من الصعب جدا تناول وجبة الإفطار في شهر رمضان بعيدا عن الدار والأولاد.. والأصعب من ذلك أن تتناولها داخل زنزانة بمؤسسة عقابية بين المساجين.. وإن بدا الأمر للبعض صعبا، فإني أرى نفسي من بين الصحفيين المحظوظين الذين تمكنوا من اختراق أبواب حبس "بيلير" والتنقل بكل حرية داخل أحد أكبر السجون بالشرق الجزائري لساعات، سمحت لي بمعرفة عن قرب يوميات نزلاء هذه المؤسسة العقابية في هذا الشهر الفضيل قبل، أثناء وبعد الإفطار.. في زيارة دامت قرابة أربع ساعات من الزمن، كنت فيها ضيفا مرحبا به من قبل النزلاء إلى حد أن البعض تمنى لي البقاء لمدة أطول... عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال من نهار يوم السبت الماضي.. عندما اتصلت بإدارة سجن "بيلير" بسطيف.. قدمت نفسي وطلبت مدير المؤسسة فأخبرني كاتبه أنه في اجتماع وعلي معاودة الاتصال مرة ثانية، وهو ما كان بعد قرابة ساعة ونصف من الزمن.. وجدت المدير في انتظار مكالمتي.. أخبرته بأن لي رخصة من قبل الوزارة الوصية تسمح لي بالدخول إلى المؤسسة لإجراء تحقيق حول يوميات نزلاء هذه المؤسسة العقابية والأجواء التي يعيشها المساجين خلال شهر رمضان المعظم، لاسيما عند أذان صلاة المغرب وتناول وجبة الإفطار.. رد المدير كان مختصرا وبسرعة البرق.. مرحبا بك في أية لحظة.. فالمؤسسة في انتظارك منذ وصول نسخة من الترخيص الذي بحوزتك.. بعد تبادل الحديث بيننا اتفقنا على أن يكون الملتقى بداية من الساعة الخامسة بعد الزوال.. ومن هنا انطلقت الرحلة داخل أسوار حبس بيلير... بمجرد وصولي وأمام المدخل الرئيسي للمؤسسة.. وجدت في انتظاري أحد الأعوان.. بعد التأكد من هويتي اصطحبني مباشرة إلى مكتب المدير الذي كان في انتظاري.. فقام ببعض الإجراءات البروتوكولية التي ألفتها خلال مهامي مع بعض المسؤولين، أحسست براحة تامة وكأني معتاد على زيارة هذا المكان.. بعد دردشة قصيرة دامت بضع دقائق مع المدير حول العمل أيام رمضان.. دخلنا مباشرة في صلب الموضوع الذي جئت من أجله، ألا وهو إجراء تحقيق صحفي حول يوميات المساجين في شهر رمضان.. طلبت منه إن كانت هناك أمور ممنوعة قد تمس بالمؤسسة أو تنعكس سلبا عليه كشخص لأتفاداها خلال مهمتي.. أجابني عليك الالتزام بالقوانين المعمول بها، وهي عدم استعمال آلة التصوير.. ترك الهاتف الخلوي بالمكتب.. أما باقي الأمور فأنت حر وأبدأ من حيث شئت.. والأكثر من ذلك أعطيت لي كامل الحرية في التنقل بين أجنحة المؤسسة رفقة المدير ونائبيه، بالإضافة إلى الطبيب المناوب. الوجبات تمر عبر الطبيب عقارب الساعة الآن تشير إلى السادسة وعشر دقائق.. أول وجهة لنا كانت المطبخ.. حركة غير عادية.. الكل واقف على قدم وساق لتحضير وجبة الإفطار لأزيد من 1200 سجين.. وجدت نفسي داخل مطبخ جدرانه من الرخام.. ومجهز بأحدث عتاد في مجال الطبخ.. تساءلت في نفسي.. هل أنا فعلا داخل مؤسسة عقابية؟ ربما هي "دوخة" رمضان فقط.. مثل هذه المطابخ شاهدتها في أفخم الفنادق.. لما تتميز به من نظافة وما شابه ذلك.. حتى المخبزة والمخزن والبهو المؤدي إليه جدرانه من الرخام.. جميع الترتيبات اتخذت لضمان الفطور في وقته.. قبل توزيع القدر التي تحتوي على الأكل، يقوم الطبيب بأخذ عينة من كل أكلة تبقى بمكتبه لمدة 72 ساعة، وهكذا تسير العملية يوميا.. سألنا الطبيب عن السر في ذلك.. فأجابنا نبقي على العينة من الأكل طوال هذه المدة.. في حالة ظهور حالات من التسمم الغذائي لإجراء التحاليل ومعرفة الأسباب.. بينما نحن نتحدث مع الطبيب.. لفتت انتباهنا سبورة كتب عليها تاريخ اليوم ووجبة اليوم.. تصادفت زيارتنا في هذا اليوم مع وجبة كاملة.. شربة فريك، طاجين زيتون طبق ثان، سلاطة، مشروبات غازية، بالإضافة إلى تحلية عبارة عن فواكه.. اقتربت من طباخ المؤسسة وهو سجين، طلبت منه أن يتحدث معي حول كيفية تحضير الأكل.. في البداية بدا عليه نوع من التردد والخوف.. كل مرة يلتفت إلى مدير المؤسسة، هذا الأخير طلب منه التحدث بكل حرية دون حرج، حينها تكلم وبدأ يسرد لي يومياته داخل المطبخ، لاسيما أيام شهر رمضان،الطباخ الماهر يقوم يوميا بتحضير وجبة الإفطار صباحا، بالإضافة إلى وجبة الغذاء يوميا للنزلاء من المرضى، لاسيما المصابين بالأمراض المزمنة.. كل ذلك يتم بإذن من طبيب المؤسسة.. تحضر لهم الوجبات بمراعاة جميع الشروط الصحية، بعدها يبدأ التحضير لوجبة فطور الصائمين.. هناك برنامج أسبوعي يتم تحضيره مسبقا.. الوجبة تكون متنوعة.. شربة فريك وسلاطة.. إلى جانب نوع ثان لوجبة من الأكل بلحم الخروف تختلف من يوم لآخر.. فضلا عن المشروبات والتحلية.. كل هذا جعل شهيتنا تزداد.. والأكثر من ذلك شوقنا الطباخ لتذوق الشربة التي تنبعث رائحتها من بعيد.. لكن للأسف لا تزال أمامنا قرابة عشرين دقيقة عن موعد أذان المغرب... عيادة مجهزة بأحدث الوسائل الطبية وجهتنا الثانية كانت عيادة المؤسسة.. اصطحبنا فيها الطبيب المناوب في زيارة خاطفة عبر جميع أقسامها.. البداية بطبيعة الحال من مكتبه الخاص بالطب العام.. بعد تقديمه لنا شروحات حول مهام قسمه الذي يستقبل النزلاء مباشرة عند التحاقهم بالمؤسسة.. يتم فتح دفتر صحي للمتابعة.. يهدف إلى التعرف على الحالة الصحية للسجين.. إن كان يعاني من مرض ما ونوعية الأدوية التي يتناولها.. يبقى دفتر المتابعة الصحية بالعيادة إلى غاية خروج النزيل.. بعدها كانت الوجهة إلى مصلحة طب الأسنان.. وهي مجهزة بأحدث الوسائل الطبية بداية من الكرسي إلى أبسط الأدوات المستعملة في جراحة الأسنان.. في الجهة المقابلة، المخبر وصيدلية تحتوي هي الأخرى على جميع الأدوية، لاسيما المتعلقة بالإسعافات الأولية... جناح النساء يوميات بين الساحة والتلفزيون بقيت أمامنا حوالي خمس دقائق عن موعد الإفطار.. أردنا اغتنام الفرصة والقيام بزيارة خفيفة إلى جناح النساء.. دخلنا الغرفة، وجدنا النزيلات ينتظرن أذان الإفطار.. مجموعة هنا.. أخرى هناك.. ومجموعة تشاهد التلفزيون.. تقدمت من إحداهن أكبرهن سنا.. طلبت منها أن تسرد لي كيفية قضاء يومها داخل السجن أيام شهر رمضان.. بدا الخجل واضحا على وجهها.. واكتفت بالرد عن سؤالي بجملة واحدة.. كل شيء على ما يرام.. المشكلة الوحيدة أنني بعيدة عن أهلي وأقاربي.. اقتربت من سجينة أخرى.. بنت جميلة لم تتجاوز ربيعها السابع عشر، عيونها توحي أن شيئا ما يختلج بذاتها.. فهمت أنها خجولة وخائفة من أن أطرح عليها سؤالا حول التهمة التي دفعت بها إلى داخل جدران هذه الغرفة.. لكنني حاولت آن أخفف من خجلها وطلبت منها أن تروي لي كيف تقضي يومها بالسجن ونوعية الأكل المقدمة لهن.. بالإضافة إلى معاملة الحارسات لهن.. بالحرف الواحد قالت لي "نحن هنا كعائلة واحدة.. كما ترى، النظافة داخل الغرفة.. نقضي كامل اليوم بالساحة.. بعد أذان صلاة المغرب نتناول فطورنا مع البعض.. نوعية الوجبة كما ترى الشربة، السلاطة وطبق ثان يختلف من يوم لآخر.. بالإضافة إلى المشروبات الغازية والتحلية".. بعد كسر الصيام على حد تعبيرها.. يقمن لأداء صلاة المغرب جماعة.. السيدة "ن" هي من تؤمهن.. بعد ذلك يعدن إلى تناول الفطور.. بعد الانتهاء مباشرة تسارع مجموعة إلى تنظيف الأواني قبل موعد مسلسل عمارة الحاج لخضر وما يليها من برامج محلية.. وبإمكانهن أيضا متابعة مسلسلات عبر القنوات العربية.. وتبقى النزيلات بعد ذلك إلى غاية أداء صلاة الجماعة ثم النوم. من حق كل سجين استقبال وجبة الإفطار مرة في الأسبوع.. والسوائل ممنوعة الساعة الآن تشير إلى السادسة و47 دقيقة.. أذان المغرب.. نحن أيضا معنيون بوجبة الإفطار.. أين ستكون وجهتنا.. يترك لي مدير المؤسسة اختيار أي جناح.. ثم يلتفت إلى نائبه ويطلب منه أن يختار لنا جناحا لتناول الوجبة رفقة النزلاء.. تقابلنا القاعة رقم 17 .. كنا خمسة، أنا، المدير، نائبه، مدير الاحتباس وضابط المناوبة، دخلنا الغرفة وجدنا النزلاء مجموعات أربعة بأربعة.. كل واحد منا جلس ب"مجمع" أو "القربي" كما يسمى.. الشربة.. هناك طبق الزيتون.. مشروبات غازية.. الخبز بأنواعه.. العنب.. أطباق أخرى مما بعث به أهالي السجناء.. هنا تعرفت أن لكل سجين الحق في استقبال الأكل مرة كل أسبوع.. جميع أنواع المأكولات مسموح بها باستثناء السوائل والمشروبات.. فطورنا كان على حبات من التمر.. ثم احتساء كمية من الشربة.. بعد أداء صلاة المغرب وإتمام الإفطار، جلست بجنب بعض الشباب من بينهم طباخ المؤسسة، نزيل منذ أزيد من سنة، للسنة الثانية يقضي شهر رمضان داخل السجن، شاب في الثلاثينات، متزوج وأب لثلاث "نسا" على حد تعبيره، بنات، تواجده هنا لقضية تعود لأزيد من خمس سنوات مضت بمدينة ورقلة التي يسير بها مطعما.. وعبر كلام محدثي فهمت أنه يتجنب الحديث عن قضيته.. كل مرة يسألني عن الوجبة التي أخذناها؟ إجابتي كانت، بصراحة، تقريبا هي نفس الوجبة التي اعتدت أكلها خلال شهر رمضان.. ثم راح يدفعني إلى مساءلة زملائه من القدماء لإبداء رأيهم حول الشربة التي اعتادوا أكلها منذ سنوات مضت، مقارنة بشربة هذه السنة، بصوت عال يصيح الجميع "بنينة" والأحسن على الإطلاق... "البريفو ".. رئيس القسم بيده مفتاح الإنارة والتلفزيون بالزاوية المقابلة في نفس الجناح، مجموعة من النزلاء ملتفة حول زميل لهم، الأول يطلب الدومين، شاب آخر يطلب لعبة الكلمات المتقاطعة (SCRABLE) وثالث يريد الشطرنج، من يكون هذا النزيل؟ ببساطة هو الدليل أو كما يعرف بالعامية " البريفو " .. هذا الأخير يعد كرئيس القسم.. يتم اختياره على أساس مقاييس معينة.. أبرزها الأقدمية والسن.. اقتربت منه وطلبت منه أن يحكي لي سبب تواجده بالسجن وكيف يقضي يومياته هنا.. رفض أن يجيبني عن الشطر الأول من سؤالي.. وراح مباشرة يحدثني عن الأجواء التي تميز يومياتهم.. من الساعات الأولى من النهار والتي يقضيها أغلبية عناصر الغرفة 17 بالمطبخ والمخبزة، باعتبار هذا الجناح مخصصا للخدمات.. بعد تحضير وجبة الإفطار وتوزيعها على جميع الغرف وتناول الوجبة، يسود القاعة نوع من الهدوء، حان وقت المسلسل اليومي الفكاهي "عمارة الحاج لخضر".. الجميع معني بالعملية.. بعدها يقوم الدليل بتوزيع الألعاب على مجموعات.. فيما تبقى مجموعات أخرى تتابع برامج التلفزيون إلى غاية الساعة الحادية عشر ليلا، الجميع هنا مطالب بالالتحاق بمكانه، يقوم البعض الآخر بتناول وجبة السحور، قبل قيام الدليل بإطفاء الإنارة والتلفزيون، إلى غاية السابعة صباحا... "عمارة الحاج لخضر" ولقاءات وفاق سطيف.. البرامج المفضلة للنزلاء من بين البرامج التلفزيونية التي تلقى إقبالا كبيرا وسط نزلاء سجن بيلير، السلسلة الفكاهية اليومية "عمارة الحاج لخضر" التي بثتها القناة الوطنية خلال النصف الأول من شهر رمضان الكريم، وصنعت الحدث في وسط المجتمع الجزائري بمختلف فئاته، حيث لا يضيع السجناء فرصة مشاهدتها والاستمتاع بحلقاتها، بالإضافة إلى كرة القدم والمقابلات الرياضية للبطولة الوطنية القسم الأول، خصوصا مباريات وفاق سطيف التي تحبس الأنفاس داخل القاعات، حسب ما أكده لنا بعض النزلاء.. بالرغم من وجود أزيد من مائة قناة أجنبية.. حيث يفضل النزلاء القناة الوطنية والبرامج المحلية على باقي القنوات. التعليم والتكوين لسد الفراغ آخر نقطة لنا داخل سجن بيلير.. جلسة حميمية جمعتنا بإطارات هذه المؤسسة ومديرها بمكتب هذا الأخير.. فبعد إطلاعنا على البطاقة الفنية للمؤسسة التي فتحت أبوابها منتصف الثمانينيات.. بطاقة استيعاب تقدر ب 400 نزيل.. تستقبل اليوم قرابة 1200 سجين، الفرصة كانت مناسبة لنا لمعرفة يوميات النزلاء.. في هذا الصدد أوضح لنا مديرها أنه لا وجود لوقت فراغ.. كل المساجين معنيون سواء بالتكوين أو التعليم بمراحله الثلاث.. بداية من محو الأمية إلى التعليم عن طريق المراسلة والتكوين المتواصل، ويشرف على العملية أساتذة مختصون في إطار اتفاقية مبرمة بين وزارات العدل، التكوين المهني والتمهين والتربية والتعليم.. ولعل أكبر نسبة من السجناء يوجهون إلى التكوين في عشر اختصاصات.. يتم الاختيار والتوجيه حسب المستوى مع مراعاة الحالة الصحية كشرط أساسي... وحسب مدير المؤسسة العقابية بيلير بسطيف دائما.. فإن المؤسسة سجلت في السنة الأخيرة نجاح 18 ممتحنا في شهادة البكالوريا من مجموع 28 مترشحا.. بالإضافة إلى نجاح 40 مترشحا في شهادة التعليم المتوسط من مجموع 43 .