تستقبل مؤسسة إعادة التأهيل بحي بوالصوف بقسنطينة 1550 سجينا يقضون عقوبات تفوق الخمس سنوات عن جرائم مختلفة. "المساء" عبرت أبواب هذه المؤسسة العقابية لتدخل عالم المساجين وتطّلع على حياتهم اليومية بين جدران السجن، وقد كان هدفنا من هذه الزيارة شقين، أولا معرفة وضعية السجون بعد تطبيق سياسة إصلاح المؤسسات العقابية، وثانيا معرفة أحوال نزلاء مؤسسة إعادة التأهيل ببوالصوف في شهر رمضان الكريم بعيدا عن الدفء الأسري ولمّة العائلة حول مائدة الإفطار. عند وصولنا إلى المؤسسة العقابية الواقعة بالمنطقة الصناعية، أول ما صادفنا باب ضخمة سوداء اللون وأول ما أثار انتباهنا لوحة تعلو الباب عليها عبارة ممنوع التصوير. بعد ولوجنا الباب الرئيسية واستكمال الإجراءات الأمنية رافقنا حارس الأمن إلى مكتب مدير المؤسسة، كان السكون يخيم على المكان ولا حركة سوى بعض المساجين الذين شاهدناهم عن بعد يقومون بأشغال التنظيف في المحيط الخارجي. بمجرد وصولنا إلى البناية ودخولنا، تغير الديكور وأصبحنا كأننا في عالم آخر، عالم منفصل عن العالم الخارجي، أعوان أمن منتشرون في كل مكان، كاميرات مراقبة في كل زاوية، وحركة دؤوبة للمساجين الذين فضلوا قضاء وقتهم في العمل الذي يتقنه كل واحد منهم، تشعر وكأنك في ورشة كبيرة مفتوحة يتحكم في حيزها أعوان أمن يرتدون البذلة الرمادية ويتحكمون في فتح حيز وغلق آخر حسب متطلبات العمل. وصلنا إلى مكتب المدير وسط أشغال ترميم وإعادة تبليط وطلاء للأسقف وجدران الإدارة يقوم بها مساجين يبدو أنهم يتقنون جيدا عملهم، لم نجد المدير الذي كان في مهمة عمل واستقبلنا نائب المدير الضابط الرئيسي لإعادة التربية السيد رحماني، الذي رافقنا طيلة الزيارة التي امتدت من الساعة 13.50 وإلى ما بعد الساعة الخامسة مساء. دخولنا إلى المؤسسة إعادة التأهيل توافق مع خروج المساجين إلى أفنية المؤسسة للراحة، كان بعضهم يحمل سجاجيد للصلاة. اتفقنا مع السيد رحماني على خطة عمل معينة تسهل لنا الزيارة التفقدية، وكانت أول نقطة في هذه الرحلة قاعة استقبال المساجين لذويهم، كانت قاعة طويلة تتسع لحوالي 20 سجينا مزودة بهواتف ثابتة يتكلم من خلالها نزلاء المؤسسة العقابية مع أهلهم الذين يقفون من وراء حاجز زجاجي يفصل الطرفين. شربة فريك بلحم الخروف والزلابية في الموعد بينما كنا في أروقة السجن متجهين إلى المطعم للاطلاع على ظروف تحضير وجبة الإفطار، كانت روائح الطعام تفوح على بعد العشرات من الأمتار، كانت الساعة حوالي الثانية والنصف حيث أسرعنا لمشاهدة طريقة الطهي وتوزيع الأكل على الأجنحة. دخلنا المطبخ وأول ما صادفنا هو العدد الكبير من الأواني المخصصة لتوزيع الأكل، حيث وجدنا أواني توزيع الشربة على حدة وهي عبارة عن قدر حافظة للحرارة، وأواني الطبق الثاني على حدة، وكل آنية تحمل رقم الزنزانة وعدد المسجونين بها، كما صادفتنا أيضا التمور، الحليب، الفاكهة والزلابية الموجهة لمساجين. عملية التوزيع التي يشرف عليها مساجين تنتهي في حدود الساعة الرابعة إلا ربع، حسب تأكيد الطباخ الرئيسي الذي قال إن التحضير لوجبة الفطار تبدأ في حدود الساعة السابعة صباحا، كان مشهد تواجدنا بالمطبخ غريبا أمام المساجين الذين يساعدون في تحضير وجبة الإفطار فكانت أعينهم تسترق النظرات وتطرح أسئلة داخلية تنم عن فضول طبيعي. وجبة اليوم التي صادفت زيارتنا كانت عبارة عن الطبق الرئيسي المقدم كل يوم وهو شربة فريك بلحم الخروف والطبق الثاني المتمثل في عصيدة بطاطا باللحم المفروم مع زلابية، قهوة وفاكهة الإجاص للتحلية أما وجبة السحور فكانت كسكسي بالحليب والتمر. ما وقفنا عليه داخل المطعم هو توفر شروط النظافة والنوعية الحسنة للأكل المقدم خاصة وأن برنامج التغذية تشرف عليه لجنة مكونة من مسؤول المخزن، مسؤول المطبخ، طبيب المؤسسة، المقتصد ومدير المؤسسة. وجبات الإفطار متنوعة حسب البرنامج المعد لشهر رمضان، حيث يتنوع الطبق الثاني بين مرق الزيتون، الكسكسي بالدجاج، البطاطا كوشة، التليتلي بلحم الخروف والسلطة المتنوعة حسب الأيام. ولم نغادر المطعم حتى زرنا مطعم أعوان الأمن الذين يفطرون بالمؤسسة. مطعم المؤسسة مزود بمخبزة يشتغل بها حوالي 14 سجينا وتعد حوالي 3200 خبزة يوميا بمعدل خبزتين لكل سجين في اليوم، واطلعنا أيضا على مخازن المواد الأولية المستعملة في تحضير الأكل والمخزنة في ظروف حسنة من نظافة واحترام لشروط التخزين الصحي. أثناء تجولنا في أروقة السجن شد انتباهنا صدى أصوات الأقفال التي تغلق وتفتح من طرف أعوان الأمن الذين ينظمون حركة مرور السجناء من وإلى الزنزانات. العلاج النفسي والاستثمار في الوازع الديني محطتنا الثانية كانت العيادة المجهزة بأحدث الوسائل والتجهيزات، العيادة التي كانت تغصّ بالمساجين المرضى تضم قسما للطب العام وقسما لطب الأسنان كما تضم مصلحة للأشعة ومصلحة للطب النفسي التي كانت وجهتنا لتيقننا أن العلاج النفسي له دور كبير في تحسين سلوك السجين. وجدنا الطبيب النفسي بالرواق المجاور لقاعة العلاج، كان شابا في حدود الثلاثينيات تبدو عليه ملامح النشاط والروح الخفيفة، الطبيب النفسي الذي يساعده خمسة مختصين نفسانيين أكد أن المتابعة النفسية للسجين أمر جد هام خاصة قبل خروجه من المؤسسة العقابية والانخراط من جديد في المجتمع الخارجي، ليضيف نفس المتحدث أن كل سجين يملك ملفا نفسيا يحفظ بالعيادة النفسية. وعن الأحوال النفسية للسجناء في شهر رمضان أكد الطبيب النفسي أن الإقبال على العيادة يقلّ في هذا الشهر الكريم، حيث يعمد أغلب المساجين للهروب من وقت الفراغ إلى العمل وخلق أجواء أسرية فيما بينهم لتعويض غياب الدفء العائلي، حيث يجتمع نزلاء الزنزانة الواحدة في شكل حلقة أو حلقتين فيما بينهم لاقتسام وجبة الإفطار خاصة وأن البعض منهم يستفيد من القفة العائلية ليعدّوا إفطارا مشتركا بين ما يقدمه السجن وما تحضره عائلات المساجين، وتعرف حلقات الإفطار عند المساجين باسم "القربي". الطبيب النفسي أكد أن الاستثمار في الوازع الديني خير علاج للمساجين المصابين باضطرابات نفسية وأن أغلب المساجين يبدون حسرة وندما على ما اقترفته أيديهم وأوصلهم إلى ما وراء أسوار السجن، كما أن البعض الآخر يلجأ للانطواء على نفسه والتوجه للعبادة والصلاة وقراءة القرآن. تنقلنا بعدها إلى مصلحة إعادة الإدماج، هذه المصلحة التي يعول عليها كثيرا في ترقية سلوك المسجون، حيث تضم هذه المصلحة مكتبة تضم 7442 كتابا و1600 عنوانا، ويكثر الطلب في هذا الشهر الكريم حسب القائم على المكتبة على الموسوعات العلمية، كتب الشعر والكتب والدينية كما تضم المصلحة أيضا قاعة للإعلام الآلي، قاعة ألعاب، و7 أقسام دراسية. قناة مصغرة للترفيه والتحسيس للترفيه عن المساجين، ارتأت إدارة مؤسسة إعادة التأهيل بقسنطينة إنشاء قناة مصغرة تبث برامجها إلى كل الزنزانات ابتداء من الساعة السادسة مساء وإلى غاية الساعة منتصف الليل مع تمديد البث إلى الساعة الواحدة صباحا. القناة المصغرة تقوم بتسجيل أفلام، حصص، مسلسلات، أخبار، مباريات في كرة القدم، سواء من الفضائيات أو حتى تحميلها من الأنترنت، تبث على المساجين بعد معالجتها ونزع اللقطات العنيفة. تنتج أيضا حصص تحسيسية بمساهمة أخصائيين تهم المساجين حول القانون، الصحة وغيرها من المواضيع ذات المنفعة العامة. عمي عبود أقدم مسجون بالشرق الجزائري غادرنا مصلحة الإدماج متوجهين إلى أجنحة المساجين مرفقين برئيس المحبوسين. المساجين كانوا وقتها في الأفنية، كان الرواق طويلا وينتهي بتفرع إلى ثلاث جهات كل جهة تؤدي إلى جناح يضم 35 زنزانة وكل زنزانة تحوي بين 4 و5 سجناء أو بين 10 و13 سجينا من النزلاء الذين يقضون عقوبة طويلة، قصدنا الجناح "أ" الذي كان يضم 3 طوابق في كل طابق نفس العدد من الزنزانات، صعدنا السلالم للطابق الثاني وهناك التقينا أقدم سجين بالشرق الجزائري، رجل في الثالثة والخمسين من العمر، قصير القامة أبيض الشعر نظيف الهندام ويبدو في صحة جيدة رغم علامات الحزن البادية على وجهه، اسمه عبود وقضى 29 سنة بالسجن عن تهمة القتل العمدي مع سبق الإصرار والترصد، حيث كان محكوما عليه بالإعدام وبعد استفادته من العفو خفف الحكم إلى المؤبد. عمي عبود الذي ضيع أغلى سنوات شبابه بسجن تازولت بباتنة قبل أن يحول في السنوات الأخيرة إلى سجن قسنطينة، عبّر لنا بكل حسرة وألم عن معاناته وافتقاده للعائلة خاصة في مثل هذه المناسبات، حيث لا تعوض اللمّة العائلية بأي ثمن. عمي عبود الذي جلس بالقرب منا فوق سرير بإحدى الزنزانات قال : خطأ كلفني 29 سنة من حياتي، موجها رسالة في نفس الوقت إلى الشباب المتهور لتقدير الحرية التي ينعمون بها. عمي عبود أكد على التحسن الملحوظ في السجون نتيجة سياسة إصلاح السجون مقارنة بالسنوات الفارطة، لكن ذلك لم ولن يغيّر من نظرته إلى السجن الذي يبقى في رأيه أمقت مكان يمكث به الإنسان. ندم، حسرة وشوق للدفء العائلي نفس الحسرة والألم لمسناهما عند النزلاء الآخرين والذين كانوا ينصتون لحديث عمي عبود، وذلك ما استقيناه من حديث الشاب ياسين صاحب ال35 ربيعا والذي يقضي 20 سنة سجنا مضى منها 12 سنة، عن تهمة القتل العمدي. ياسين الذي لا زال مصرا عن عدم إنصافه في قضية قتل ارتكبت بسلاحه، اغرورقت عيناه بالدموع عندما بدأ يتكلم عن أجواء رمضان في حضن العائلة، معتبرا أن هناك اختلافا شاسعا بين المنزل والسجن رغم تحسن الظروف في السجن ومحاولة السجناء خلق أجواء أسرية للتخفيف من معاناتهم. ياسين وجّه رسالة إلى الشباب من أجل عدم مخالطة رفقاء السوء والابتعاد كل البعد عن الأعمال التي قد ترمي بهم في غياهب السجن والمستقبل المجهول. من جهته، ناصر صاحب ال42 سنة والذي يقضي مدة سجن ب10 سنوات قضى منها 8 سنوات عن تهمة تكوين جمعية أشرار ومحاولة القتل العمدي، أضاف أن الإنسان يحس بالغربة خارج الجو العائلي وأن الإحساس بحرقة فرقة الأهل تتضاعف لحظة الإفطار، فرغم تكوين "القربي" بين نزلاء نفس الزنزانة إلا أن ذلك لا يعوض الجو العائلي الذي يكون فيه الإفطار لنكهته الخاصة حسب ناصر الذي أكد أن خطأه كان نزوة شباب طائش وهو اليوم صاحب ال42 سنة، خسر أحسن سنوات شبابه في السجن. ناصر قال لنا: أنصح الشباب بعدم بيع حياته لمجرد أمور تافهة، وعليهم التصرف بحكمة قبل أن يقعوا في المحظور حيث لا تنفع ندامة نادم. غادرنا جناح المساجين مرورا بجناح المحكوم عليهم بالإعدام ونحن نحمل بين طياتنا آلام النزلاء، ندمهم، وحسرتهم على ما حلّ بهم. تركناهم بين جدران السجن وكلهم طمع في إجراءات العفو. دروس دينية ومسابقات فكرية شهر رمضان كان فرصة لبرمجة العديد من الدروس الدينية، حيث سطرت المؤسسة العقابية وبالتنسيق مع مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بالولاية برنامجا منوعا بمعدل ثلاث ساعات في اليوم، يشمل تعليم القرآن، الوعظ والإرشاد وكذا الدروس الدينية، إذ تم برمجت 27 درسا يلقيها أساتذة وأئمة مختصون خلال الشهر الفضيل. الإدارة نظمت أيضا وبالموازاة مع شهر رمضان سلسلة من النشاطات الثقافية وعلى رأسها المسابقات الدينية التي تحضر أسئلتها مصلحة البيداغوجيا بالتنسيق مع المسجونين، وتوزيع الجوائز يوم ال27 رمضان. نسبة العودة في تضاؤل آخر محطة لنا في زيارتنا للمؤسسة العقابية كانت قاعة مراقبة القفف، الغرفة يشتغل بها عدد من أعوان الأمن الذين يستقبلون القفف من الأهالي، يقومون بوزن القفة التي لا يجب أن تتعدى 10كلغ، لتفحص القفة عن طريق جهاز السكانير وترمى كل الممنوعات، وكل سجين له الحق في قفتين خلال شهر رمضان. غادرنا قاعة مراقبة القفف، متوجهين في نهاية المطاف إلى مكتب المدير، حيث بدأت الحركة في النقصان وكانت الساعة في حدود الساعة الرابعة والنصف، ساعة رجوع المساجين إلى زنزاناتهم، لا تسمع إلا صوت غلق الأبواب. وصلنا إلى مكتب المدير الذي أنهى شغله الخارجي، استقبلنا وتحدث إلينا عن يوميات السجناء، وعن نسبة عودة المحبوسين إلى السجن التي تشهدت تنازلا مستمرا ومحسوسا، وهذا يرجع لعدة أسباب حسب نفس المتحدث منها نجاح سياسة الإدماج ومساهمة المحيط الخارجي في تقبل خريج السجن، لكن النسبة لم ترق بعد إلى تطلعات الوزارة الوصية والمجتمع. وحسب مدير المؤسسة السيد السعيد زرب، فإن سياسة إعادة الإدماج المبنية على التكوين والتعليم فتحت آفاقا جديدة للمساجين، فالمؤسسة أحصت هذا الموسم 900 سجين مسجل في مختلف التخصصات بنسبة 70 من نزلاء السجن. المؤسسة حققت نسبة نجاح في شهادة البكالوريا السنة الفارطة قدرت ب56 وهو ما يدل على نجاح السياسة التكوينية المنتهجة حسب المدير، الذي أكد أن الوزارة تحضر برنامجا خاصا يعنى بالتكفل بكل فئة من فئات المساجين على حدة في خطوة لترقية سياسة إعادة الإدماج. وفضلا عن التعليم، فإن المؤسسة العقابية تضمن تكوينا للمساجين الراغبين يشمل الحلاقة، البناء، الإعلام الآلي، البستنة والطبخ. ما فاجأنا ونحن نتحدث مع مدير المؤسسة هو المجلة التي وجدناها على مكتبه، المجلة تحمل عنوان مجلة "الوعي" وهي نشرية صادرة عن المؤسسة العقابية تحت إشراف المدير ويقوم عليها مختص تقني سامي في الشبيبة والرياضة بمساهمة المساجين تصدر عن مصلحة إعادة الإدماج. المجلة الموجودة على مستوى المكتبة والتي تطبع منها 300 نسخة توزع على المساجين، وصلت إلى العدد الثالث الذي تناول عدة مواضيع داخل أركانها الثابتة على غرار رمضان، الأرق، الزنجبيل، تاريخ كأس العالم، إضافة إلى ركن المواهب، التسلية والمعلومات المفيدة. غادرنا المؤسسة العقابية بعد الساعة الخامسة ونحن نحمل آلام المساجين، حسرتهم وندمهم الذي كان يظهر في الأعين قبل أن تنطق به الألسن، كلهم يجمعون على رأي واحد مفاده أن السجن ومهما تحسنت ظروفه يبقى سجنا ويكفي أنه يسلب الإنسان حريته. عند خروجنا من مكتب المدير كان نائب المدير يرافقنا وكان الهدوء يخيم على المكان وكأنه غير مأهول، آخر مساجين شاهدناهم قبل خروجنا كانوا بالفناء الذي يسبق الباب الرئيسي، كانوا رفقة حارس يقودهم إلى داخل البناية بعدما أنهوا العمل الذي باشروه في ساعة مبكرة. استلمنا وثائقنا والهاتف النقال من الحارس الذي فتح لنا الباب لنغادر المكان، وقد انتابنا عند تخطي الباب الرئيسي شعور جميل بأننا أحرار طلقاء وتشعر لحظتها بقيمة الحرية التي لا يعرفها ولا يحافظ عليها الكثير.