كشفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن معطى جديد في الممارسة السياسية في الجزائر، وهو خسارة الحسابات المتعلقة بالإيديولوجيا نقاطا لصالح الواقعية السياسية. تطوّرٌ وإن لم يحقق نتائجه الفورية، إلا أنه أرسى تقليدا يمكن أن يؤسس لمستقبل مشرق، إذا استمر لعمر أطول. ويبدو أن التجارب المريرة التي عاشتها المعارضة على مدار ما يقارب ربع قرن من الزمن، مع الممارسات "اللاديمقراطية" للسلطة، قد أفادتها أخيرا في بلورة توجه جديد ينطلق من معطيات الواقع، قوامه التقاء الفرقاء السياسيين على حد أدنى من التوافق، وقد تجلّى هذا من خلال "التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي"، و"قطب التغيير". ف"التنسيقية" تضم تشكيلات سياسية كانت إلى وقت قريب، لا تتقاسم إطلاقا، القناعات والتوجّهات الإيديولوجية، ومع ذلك جلست أحزابها مثلا على طاولة واحدة، حركة مجتمع السلم وحركة النهضة وجبهة العدالة والتنمية، ذات الخلفية الإسلامية، مع التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، و"جيل جديد"، المعروفان بتوجهاتهما اللائكية، والتقوا جميعا مع شخصية مثل رئيس حكومة الإصلاحات، مولود حمروش وسيد احمد غزالي. ولا يختلف الأمر كثيرا مع "قطب قوى التغيير" الذي يضم أحزابا ذات توجهات إسلامية مثل حركة الإصلاح الوطني، وجبهة الجزائر الجديدة، ومع ذلك لم تجد حرجا في الجلوس إلى أحزاب أخرى ليست من ذات العائلة الإيديولوجية، مثل حزب الفجر الجديد واتحاد القوى الديمقراطية.. وقد اصطفوا جميعا خلف المرشح السابق للرئاسيات، علي بن فليس. ومعلوم أن من بين الأسباب التي ساقتها المعارضة بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، لتبرير تقهقرها، كثرة الأحزاب السياسية التي خاضت سباق الانتخابات، الأمر الذي ساهم، برأيها، في تشتيت أصوات الناخبين، وهو المعطى الذي صبّ في مصلحة حزبي السلطة، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، حسب قراءة المعارضة. وإن كان من السابق لأوانه الجزم بأن مثل هذه الاصطفافات، قد ارتقت بالعملية السياسية، من خلال ذوبان تلك الأحزاب في أقطاب أو جبهات سياسية، على غرار ما تعيشه بعض البلدان العريقة في الديمقراطية المعروفة بنمط القطبين، مثل بريطانيا (حزب العمال وحزب المحافظين) والولايات المتحدةالأمريكية، (الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري)، إلا أن تطورا من هذا القبيل، يعتبر إنجازا على الأقل بالنظر ل"الحروب السياسية" التي كانت مستعرة بين الأحزاب فيما بينها. ويبدو المشهد السياسي المعارض هذه الأيام وكأنه يتأرجح بين قطبين سياسيين متباينين، لكنهما يقفان على مسافة واحدة من قطب آخر موال للسلطة، هو المشكّل من حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، فهل سيستمر هذا الوضع، أم أن الأمر سيعود إلى سابق عهده بمجرد ابتعاد الاستحقاقات الانتخابية؟ وبينما يقرأ متابعون في تكتل بعض الأحزاب السياسية، محاولة هدفها إرساء تقليد يسبّق معطيات الواقع على الإيديولوجيا، يرى علي ربّيج، وهو الأستاذ بالمدرسة العليا للعلوم السياسية بجامعة الجزائر، أن بروز القطبين السياسيين السالف ذكرهما، هو مجرد ردة فعل أفرزتها الحسابات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. يقول علي ربّيج: "ظاهرة تقارب الأحزاب السياسية ليست وليدة اليوم، ولعل في التحالف الرئاسي الذي أنشأته السلطة في عام 2003، والمشكل من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم، لدعم برنامج الرئيس بوتفليقة، خير دليل". وقدّر الأستاذ بجامعة الجزائر بأن "التنسيقية من أجل الانتقال الديمقراطي" و"قطب قوى التغيير" ولّدهما تقاطع المصالح، وقال: "التقاء المصالح السياسية هو الذي بلور المشهد السياسي بالشكل الذي لمسناه بعد الرئاسيات وقبلها بقليل"، ورهن المتحدث استمرار التكتلين السابقين بمدى تمسّك الأحزاب المعنية بمشروعها. وعبّر علي ربّيج عن تشاؤمه من مستقبل "تنسيقية الانتقال الديمقراطي" و"قطب التغيير" قائلا: "لست متفائلا بشأن استمرار التكتلين السياسيين، لأنهما ينامان على الكثير من التناقضات التي تفرق أكثر مما تجمّع، وستجيبنا الأيام المقبلة عن مصيرهما".