استطاع رجالات الجزائر المخلصون التحكم في زمام الأمور، بعد خروج فرنسا من الجزائر ومحاولتها القضاء على كل ما يخدم العلم والنهضة، إذ أنشأت مراكز لأبناء الشهداء التي احتوتهم عبر ربوع الوطن، وأشرف على تسييرها مربون ومربيات استطاعوا أن يجعلوا من الصغار والمراهقين رجالا يعول عليهم لخدمة الوطن. «المساء» جمعت لكم شهادات مربين صنعوا تفاصيل تلك الأيام التي لم ينسوها، حسبما أشاروا إليه في حديثهم إلينا. قدموا الكثير في أحرج الأوقات وجنوا ثمار جهودهم حبا واحتراما كبيرين، إلى جانب تكوين إطارات تعول عليهم الدولة في مختلف المجالات. المجاهد والوزير الأسبق محمد كشود ل«المساء»: معارك "الجزائر" تواصلت بعد الاستقلال عاد بنا المجاهد والوزير الأسبق محمد كشود، على هامش اليوم الوطني للشهيد، الذي بادرت إلى تنظيمه جمعية "مشعل الشهيد" لتكريم مربين ومربيات أبناء وبنات الشهداء أثناء الثورة، وبعد الاستقلال، إلى حقبة مهمة من التاريخ وهي السنة الأولى الموالية للاستقلال، تلك المرحلة التي شهدت العديد من المشاكل التي خرج منها الشعب محطما سياسيا واقتصاديا وضعيف البنية التحتية، إلا أنه رغم ذلك كانت العزيمة والإرادة قوية لتحدي مختلف المشاكل والنهضة بالدولة، انطلاقا من تعليم أبنائها وإعادة إدماج مختلف شرائحها تدريجيا كانت الانطلاقة بتشييد مراكز لأبناء الشهداء. خلال اللقاء الذي جمعه بجريدة "المساء"، أبدى محمد كشود، الوزير الأسبق للمجاهدين وأول مشيد لمركز أبناء الشهداء محمد خميستي بولاية قسنطينة، مدى معاناة الدولة في تلك المرحلة، وبالتحديد في عام 1963، السنة التي واجهت فيها الجزائر العديد من التحديات لبناء دولة مستقلة من "اللاشيء"، أوضح المتحدث قائلا: "لقد واجهت الدولة تحديات عديدة أمام مليون طفل ينتظرون دخول الأقسام التعليمية في ظل غياب معلمين مؤطرين، وكذا غياب بنية تحتية من مدارس ومراكز تكوينية، وفي فترة أحصت الجزائر أكثر من مليوني فرد بدون شغل أو مأوى، فمختلف السكنات دمرها المستعمر، إلى جانب رجال ونساء عاطلين عن العمل بعدما تم غلق أبواب أكثر من 420 ألف مؤسسة وبقيت 30 ألف فقط مسيروها غادروا الوطن خلال الاستعمار، إلى جانب مشكل غياب الأطباء، فكان في تلك المرحلة لا يتعدى عددهم 200 طبيب لهم مهمة علاج 9 ملايين شخص، كلها مشاكل جعلت الجزائر تضع مخططات إستراتيجية تحاول من خلالها استرجاع ما دمره المستعمر، لإعادة بناء نفسها والقضاء على الجهل الذي خلفته فرنسا. وقد كان أو ما قامت به الدول، يشير المتحدث، إلى تشييد عدد من مراكز لإيواء وتعليم أبناء الشهداء، أولها مركز محمد خميستي بولاية قسنطينة، حيث قال: "لقد كنت أول فاتح لتلك المراكز، وذلك في 19 مارس 1962 استقبلت ما يعادل 700 بنت وابن شهيد، كانت تلك المراكز نقاط قوة تلك المرحلة، شيدت من أجل تعليم أبناء الشهداء وتدريسهم وتكوينهم، على غرار باقي المراكز التي افتتحت فيما بعد عبر العديد من ولايات الوطن، كانت لها تحديات رعاية 400 ألف بنت وابن شهيد، و200 ألف أرملة بحاجة لمأوى وشغل من أجل إعانة عائلتها، إلى جانب مهمة إعادة إدماج مجاهدين صرحوا من الجيش بعد الاستقلال، منهم المعطوبون، وآخرون معوقون، وعاطلون في حاجة لإعادة الإدماج، وتقديم منح وعلاج.. كل تلك المشاكل، يقول محمد كشود، تطلبت ميزانية كبيرة لمواجهتها، إلا أن الواقع آنذاك لم ينصف الدولة، فقد وجدت الجزائر نفسها محصورة بين تلك المشاكل وبين ميزانية جد محتشمة لم تتعد 180 فرنكا قديما، في حين كانت ميزانية الدولة خلال الاستعمار وبالتحديد سنة 1961 تقدر ب700 مليار فرنك قديم، إلا أنه ورغم تلك التحديات وضعت الدولة استراتيجيات محسوبة دقيقة، بادرت وزارة المجاهدين إلى المساهمة في تلك العمليات لسد بعض الثغرات بفتح وإدارة مراكز إيواء أبناء الشهداء وأراملهم، لتدريس الأطفال وتعليم النساء الخياطة والحياكة من أجل إعادة النهضة في الجزائر، رغم كل التحديات التي واجهتها، كل ذلك يجعل من الجزائر يضيف المتحدث- دولة عظيمة تمكنت من صنع المعجزات رغم كل العراقيل. المربي الحاج المانع جوامع ل«المساء»: كوّنا إطارات وأدمجنا آخرين في سوق الشغل تحدث المربي الحاج المانع جوامع ل«المساء"، بفخر واعتزاز كبيرين عن المرحلة التي أشرف فيها على تربية وتعليم أبناء الشهداء بالمراكز، واصفا حال الأب المربي الذي حمل على عاتقه المسؤولية بعد رحيل الأب الشهيد، حيث أشار إلى السعادة العارمة التي تعتريه كلما رأى إنجازات أحد أبنائه من المراكز على أرض الجزائر المستقلة. الحاج المانع وصف تجربته مع التربية والتعليم بالمميزة والرائعة والمثمرة، تحدث عنها وتعابير وجهه تحاكي حلاوة النجاح والانتصار. وعن الدور الذي لعبته هذه المراكز في احتضان هذه الشريحة خلال فترة جد عصيبة من تاريخ الوطن، يقول: "خلال سنة 1962، تم إنشاء 63 مركزا خاصا بأبناء الشهداء عبر التراب الوطني، منها مركز مادلين بحيدرة، مركز باتريس لوممبا بالأبيار، مركز البنات بدالي إبراهيم ومركز بولوغين، كان يسمى سانتوجان"، كل واحد منها كان يضم من 150 إلى 200 ابن شهيد تتكفل بهم الدولة من كل الجوانب، أي بإطعامهم، تدريسهم وكسوتهم. كما تكفلنا أيضا بكبار السن الذين لم يستطيعوا إكمال الدراسة، إذ تم توجيههم إلى مراكز التكوين المهني وإدماجهم في الشركات لنيل قوتهم". ويواصل المربي الحاج قائلا: "كان سني وقتذاك 25 سنة، كنت يومها أعمل كمرب ومعلم في نفس الوقت، كان لدي أبناء تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و25 سنة، علمتهم الرياضيات. حملنا على عاتقنا مسؤولية تربية وتثقيف أبناء الشهداء، وقد استطعنا تحقيق المطلوب وبلغ الكثير منهم مستويات علمية عالية، فمنهم إطارات، مهندسون، أساتذة ومسؤولون". أشار السيد المانع جوامع، إلى أنه خلال نهاية السبعينات، عمدت المراكز إلى تصنيف الأبناء حسب العمر، فالكبار كانوا يدرسون في مركزي بولوغين ودرارية، والصغار تربوا ودرسوا في كل من حيدرة والأبيار. كما تكفلت بهم الوصاية، وهي وزارة المجاهدين. وتطرق السيد المانع جوامع إلى الأفراح التي شهدتها المراكز، حيث تكفلت وزارة المجاهدين بقضايا زواج البنات، حيث كانت تتكفل بجهاز العروس، لتفكر بعدها في أبناء الشهداء الفقراء، وتقدم له عناية كبيرة رغم الصعوبات والمشاق والفقر والفاقة التي كانت تعانيها الجزائر آنذاك". المربي سي محمد ل«المساء»: خريجو المراكز قدموا خدمات للوطن يعتبر المربي سي محمد من أوائل الإطارات الذين أشرفوا على مراكز أبناء الشهداء، حيث سجل حضورا في كل من مركز شاطوناف، حجوط، باتنة، عنابة، قال في معرض حديثه ل«المساء"، بأن تجربته مع أبناء الشهداء في المراكز جد حسنة، إذ عمل كل ما في وسعه بمعية الزملاء لتعليم هؤلاء الأبناء وإيفاء حق آبائهم الذين ضحوا بالنفس والنفيس في سبيل الوطن، معتبرا الأبناء رمزا من رموز الثورة. وأضاف أن القسم الذي كان يشرف عليه كان يضم 30 تلميذا عندما عمل كمرب، وبلغ 150 تلميذا لما كان مشرفا على مركز باتنة سنة 1962، و180 تلميذا بمركز عنابة سنة 1972. مضيفا: "لقد كوّنا إطارات دولة من بينهم أطباء، مثل علي بيطام من باتنة، وخليفة الطاهر من الأبيار، والوالي فريك بشير، إلى جانب الفتيات اللواتي أصبحن ناجحات ممن تكوّن بمركز سيدي فرج". المربي محمد سي عمر: المركز خرج أبطالا في مختلف الرياضات أكد السيد محمد سي عمر، الذي كان مشرفا على تعليم الصغار والأواسط، التربية البدنية من سنة 1936 إلى غاية السبعينات، بمركز أولاد الشهداء في الأبيار، أن الكثير من الأبناء الذين تدربوا على يده أصبحوا أبطالا في مختلف الرياضات. يقول: "لقد كنت رفقة زملائي من المربين، نشرف على ثلاث فئات وهي الصغار، المراهقون والكبار. كانت لدينا أقسام الابتدائي والمتوسط والثانوي. علمنا الصغار التربية الفنية التي كان يشرف عليها مختص في الموسيقى. كما أسسنا فريقا رياضيا للصغار والكبار، وقد لعب فريق أبناء الشهداء للمتوسطين مع كل الثانويات، على غرار ثانوية المقراني بابن عكنون، ثانوية الأمير عبد القادر. ونضمنا مسابقات وشارك أبناؤنا في مختلف البطولات سواء في الرياضات الفردية أو الجماعية، وقد فزنا حينها. كما كونت فريقا رياضيا في كرة الطائرة، شارك في مسابقة "الالجيرياد"، وهو نوع من الأولمبياد الذي عمدنا من خلاله إلى إظهار مهارات أبناء الجزائر في الرياضة، وقد كوننا أبطالا منهم عتبي الشيخ والهاشمي". المجاهد والشيخ العلامة محمد الطاهر آيت علجت ... من النخبة البارزة ذات العطاء غير المحدود أثرى الشيخ العلامة محمد الطاهر آيت علجت، خلال مداخلته في اللقاء الذي نظم لإحياء اليوم الوطني للشهيد، بمناسبة اختتام الأسبوع التاريخي والثقافي السابع عشر، محاضرات المجاهدين، حيث أعطى نبذة عن أهم المحطات التاريخية التي شهدتها الجزائر مباشرة بعد الاستقلال، وبالتحديد خلال سنة 1963، مشيدا بالدور الكبير الذي لعبه المربون والمربيات في التكفل ورعاية أطفال ونساء وقع أباؤهم وأزواجهم شهداء على يد المستعمر الفرنسي. قال المجاهد آيت علجت الذي ساهم في تجنيد رجال الدين وطلاب الزوايا في صفوف الثورة المجيدة، بأن الجزائر دولة "مباركة" لأبنائها قوة وإرادة جعلتهم يعيدون بناء ما تم تحطيمه خلال الاستعمار الفرنسي، فكان لهؤلاء المربين داخل مراكز أبناء الشهداء دور كبير في تربية "الجيل الجديد"، جيل ما بعد الاستقلال لم يكن له راع لمرافقته وإرشاده وتعليمه وتثقيفه، قائلا: "لم تكن مهمة هؤلاء سهلة بل بالعكس لقد تحدوا كل الصعاب من أجل النهضة بالجزائر وإعادة بنائها وتمتين أعمدتها اقتصاديا، سياسيا وعلميا.. للإشارة، كان آيت علجت أستاذا لامعا في جامعة الزيتونة، وساهم في تكوين أجيال بأخلاقه وتواضعه، هو ما تؤكده شهادة جميع من عايشوا أو احتكوا أو حتى سمعوا عن الشيخ "الطاهر آيت علجت"، تخرج على يده عدد من الطلبة المتمكنين وما زال عطاؤه غير محدود.. شارك آيت علجت في الثورة الجزائرية، هو وسائر طلبة الزاوية الذين التحقوا كلهم بركب المجاهدين سنة 1956 م. سافر إلى تونس في أواخر سنة 1957م بإشارة من العقيد عميروش الذي كان الشيخ يتولى منصب القضاء في كتيبة جيشه. كما كان يتولى الفصل في الخصومات، ثم انتقل إلى طرابلس الغرب بليبيا، حيث عين عضوا في مكتب جبهة التحرير هناك، تخرج العديد في تونس وليبيا على يد الشيخ العلامة آيت علجت، درسهم أصول الفقه والنحو. بعد الاستقلال وفي سنة 1963، عاد الشيخ العلامة إلى الجزائر، وعيّن أستاذا بثانوية عقبة بن نافع في الجزائر العاصمة وثانوية عمارة رشيد بابن عكنون، إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1978، ثم عين سنة 2016 رئيسا لهيئة الإفتاء الوزارية.