توحي المعطيات والمستجدات التي ميّزت الساحة السياسية في الفترة الأخيرة، منذ إعلان حزبي النهضة والعدالة والتنمية الاندماج في انتظار ملتحقين جدد بهذا التحالف، وإعلان الأمين العام «للأفلان» عن تشكيل الجبهة الداخلية العتيدة بمشاركة 12 حزبا، بإعادة تشكل الخارطة السياسية في البلاد بعد التشريعيات القادمة، مع احتمال عودة الأقطاب الممثلة في ثالوث التيار الوطني والديمقراطي والإسلامي، خاصة وأن هذا المسعى شكل منذ نهاية التسعينيات أمل الكثير من الفعاليات في البلاد، وعلى الخصوص رئيس الجمهورية نفسه. كما يعمل قانون الانتخابات الجديد على تكريس هذا الواقع من خلال اشتراطه نسبة 4 بالمائة التي اعتبرها الكثير من السياسيين تكريسا لمبدأ «البقاء للأقوى». يتساءل الكثير من متتبعي تطورات المشهد السياسي في الفترة الأخيرة، حول علاقة ما استجد في هذا الساحة وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع بعد الانتخابات التشريعية القادمة، بالتصريحات التي كان قد أطلقها رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، عند اعتلائه سدة الحكم في الجزائر، بخصوص حاجة المشهد السياسي في الجزائر إلى إعادة تنظيم وهيكلة تفضي إلى تشكيل أقطاب سياسية قوية وفعّالة على شاكلة ما هو حاصل في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، حيث يقود حزبان أو ثلاثة أحزاب كبرى المشهد السياسي للبلاد، وتنتظم على أساس هذه الهيكلة الحياة السياسية وعمل الحكومات والمعارضة بشكل أكثر فاعلية، ومن ثمة التداول الديمقراطي والسلمي على السلطة والحكم في استقرار وهدوء. الرئيس بوتفليقة الذي رفض اعتبار وجود 60 حزبا ترجمة للمعنى الحقيقي للتعددية الحزبية، وعبّر عن الواقع الذي تشهده الساحة السياسية في البلاد بالإنماء الديمقراطي الذي من شأنه الإسهام في تقويم الممارسة الديمقراطية والسياسية في البلاد، لم يخف حينها أمله في أن يؤدي هذا الواقع الذي يشتت القدرات والإمكانيات السياسية الوطنية، إلى بناء أقطاب سياسية صلبة وقوية تتشكل من تيارين أو ثلاثة تيارات على أقصى تقدير تجتمع فيها الرؤى والتصورات، وتنبني على أساسها المواقف والمواقف المضادة التي تصب في خدمة الصالح العام للبلاد، وتساهم في ترسيخ الاستقرار عن طريق العمل السياسي. اليوم، وبعد أن جسد رئيس الجمهورية تطلعه ومسعاه في وضع دستور يواكب التطورات الحاصلة في البلاد وفي العالم، ويكرس كافة الحريات والحقوق السياسية والديمقراطية، بما فيها الحقوق التي تضمن دورا فعّالا للمعارضة السياسية، من السهل التسليم بأن مسعى إعادة تنظيم المشهد السياسي قابل للتحقق والتجسيد في المرحلة القادمة، لا سيما في ظل توفر كافة المعطيات وتهيئة الظروف لبناء واقع سياسي جديد، وفي مقدمة هذه المعطيات ما حمله قانون الانتخابات الجديد، من أحكام تتجه رغم اعتراض الكثير من الأحزاب السياسية إلى تهذيب العمل السياسي وتأطيره وفق منهج «تطهيري». هذا المعطى الجديد الذي سيترتب عنه حتما تصفية الساحة السياسية، وسيؤدي إلى اندثار الكثير من الأحزاب التي لن يكون بوسعها الحصول على النسبة الإقصائية للمشاركة في الانتخابات والمحددة ب4 بالمائة، يضع قادة هذه التشكيلات أمام خيار واحد يسمح لها بمواصلة العمل السياسي، وهو الاندماج والتحالف مع أحزاب أخرى أو بالأحرى مع الأقطاب التي تلتقي معها في نفس اللون والتوجه السياسي. ولعل فهم الأحزاب المنتمية للتيار الإسلامي لهذا المعطى، هو الذي حملها على إعادة إحياء مشروع الوحدة الذي بدأت معالمه تتضح، مع اندماج حزبي النهضة وجبهة العدالة والتنمية في تحالف استراتيجي أبقيت أبوابه مفتوحة لالتحاق أحزاب إسلامية أخرى، ثم إعلان حركة التغيير وحركة مجتمع السلم أمس، عن تحالفها الانتخابي وكل ذلك بمباركة من باقي التشكيلات على غرار حركتي البناء والاصلاح وأطراف فاعلة في حركة مجتمع السلم، منها الرئيس السابق للحركة أبوجرة سلطاني، الذي رافع من أجل اندماج القطب الإسلامي، واعتبر تقدمهم في المواعيد الانتخابية وهم موحدون «خيرا من دخولهم بقوائم متفرقة..»، طبعا هذا ما تقدمه القراءات السياسية والإعلامية، لكن التحالف الذي أعلن أمس، بين حركة التغيير التي يقودها عبد المجيد مناصرة من جهة، وحركة مجتمع «حمس» بقيادة عبد الرزاق مقري، تطرح أسئلة جدية عن خلفيات وأبعاد هذا المسعى. فهل تعذّر حتى لا نقول تعطل تقارب الإسلاميين في المهد. في سياق ذي صلة جاءت مبادرة الأمين العام الجديد لحزب جبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس، الذي تميز عن سابقه عمار سعداني، بخطابه الهادئ والمتفتح، بتشكيل مبادرة أطلق عليها إسم «الجبهة الداخلية العتيدة»، وبمشاركة 12 حزبا سياسيا كاستجابة مباشرة لدعوة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، الطبقة السياسية إلى التجند لتقوية الجبهة الداخلية وصد محاولات زعزعة استقرار البلاد، لكن المتتبع لخطاب الأمين العام للحزب العتيد الذي خالف خطاب سابقه في إثارة النعرات والمشاكل مع حلفاء الماضي، وتأكيده مرارا وتكرارا بأن «الأفلان» سيكون حليفا مع كل من يشاركه مسعى دعم الرئيس وبرنامج الرئيس، قد يفهم بأن ظروف تشكيل قطب سياسي يجمع كافة الوطنيين هو أمر غير مستعص، خاصة في ظل وجود عامل جامع لهذا التحالف متمثل في شخص الرئيس بوتفليقة. نفس المعطيات توحي إلى التكهن باندماج تيار الديمقراطيين مستقبلا، بالرغم مما تعيشه بعض التشكيلات المنتمية لهذا التيار من مراحل مضطربة على غرار جبهة القوى الاشتراكية التي كانت في وقت ما تمثل القوة السياسية الثالثة في البلاد، بينما تعيش في الفترة الأخيرة خلافات داخلية تعد من تبعات رحيل الزعيم التاريخي الجامع حسين أيت أحمد، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الذي عرف انشقاقات وتصدعات ترتب عنها استقالة العديد من إطاراته القيادية منها من اختارت تشكيل أحزابا جديدة بل حتى انسحاب زعيمه الدكتور سعيد سعدي. وإن كانت معالم تكتل القطب الديمقراطي لم ترتسم بعد، إلا أن المتتبعين للشأن السياسي يعتبرون الأحزاب الديمقراطية من أكثر التشكيلات قابلية للتكتل والتحالف السياسي. المؤكد أن النظام الانتخابي المنبثق عن الدستور الجديد الذي يعيد تنظيم الحياة السياسية والحياة العامة للجزائريين، سيعيد ترتيب العمل السياسي بشكل يعتمد على الفعالية والقدرة على الإقناع والتأثير في المشهد العام للبلاد، والمعروف أن قوانين الطبيعة تؤكد بأن في التحالف غلبة وفي الاتحاد قوة، وهو مبدأ لاشك في أن الممارسين الحقيقيين للسياسة في الجزائر يحفظونه عن ظهر قلب، وقد يشكل خلال المرحلة القادمة الملجأ الوحيد للكثير منهم من أجل ضمان البقاء ومواصلة النضال، في خضم مشهد سياسي جديد يرتقب أن تتضح معالمه مع ما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية القادمة.