فيه، لأنه لا يوجد مكان آخر يلجأ إليه إلا مؤسسة إعادة التربية والتأهيل بوهران. أما على مستوى مصلحة الطب النفسي التي تعمل فيها ثلاث طبيبات، واحدة التحقت حديثا بالمؤسسة، فتتفق جميع الطبيبات على ان المشكل الوحيد الذي يعترض طريقهن، هو الحالة النفسية للسجين الذي يلتحق لأول مرة بالمؤسسة، والذي يكون غير متقبل لوضعه الجديد الذي انتقل إليه بفعل الجريمة أو الجنحة التي ارتكبها، وهو ما يجعل الطبيب النفسي يعمل على إفهام السجين طبيعة الوضع، ليتأقلم فيه لتتحسن حالته بعد أقل من اسبوعين، وما دون ذلك فإن الأمور تسير بشكل عادي.
وجبة كاملة في رمضان بعد الجناح الصحي، تنقلنا الى المطبخ الذي كانت تنبعث منه في ذلك اليوم رائحة الحريرة الشهية، حيث تم تحضير بمناسبة هذا اليوم حريرة وطبق زيتون باللحم وسلاطة وفاكهة الإجاص وياغورت ونصف لتر حليب لكل سجين مع قليل من التمر، حيث ستوزع هذه الوجبة على المساجين وفق عددهم في زنزانتهم في قدور تحتفظ بالحرارة الى غاية أذان المغرب، ليتناول جميع المساجين إفطارهم بصورة عادية وشكل طبيعي في جو مفعم بالتضامن والروح الإنسانية. ويقول أحدهم معترفا بأنه نادم نادم نادم على فعلته التي كلفته 15 سنة سجنا نافذا، قضى منها 7 أعوام وما تزال أمامه 8 سنوات يقضيها بين القضبان، وهو متقبل لوضعه الذي ألفه، حتى أنه قال ماذا سأفعل عندما أخرج من هنا سنة 2015، وكيف هي الحال خارج السجن، وكيف سيكون وقتها الوضع وهو الذي دخل السجن سنة 2000؟ أثناء تجوالنا داخل مختلف أروقة مؤسسة إعادة التربية والتأهيل، أكد لنا العديد، بل جميع من صادفناهم وتحدثنا إليهم، بعيدا عن أعين المسؤولين المسيرين للسجن، بأنهم نادمون وهم يحنون الى العودة الى أحضان أهلهم ومجتمعهم، معترفين بالأخطاء التي ارتكبوها ولو أنها لا تستحق كل هذه الاحكام- كما قال أحد السجناء - إلا أن صاحب الضمير عليه بأن يتعظ من الدرس وأن يحاسب نفسه على كل عمل يقوم به، وأن يكون حكيما في تصرفاته غير متهور في قراراته، كما يؤكد هذا السجين من ولاية تيزي وزو الذي يقضي فترة حبسه بوهران بعدما قام بسرقتة 75 مليون لصاحب المحل الذي كان يعمل عنده، لأن هذا الاخير كان يبتزه ولا يدفع له أجرته طوال سنتين كاملتين، فاغتنم فرصة وجود هذا المبلغ المالي بالخزانة فأخذه وفر بجلده لكن "المعلم" أوقعه في مصيدة وعرف مكان تواجده بوهران، فتنقل الى غاية المكان وقدم شكوى ضده وتم توقيفه والحكم عليه، وهو الآن يطالب إدارة المؤسسة بأن تدرس قضيته في أن تنقله الى تيزي وزو لإنهاء فترة سجنه هناك حتى يتمكن أهله من زيارته.
تنظيم محكم وانضباط كبير وأثناء تجوالنا بين مختلف الأجنحة والزنزانات، لاحظنا الدقة المتناهية في التنظيم والوقوف التلقائي والعادي للمساجين ومواجهتهم للحائط واعطاء الزائر بالظهر، ويعود سبب ذلك كما قال المدير، الى أن هذا الإجراء وقائي داخل كل السجون حتى لا يلتقي السجناء مع بعضهم ولتفادي الحوادث التي قد تحدث فيما بينهم، وما ينجر عنها من شجارات قد تؤدي الى ما لا يحمد عقباه، لذلك يعمل المسؤولون والمسيرون على تقليص فترة الاختلاط بين السجناء والالتقاء فيما بينهم الى أقصى حد ممكن، وأن يقتصر الالتقاء على المساجين المتواجدين داخل الزنزانة الواحدة فقط.. وفي هذا الإطار لابد من الاشارة الى حالة الاكتظاظ الكبيرة المتواجد بمؤسسة إعادة التربية والتأهيل بوهران، التي يوجد بها اكثر من 3300 سجين، علما بأن الرقم ارتفع في بعض الحالات الى 4000 سجين، وهو ما يجعل امر تسييرها صعبا جدا، خاصة اذا عرفنا ان طاقة استيعاب هذا السجن الذي انجز سنة 1936 لا تتعدى 1400 سجين، وهو الأمر الذي جعل الوزارة الوصية تتفهم هذه الوضعية وتسجل انجاز مؤسستين أخريين الاولى بمسرغين والثانية ببئر الجير بطاقة استيعاب ألف سجين لكل واحدة منهما.
فرص التكوين متاحة ورغم هذه الصعوبات في مجال التسيير، إلا أن مؤسسة إعادة التربية والتأهيل استطاعت خلال السنة المنصرمة، إنجاز برنامج تكويني لفائدة مساجينها في مجالات الإعلام الآلي، من خلال استحداث فوجين ب30 فردا وتكوين 27 مساعد محاسب و30 فردا في تخصص ميكانيك السيارات و25 فردا في ورشة زراعة الخضر والفواكه، وكذا 20 فردا في تربية النحل، وهذا في إطار الورشة الخارجية الواقعة ببلدية مسرغين، التي يوجد بها حوالي 110 سجين، حسب ما أكده السيد بلحرمة رئيس مصلحة إعادة الإدماج بالمؤسسة، التي شهدت تسجيل 34 فردا تقدموا لامتحانات شهادة البكالوريا، نجح منهم 3 أفراد، وتم تسجيل 20 طالبا، منهم 9 طلبة جدد في جامعة التكوين المتواصل، في الوقت الذي تم فيه تسجيل 109 سجين في دروس محو الأمية.
حتى أسباب الترفيه موجودة للعلم، فإن إدارة مؤسسة التربية وإعادة التأهيل، تسهر من خلال مديرها بصفة شخصية، على توفير وجبة غذائية صحية ونظافة دائمة، حيث يتم تنظيف كافة أجنحة المؤسسة مرتين كل يوم وهذا تفاديا للأمراض بسبب الاكتظاظ الذي يسبب إزعاجا كبيرا للمسؤولين والمسجونين على حد سواء، ورغم ذلك فإن كامل الزنزانات مجهزة بجهاز تلفزيون ملون، كما أن هناك فرقة مسرحية بالسجن قام أعضاؤها بإنجاز وإخراج 4 مسرحيات بعنوان "الشيطان والبحار" و"العاقبة"، وهناك مسرحيتين أخريين تتعرضان لموضوع سرقة الأعضاء البشرية والمتاجرة بها في الخارج. أما عن الدروس الخاصة بالتوعية الدينية وكيفية تقديمها، فيؤكد مدير المؤسسة أن هناك طريقتان، الأولى تتمثل في إعطاء دروس عبر جهاز الفيديو والثانية مباشرة يلقيها أئمة على مستوى الساحات المخصصة لكل فئة من المساجين. من جهة أخرى، تسعى إدارة السجن الى توعية المسجونين بضرورة الابتعاد عن ممارسة الجريمة، كونها ضارة للفرد والمجتمع على حد سواء... إلا أن نسبة الانتكاسة المرتفعة (أكثر من 60)، تؤكد انه على المختصين البحث وتفهم المجتمع أكثر للوصول الى نسبة انتكاسة اقل كما هو الحال في كندا (1) أو بلدان افريقية اخرى (زيمبابوي 25)، فالمجتمع ينظر الى السجين دائما على انه شرير، وهذا أمر خاطئ، كما يؤكد ذلك المدير، باعتبار أن السجين ارتكب حماقة دفع ثمنها من خلال حبسه، لذلك لا بد من إعادة الاعتبار للسجين ليصبح مواطنا عاديا بعد أن دفع ثمن غلطته وجريمته، وذلك من خلال البحث الدقيق والموضوعي على آليات جديدة في العقاب وترك السجن كآخر مراحل الردع. في نهاية الجولة التي استغرقت أكثر من 6 ساعات، صادفت فوجا من المواطنين خارجين من قاعة المحادثة التي يتم فيها لقاء السجين بأحد أفراد أهله يتكلم معه عبر الهاتف مع وجود جدار زجاجي عازل، علما أن القاعة تضم 21 مخدعا هاتفيا، قال المدير أنه يعمل على توسيعها لتتمكن من استيعاب عدد أكبر من المساجين الذين يلتقون أهلهم، كما توجد 3 مخادع هاتفية خارجية يمكن للسجين محادثة أي فرد من عائلته مرة في الأسبوع لمدة لا تزيد عن 10 دقائق.