فيدال كاسترو، هكذا اشتهر، وظل وفيا لقناعاته وصامدا في وجه التحولات والانقلابات السياسية العاصفة من حول «جزيرته» الصغيرة مساحة لكنها عظمت بصمودها وتحدياتها للحصار الذي خنق شعبها اقتصاديا واجتماعيا، ومع ذلك لم يزعزع إيمان الكوبيين بزعيمهم أو على الأقل الأغلبية منهم الذين لم ينساقوا وراء إغراءات الانفتاح شمالا. أمس الأول، رحل آخر زعماء التحرر في العالم. مناضل رضع «الجهاد» منذ كان طفلا مسكونا بحب الشعوب المضطهدة وبحركات التحرر، وبيوميات الفقراء والمستضعفين بالمختصر المفيد إن كاسترو «ظاهرة» في حد ذاته ورمز تاريخي. جدير بالتدوين والدراسة. بالتأكيد لم يكن يحظى بحب الأنظمة التي تنظر إليه وإلى كوبا من باب آخر القلاع الصامدة في عمق المحيط ضد الرأسمالية والتوسع الأمريكي طوال سنوات عديدة، لكنه يشكل رمزا للنضال والصمود لشعوب أخرى عديدة ترزح تحت نير الاضطهاد والاستعمار. رحيل كاسترو قد يكون منطلقا للتحول على قياس «بروسترويكا» قادمة قد تجرف وتفرض كثيرا من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكن مع ذلك فلن تجرف جذور وتاريخ ونضال زعيم حرر شعبه ودافع عن قناعاته وأفكاره إلى 90 سنة من العمر. ماكسيمو: كبير الثوار رحل فارق «ليدر ماكسيمو» أو «الزعيم» الكوبي، فيدال كاسترو أول أمس الحياة عن عمر ناهز التسعين عاما ليكون آخر عمالقة هذا العالم الذين تركوا بصمتهم في مسار علاقات دولية عاصفة خلال النصف الثاني من القرن الماضي بإرث سياسي ونضالي لم يرق إليه الكثير من الرؤساء. وتوقفت كل مظاهر الفرحة ليلة الجمعة إلى السبت في العاصمة الكوبية هافانا بعد ذيوع خبر رحيل الأب الروحي لعامة الكوبيين وخلت شوارعها من كل حركة بعد أن عاد الهافانيون إلى بيوتهم لمتابعة آخر الأخبار حول رحيله. وقال الرئيس الكوبي راؤول كاسترو وهو ينعي شقيقه الأكبر على شاشة التلفزيون الرسمي في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة إنه «بعميق الأسى والحزن أعلن لشعبنا وأصدقائه في الأمريكيتين وكل العالم أن قائد الثورة الكوبية توفي على الساعة العاشرة وثلاثون دقيقة ليلا. وقطع الرئيس الكوبي بذلك الإعلان الرسمي الشك باليقين واضعا حدا لكل الإشاعات التي كانت تروج من حين إلى آخر حول رحيل القائد قبل أن يتأكد زيفها وخاصة منذ انسحابه من الساحة السياسية سنة 2006 بعد مرض عضال جعله لا يقدر على مواصلة مهامه الرئاسية التي تنازل عنها لشقيقه الأصغر راؤول كاسترو. وكان لإعلان وفاة الزعيم فيدال كاسترو وقع الصدمة على ملايين الكوبيين الذين كانوا يتابعون شقيقه راؤول كاسترو وهو يتلو بيان وفاة شقيقه ومؤسس الدولة الكوبية الحديثة ويبقى بالنسبة لهم رمز تلك الجزيرة الصغيرة في عرض بحر الكاراييبي على بعد أميال عن الولاياتالمتحدة وجعلتهم يلقبونها ب «جزيرة الحرية» لتأكيد قوة صمودهم دون استكانة وتمسكا بمبادئ رفض الخضوع حتى لأكبر قوة عسكرية بحجم الولاياتالمتحدة. وتوفي الأب الروحي للثورة الكوبية بعد سنوات من الكفاح ضد حكم الديكتاتور فولغينسيو باتيستا وضد الإمبريالية الأمريكية كانت حافلة بالنضال وشكل رمز التحدي في مقاومة كل مخططات الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي لم تستسغ إقامة نظام شيوعي على بعد مئات الكيلومترات فقط عن الحدود الأمريكية. ولم يكن فيدال كاسترو رمز التحرر في بلاده الصغير فقط ولكن مواقفه الثابتة وصموده الدائم جعل منه مثالا للتضحية لكثير من شعوب قارة أمريكا اللاتينية بعد أن حمل مشعل الكفاح التحرري التي دافع عنها سيمون وبوليفار محرر القارة الأمريكية مع رفيق دربه ارنستو شي غيفارا بعد أن تبنى مبادئ الثورة الشيوعية الشاملة للقضاء على الديكتاتوريات العسكرية الأمريكو لاتينية التي حكمت شعبها بيد من حديد بداية خمسينيات القرن الماضي خدمة لمصالح الشركات المتعددة الجنسية وخاصة الأمريكية منها. ووفق مبدأ الثورة حاضرة دائما وتكتيك حرب العصابات على الطريقة الماوية، أعلن فيدال كاسترو ثورة العمال والفلاحين ضد الديكتاتورية تحت راية «حركة 26 جويلية» التاريخ الذي أعلن فيه عن كسر كل شعور بالخوف في وجه الحكم العسكري رفقة ثلة من أنصاره سنة 1953، كللت بنصر كبير سنة 1959 بإعلان نجاح الثورة الشيوعية وانهيار نظام الديكتاتور باتيستا. ورغم أن معركة القضاء على نظام هذا الحاكم العسكري لم تكن سهلة ودامت قرابة عقد من الزمن وخلفت سقوط آلاف القتلى، إلا أن معركة الصمود في وجه الولاياتالمتحدة كانت أشد، أرغمته طيلة خمسة عقود على مواجهة وإفشال كل مخططات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي.أي.إي» التي سعت في العديد من المرات لاغتياله حينا والإطاحة بنظامه في أحيان أخرى، وكانت الخيبة نتيجتها الحتمية في كل مرة. وصمد كاسترو رغم محدودية قدرات بلاده وقلة إمكانياتها وهي الخارجة لتوها من حرب أهلية في وجه الولاياتالمتحدة التي عملت على فرض حصار اقتصادي عسكري ضد نظامه لمنع انتشار عدوى ثورة الجياع في كل أمريكا اللاتينية التي كانت تحكمها ديكتاتوريات عسكرية أكثر بطشا. واقترن اسم كاسترو بتلك القامة الفارهة والبزة العسكرية الخضراء ولحيته الكثة، وسيغار «الهفانيتو»، نسبة إلى العاصمة الكوبية هافانا الذي لا يفارقه وأصبح رمز جزيرة الحرية كلها ولكن نضاله الثوري كان أسمى رموز كفاحه إلى درجة أنه رفض الزواج بعد أن شغلته هموم شعبه وكيفية إخراجه من دائرة الاستعباد إلى العيش بكل حرية في جزيرة الحرية. كما أن كاسترو ثبت على مواقفه في الدفاع عن حركات التحرر ليس فقط في أمريكا اللاتينية ولكن أيضا في إفريقيا التي حظيت حركاتها التحررية بدعم غير مشروط من بلد عرف معنى الاضطهاد والعبودية إلى درجة أنه مد حركات التحرر بخبراء عسكريين وأسلحة من أجل تغليب إرادة الفقراء في إعلاء قيم الحرية والتحرر. وهي صفات أكسبته كاريزما لم يتمكن الكثير من نظرائه في العالم اكتسابها ليس لأنه حكم كوبا طيلة خمسة عقود كاملة تباينت المواقف حول تقييمها ولكن لأنه ثبت على مواقفه في وجه قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية وأصبح مثالا يقتدى به في دول أمريكا اللاتينية الخارجة هي الأخرى من سيطرة أنظمة عسكرية استولت على السلطة بقوة الحديد والنار. وينتظر أن تنظم جنازة الرئيس الكوبي الراحل يوم الرابع من الشهر القادم بحرق جثمانه تلبية لرغبته قبل وفاته في مراسم ينتظر أن يشارك فيها عديد رؤساء العالم ومن كل القارات اعترافا بنضال الرئيس الراحل وعرفانا لتضحياته من أجل المحافظة على استقلال بلاده. الرئيس الذي تحدى 11 رئيسا أمريكيا لم يكن من السهل على رئيس أية دولة في العالم أن يصمد في وجه 11 رئيسا أمريكيا طيلة نصف قرن مثل ما فعله الرئيس الكوبي الراحل فيدال كاسترو الذين ناصبوه العداء بدرجات متفاوتة وقد رحل هؤلاء جميعهم وبقي هو رمزا من رموز النضال السياسي الحر في وجه الهيمنة الأمريكية. فمن عهد الرئيس جون كينيدي إلى الرئيس جورج بوش الابن مرورا بالرؤساء جونسون ونيكسون وفورد وكارتر وريغن وبوش الأب وبيل كلينتون، لم تغير الولاياتالمتحدة من فلسفة العداء ضد النظام الشيوعي الكوبي وعمل رؤساؤها على وضع الخطط للإطاحة به سواء بقتله أو تنظيم محاولات انقلابية ضد نظامه دون الحديث عن الحصار الاقتصادي والدبلوماسي الذي فرض على بلاده قصد تأليب الشعب الكوبي ضده. وشكلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي.أي.إي» أداة الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين منذ حادثة خليج الخنازير سنة 1961 من أجل قتل الزعيم الشيوعي الشاب من خلال وقوفها وراء أكثر من 600 محاولة اغتيال انتهت جميعها بفشل ذريع رغم أنها انتهجت فيها كل أساليب الخداع والمكر المخابراتية الممكنة لبلوغ ذلك الهدف ولكنها فشلت في تحقيقه. كان فيدال كاسترو، وقد بلغت الحرب الباردة ذروتها، يغامر بحياته وبنظامه الفتي عندما تحدى الجارة الشمالية وبتعمده تنصيب صواريخ سوفياتية على حدودها الجنوبية ولكنه لم يتوان لحظة في ركوب أكبر درجات التحدي أمام جون كيندي الرئيس الأمريكي الشاب الذي صدم في بدايات ممارسته بمأزق دولي حمل اسم أزمة خليج الخنازير التي كادت أن تشعل حربا نووية بين القوتين الأعظم في العالم. ورغم أن العلاقة بين واشنطنوموسكو بلغت الخط الأحمر بسببها إلا أن الرئيس الكوبي رفض التراجع وشجع الرئيس السوفياتي نيكيتا كروتشوف على نصب تلك الصواريخ الباليستية القادرة على ضرب العمق الأمريكي رغم سياسة الانفراج التي تبناها العملاقان من أجل تفادي المواجهة النووية والنتيجة الصفرية التي تترتب عنها بالنسبة للجانبين. وقد رسمت صحيفة «نيويورك تايمز» تلك الصورة بعنوان كبير «الزعيم الثوري الذي تحدى الولاياتالمتحدة» في إشارة إلى صموده ونقله الحرب الباردة إلى الجزء الغربي من الكرة الأرضية وحيّر 11 رئيسا أمريكيا ووضع العالم على حافة حرب نووية». والمفارقة أن الرئيس كاسترو حتى وهو يراقب بأم عينيه انهيار حلم انتشار النظرية الشيوعية في العالم بانهيار المعسكر الشيوعي بسقوط جدار برلين سنة 1989، إلا أنه بقي صامدا يدافع عن مبادئ اعتمدها في تحرير بلاده وكثير من دول قارة أمريكا اللاتينية وشكل ذلك شوكة في حلق الرؤساء الأمريكيين وخاصة الرئيسين بوش الأب والابن اللذان عملا بشتى السبل من أجل إخراج كوبا من دائرة النظرية الشيوعية في الحكم ولكنهما غادرا البيت الأبيض دون أن يحققا حلما راودهما. وتشاء الصدفة أن أب الثورة الكوبية لم يكتب له معايشة التقارب الحاصل بين بلاده والولاياتالمتحدة، وقد ابتعد عن الممارسة السياسية ولكنه كان حاضرا بمواقفه التي شكلت المحرك لشقيقه راؤول في الدفاع عن مصالح بلاده في وجه الامبريالية الأمريكية. والمؤكد أن الرئيس الكوبي الراحل، وهو في عقده التاسع كان يتلذذ وهو يرى الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما وهي تعود إلى رشدها بعد أن اقتنعت باستحالة إمكانية تغيير كوبا لمواقفها وتيقنت أن التقارب معها في ظل الانفراج الذي عرفته العلاقات الدولية في العقود الثلاثة الأخيرة يبقى أفضل الخيارات المطروحة ضمن مقاربة إنهاء علاقة التوتر التي طبعت العلاقات الأمريكية الكوبية. وحتى إن أعاد البلدان فتح سفارتيهما في هافانا وواشنطن ورفع جزئي للعقوبات وشطب اسم كوبا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، إلا أن ذلك كان نصف انتصار بالنسبة للزعيم الكوبي الراحل، وهو الذي كان يناضل من أجل أن ترفع الولاياتالمتحدة عقوباتها الجائرة ضد بلاده لتكتمل نشوة الانتصار لديه على قوة عظمى من طرف دولة لا يتجاوز تعداد سكانها 11 مليون نسمة وبإمكانيات اقتصادية محدودة ولكنها صمدت وخرجت منتصرة من أكبر قبضة حديدية ميزت العلاقات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي القناعة التي انتهى إليها الرئيس الأمريكي المغادر باراك أوباما عندما اعترف أن التاريخ سيحكم على الأثر الكبير الذي شكله أب الثورة الكوبية وقال إن إدارته عملت بقوة من أجل طي صفحة نصف قرن من الخلافات السياسية الحادة. وهي صفات لا نجدها إلا في زعيم بكاريزما عالية سيكتبها له التاريخ وستبقيه في صفحات تاريخ القرن العشرين كشخصية تركت بصماتها في عالم متقلب الأطوار. كرونولوجيا حياة آخر زعيم شيوعي في العالم هذه أهم مراحل حياة الزعيم الراحل فيدال كاسترو الذي توفي مساء الجمعة عن عمر يناهز 90 سنة، والذي يعد آخر زعيم شيوعي في العالم. ❊ 13 أوت 1926: مولد فيدال أليخاندرو كاسترو روز ببيران شرق كوبا. تابع دراسته في ثانوية يسوعية، وفي 1950 تحصل على دكتوراه في الحقوق ليبدأ مساره المهني كمحام ومعارض سياسي. ❊ 26 جويلية 1953: كاسترو يحاول الاستيلاء على ثكنة «مونكادا» بسانتياغو رفقة 100 من المتمردين لكن المحاولة باءت بالفشل. حكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة ليتم العفو عنه بعد سنتين، فيفضل المنفى مع أخيه راوول بالمكسيك، حيث يتعرف على الثائر أرنيستو تشي غيفارا. ❊ 2 ديسمبر 1956: فيدال كاسترو يعود إلى كوبا رفقة حوالي 80 عسكريا، وأن 15 فقط يبقون على قيد الحياة ويلجأون إلى أعالي سييرا مايسترا. وبعد ستة أشهر يزداد عددهم ويتمكنوا من كسب بعض المعارك. ❊ 8 جانفي 1959: كاسترو يحرز انتصارا باهرا ويدخل إلى العاصمة هافانا على رأس قواته، بعد 25 شهرا من حرب العصابات ضد نظام فولجنسيو باتيستا. ❊ جانفي 1961: الولاياتالمتحدةالأمريكية تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع كوبا. وفي أفريل فشل محاولة نزول معارضين لكاسترو مدعومين من أمريكا في خليج الخنازير. وبعدها يعلن كاسترو عن الطابع الاشتراكي للثورة. ❊ 13 فيفري 1962: الرئيس الأمريكي جون كنيدي يقرر فرض عقوبات ضد كوبا. وشهد شهر أكتوبر ما سمي بأزمة الصواريخ، بعد أن تم وضع منظومة صواريخ نووية سوفياتية بكوبا، وهو ما هدد العالم بحرب نووية حقيقية. فقررت واشنطن تطبيق حصار بحري على الجزيرة. وفي نفس السنة، تقرر موسكو سحب صواريخها مقابل وعد أمريكي بعدم غزو الجزيرة. ❊ 1965: كاسترو ينشئ الحزب الشيوعي الكوبي. ❊ 1975: إرسال وحدات قتال كوبية إلى أنغولا وإثيوبيا، حوالي 400 ألف جندي كوبي يحاربون في إفريقيا إلى غاية 1991. وإعدام الجنرال الأنغولي ارنالدو أوشوا في 13 جويلية 1989. ❊ 29 أوت 1990: كاسترو يعلن عن دخول البلاد في «مرحلة خاصة» بسبب الانهيار الاقتصادي للبلاد، الذي تزامن وانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991. ❊ 31 جويلية 2006: كاسترو يجري عملية جراحية خطيرة بعد إصابته بنزيف في الأمعاء، ويتنازل عن الحكم لصالح أخيه راوول، الذي شغل منصب وزير الدفاع منذ 1959. ❊ 24 فيفري 2008: فيدال كاسترو يتنازل عن منصب رئيس مجلس الدولة لأخيه راوول. ❊ 19 أفريل 2011: كاسترو يتنازل عن آخر منصب رسمي له في الدولة وهو أمانة الحزب الشيوعي الكوبي لأخيه راوول. ❊ 28 مارس 2016: بعد أسبوع من الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الجزيرة، فيدال كاسترو يسخر مما وصفه ب«الكلام الحلو» لأوباما، ويؤكد أن الجزيرة ليست بحاجة إلى «هدايا». ❊ 19 أفريل 2016: ظهور نادر لكاسترو أمام الرأي العام بهافانا، خلال اختتام جلسة الحزب الشيوعي الكوبي، حيث تحدث عن الزوال المتوقع للحزب وللشيوعية في كوبا.