تفتح نتائج الانتخابات الرئاسية الباب واسعا أمام العديد من الاستفسارات حول مستقبل الخارطة السياسية في البلاد، وعن أداء كل تيار في مشهد تتعقد شيئا فشيئا تركيبته لعدة عوامل مرتبطة بقوة كل حزب في تسويق خطابه وجلب مناصرين. وقد شاركت أهم الأحزاب السياسية في المعترك الرئاسي، باستثناء التجمع من اجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية وحركة النهضة، وتبيّن من خلال النتائج المعلن عنها وبخاصة النسبة التي تحصل عليها المترشح المستقل عبد العزيز بوتفليقة أن التحالف الرئاسي سيكون الحلقة الأقوى في الساحة بالنظر إلى أن رهانه على الرئيس بوتفليقة كان ناجحا مما يمهد له الطريق كي يبقى في واجهة المشهد السياسي، بل الرقم الأهم فيه ليس فقط لدوره في الحكومة أو المجالس المنتخبة ولكن في الحلبة أيضا كون أحزاب التحالف ستجد نفسها مرغمة على الحفاظ على نفس وتيرة النشاط حتى لا تصنف هي الأخرى ضمن ما يعرف ب"التشكيلات الموسمية"، وعليه سيكون زعماء تلك التشكيلات على موعد مع إدارة المشهد بالنظر الى موقعهم المتقدم في تسيير شؤون البلاد. ويؤكد فوز مرشحهم وبتلك النسبة المريحة أيضا أن موقعهم سيتقوى أكثر، مما يجعل قيادتها مطالبة بالمزيد من الأداء لتجنب اتهامات ستأتي لا محالة من المعارضة، تشكك في دورها الحقيقي. ومن جهة أخرى فإن نتائج الانتخابات بالنسبة لمرشحي التوجه الإسلامي تبرز التقهقر الكبير الذي يعاني منه هذا التيار منذ سنوات، فباستثناء حركة مجتمع السلم المنضوية تحت لواء التحالف فإن حركة الإصلاح الوطني يرشحها المتتبعون لأن تعيش فترات عصيبة ليس فقط بالنظر الى حجم وعائها الانتخابي، رغم إصرار أمينها العام السيد محمد جهيد يونسي على ضرورة عدم اعتماد النسبة المتحصل عليها وهي 1.37 بالمئة كمرجعية في تحليل الخارطة السياسية، من منطلق تشكيكه في تلك النتيجة، ولكن على خلفية التصدعات الحاصلة في صفوف الحزب والتي لا تعود الى سنوات خلت ولكن الى عشية الانتخابات حيث شهد استقالة قيادات في التشكيلة ومن بينها رئيس الحزب السيد محمد بولحية. وخلافا لهذا التصور فإن متتبعين يرون أن حركة الإصلاح "بحلتها الجديدة" استطاعت أن تطور خطابا سياسيا استقطب الكثير من المناصرين الجدد، وتمكن منشطو الحملة الانتخابية لمرشحها من تطوير خطاب اتسم بالوسطية والاعتدال يجمع بين التوجه الإسلامي والديمقراطي والوطني وهذا ربما ما قد يفسر كسب المترشح يونسي ل 60 ألف صوت إضافي مقارنة بالانتخابات التشريعية والمحلية الماضيتين. ومن جهة أخرى تنذر النتيجة المتحصل عليها من طرف المترشح الحر السيد محمد السعيد المحسوب على التيار الإسلامي بأن سعيه الى إنشاء حزب سياسي سيصطدم بواقع يتعين عليه إعادة النظر في حساباته وتوجهاته، كون التيار الذي يعول عليه، يفتقر الى قاعدة، غير أن أمورا كثيرة كانت إيجابية بالنسبة للمترشح حيث مهد له المعترك الرئاسي فرصة التخلص من "برنوس" وزير الخارجية الأسبق السيد احمد طالب الإبراهيمي حيث كان على مرحلتين مدير حملته الانتخابية، واستطاع ان يطور أفكارا قد تلقى إقبالا وهو ما قد يفسر النتيجة التي تحصل عليها وهي 0.92 بالمئة من الأصوات. وتتقاسم أحزاب الجبهة الوطنية الجزائرية والعمال وعهد 54 التحسن في النتائج، وفتحت لهم رئاسيات 2009 الباب أمام توسيع القاعدة الشعبية بل الأهم من ذلك إثبات وجودهم في الميدان وإزالة الكثير من اللبس الذي اكتنف مسيرتهم السياسية أو حتى توجهاتهم، وخياراتهم. قانون انتخابات جديد لرسم خارطة جديدة وبالموازاة مع كل ذلك فإن الأنظار ستتوجه لا محالة بعد فوز الرئيس بوتفليقة بالانتخابات الرئاسية بفارق كبير عن اقرب ملاحقيه الى ما سيتخذه من قرارات ليس فقط في الجانب الاجتماعي والاقتصادي ولكن في الجانب السياسي أيضا، فقد تمهد العهدة الثالثة لتجسيد أفكار وطروحات أثارها في أكثر من محفل وطني وبخاصة ما تعلق بإلحاحه على ضرورة بلوغ البلاد مرحلة متقدمة فيما يتعلق بتنظيم الحياة السياسية عبر اعتماد ضوابط ومعايير متعارف عليها في الدول المتقدمة، فقد أبدى في أكثر من موعد امتعاضه من تواجد أكثر من ستين حزبا سياسيا دون أن يكون لها دور فاعل في الساحة إلى درجة أن المواطن لا يجد لها أثرا إلا في المواعيد الانتخابية، ورافع من أجل أقطاب سياسية ذات توجهات مختلفة. وعلى ضوء ما صدر من الرئيس بوتفليقة من تصريحات بعد تعديل الدستور في نوفمبر الماضي وكذا توجه الحكومة نحو تقنين مشاركة المرأة في الحياة السياسية، فإنه لا يستبعد فتح ورشة جديدة لإعادة النظر في قانون الانتخابات الحالي على نحو يحدد معالم الخارطة السياسية، كما أن التوجه نحو تعديل شامل للدستور قد يتم تجسيده خلال هذه العهدة بما يسمح بإزالة الكثير من العقبات التي تقف في طريق توضيح طبيعة الحكم في البلاد. وعلى ضوء ذلك فإن الرئيس بوتفليقة سيسعى الى إعادة ترتيب أمور البيت الداخلي للمضي في طريق تعميق الممارسة الديمقراطية على اسس صحيحة تجعل الجميع يجد فضاء يعبر فيه عن أفكاره وبإمكانه أن تفتح له آفاق تجسيدها عبر بوابة الانتخابات.