اتّفق المحاضرون في ملتقى "العالم العربي والغرب: استراتيجيات هيمنة" المنظّم أوّل أمس، بفندق الهيلتون في إطار الصالون الدولي للكتاب، أنّ استمرار أزمة الشرق الأوسط يشكّل خطرا حقيقيا على مستقبل البحر المتوسط في بادئ الأمر ومن ثم على العالم بأسره، وأضافوا أنّ التعامل الأمريكي الخاطىء مع هذه المسألة الحسّاسة جدّا أدّى إلى تفاقمها وطالبوا العالمين العربي والأوروبي بالتحرّك بسرعة لإيجاد مخرج أكيد لما يحدث يوميا في فلسطين أمام الفشل الذريع للسياسة الخارجية الأمريكية في أكثر من نقطة. وشارك في الملتقى كلّ من باسكال بونيفاس وهو مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية بفرنسا، جورج قورم الوزير السابق للمالية في لبنان، ألان غراش مدير مساعد لجريدة "لوموند الدبلوماسي" ويوسف كورباج مدير المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية بفرنسا.
باسكال بونيفاس: الإعلام العربي عرى الحقائق قال بونيفاس أنّه رغم اشتعال نيران الحرب في العديد من الدول والمناطق إلاّ أنّ ما يحدث في الشرق الأوسط يدخل في خضم ما أطلق عليه "صدام الحضارات"، مضيفا أنّ طبيعة الصراعات اختلفت في هذا الزمن فلم تعد قضية الشرق ضد الغرب مثلما كان عليه الأمر في الحرب الباردة بل ما تنفك النيران تشتعل في الكثير من بقاع العالم. واعتبر بونيفاس أنّ أزمة الشرق الأوسط أزمة خطيرة وانعكست سلبا على مناطق أخرى من العالم فلا يمكن الآن التكلّم عن حرب العراق أوالتهديدات النازلة على إيران من دون التطرّق إلى ما يحدث بين فلسطين وإسرائيل، فهي عبارة عن وتر حساس انتقل تأثيره إلى دول أخرى، "لكن لماذا يأخذ الصراع في منطقة الشرق الأوسط كل هذه الأهمية؟" يتساءل المحاضر، ويجيب: "لأنّه لم يحدث في السابق أن اتّهم رؤساء الدول بانحيازهم لجهة أولأخرى في صراع ما، فأمريكا متّهمة في انحيازها لإسرائيل، وأوروبا متّهمة في سلبية موقفها أمام هذا الصراع الشديد، أبعد من ذلك فهي تتحدّث عن مبادئ لا تطبّقها فيما يخصّ هذه المنطقة وتتعامل مع الطرفين بفرق كبير، وتُدفع العرب ثمن خطئها اتجاه اليهود في الحرب العالمية الثانية". وأشار بونيفاس إلى دور الإعلام العربي في إظهار حقائق لم تكن ظاهرة للغرب فيما يخصّ الإهانات والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني بشكل يومي، وفي هذا السياق يؤكّد المتحدث أنّ الحل واضح ويتمثّل في إقامة دولتين: فلسطين وإسرائيل، مضيفا أنّ المشكل يتمثّل في إسرائيل التي قدّمت اعتذارات واهية حتى لا تتفاوض مع ياسر عرفات وبعدها مع محمود عباس الذي ظلّ عاما كاملا وحيدا في الحكم والآن مع حماس التي تعتبرها كلّ من الولاياتالمتحدة وأوروبا جماعة لا يمكن التفاوض معها. واعتبر بونيفاس أنّ موضوع الشرق الأوسط له الكثير من الخصوصية فإذا انتقدت سياسة أمريكا اتجاه إسرائيل يقال أنّ هناك من هو ضدّ أمريكا ولكن لا يكون هذا الأمر واردا إذا تمّ انتقاد روسيا مثلا، مؤكّدا في السياق نفسه أنّ أمريكا فشلت في سياستها الخارجية التي بنتها على الظلم والنفاق والتي جاءت في الكثير من بنودها مساعدات قيّمة لإسرائيل سواء كان من الناحية المالية وأيضا في الإطار القانوني مثل استعمالها لحق الفيتو حتى لا تدان إسرائيل في ممارساتها اتجاه الفلسطينيين. وطالب مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتجية بفرنسا العرب والغرب بالتحرّك لحلّ أزمة الشرق الأوسط من دون انتظار الولاياتالمتحدةالأمريكية مستأنفا قوله أنّ الحوار والتواصل ضعيف جدا بين هاتين الفئتين اللتان عليهما أن تأخذا مصيرهما في أيديهما وتعتمدا على أنفسهما، مضيفا أنّ الضغط على إسرائيل ممكن جدّا قبل أن تكون نتاج هذه الأزمة الخطيرة وخيمة على العالم بأسره. بالمقابل، صرّح صاحب كتاب "هل يسمح بانتقاد إسرائيل؟" أنّه من السهل في فرنسا أن يكون هناك خطاب ضد المسلمين بيد أنّه من غير الممكن أن يمسّ اليهود بأيّ خطاب ضدهم، واستطرد في قوله "لقد تعرّضت للكثير من الانتقاد بعد تأليفي لكتاب يتساءل عن إمكانية انتقاد إسرائيل وهو راجع في اعتقادي إلى سوء نية وإحساس بالذنب والجبن وأتذكّر حينما قال لي صحفي عقب نشري للكتاب،"أنت على حق ولكنّني لا أستطيع أبدا أن أنشر عملا تنتقد فيها إسرائيل". أمّا كيفية تعامل الرئيس الجديد لأمريكا مع القضية الفلسطينية، فقال المحاضر أنّه يتمنى أن يهتمّ الرئيس الجديد بهذه القضية في عهدته الأولى وأن لا ينتظر العهدة الثانية لذلك، مشيرا إلى أنّ الرئيس الأمريكي سواء كان أوباما أوماكين ستكون مهمته الأولى جعل بلده القوّة الكبرى.
جورج قورم: علينا أن نشفى من داء فقدان الذاكرة كطبيب يدرك موقع الأمراض، جسّ الوزير السابق للمالية في لبنان جورج قورم نبض العالم الإسلامي والعربي فتكلّم عن مسألة الهويّة وقال أنّ لدينا هويات معذّبة ونعاني من كلّ الأمراض المتعلّقة بالهوية، وانتقل إلى موضوع شائك أيضا يتمثّل في النفط الذي أصبح عبئا بدل أن يكون خيرا على الأمة جمعاء من حيث توزيعه غير العادل الذي سبّب أزمات كبيرة جدّا بينما هناك من الدول في العالم من لا تملك هذه الثروة وهي الآن في طليعة الدول لأنها اعتمدت على الساعد في قضية حياة أوموت. واعتبر صاحب كتاب "تاريخ الشرق الأوسط، من التاريخ العتيق إلى العصر الحالي" أنّ العالم العربي لم يحسن التعامل مع التنوّع الثقافي والديني الذي يشهده فلم يستغل عصر النهضة الذي عرف في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهور علماء دين إصلاحيين مضيفا أنّ العرب يعانون من فقدان الذاكرة في أكثر من مجال، فقد تناسوا أنّهم أصحاب فلسفة وعلوم قدّموها إلى الغرب الذي تطوّر بفعلها بينما لم يستغلوها هم وتراجعوا إلى مرتبة لا تليق بهم. وطالب قورم بضرورة توفّر ثلاثية لا غني عنها إذا ما أراد العالم الإسلامي والعربي التقدّم وهي الحرية، العدالة والكرامة، مضيفا أنّ حرية الاجتهاد في الدين مطلوبة أيضا، واستأنف بقوله أنّه لدينا كفاءات مميّزة، يجب علينا فقط أن نهتم بها وأن نتوقّف عن الانبهار بالعالم الغربي ونسيان ما يوجد عندنا، وتوقف المحاضر عند مبادئ الإسلام القيّمة فذكر مبدأ كان يتعامل به الرسول الكريم والمتمثّل في التقسيم العادل للخيرات وطالب بضرورة أن يطبق هذا المبدأ في الدول العربية المنتجة للبترول وهذا في نظام أصبح فيه العالم العربي خارج العالم المنتج. وتحدّث الوزير السابق عن مواضيع أخرى فقال أنّ خطط السلام التي ترمي إلى إطفاء النيران التي تندلع في فلسطين، تهدف فقط إلى خدمة إسرائيل لا غير، وتناول قضية مهمة تتمثّل في ضرورة أن يكون لجامعة الدول العربية دور فعال في زمن عادت فيه هيمنة الدول بفعل الأزمة المالية العالمية، كما أشار إلى ميلاد الأصولية الإسلامية إثر الفراغ الذي وجدته بسقوط القومية العربية ومع هذا تبقى الثقافة العربية خاصتنا وبمميزات لا نجدها في ثقافة أخرى.
ألان غراش: لا مستقبل للعالم من دون الشرق الأوسط أكّد المدير المساعد لجريدة "لوموند الدبلوماسي" أنه منذ سنة 1918 لم يشهد العالم حروبا وهزات سياسية مثلما يحدث هذه الأيام فالحرب قائمة في الكونغو الديمقراطية، في الشيشان، السيراليون، الشرق الأوسط وغيرها، مضيفا أنّه لا مستقبل لضفتيّ البحر المتوسط من دون حلّ لأزمة الشرق الأوسط. واعتبر غراش أنّ طبيعة الحروب ووسائلها تغيّرت تماما مع مرور الزمن فأصبحت أمريكا تستعمل العامل العرقي والديني للفصل بين فئات مجتمعات الدول التي تعيش حروبا مثلما يحدث في العراق علاوة على مساعدتها للأقليات في بعض الدول، إذ كشف تقرير سري اعتماد أمريكا على تشجيع الأقليات في إيران، مضيفا أنّنا في عصر يعترف فيه بالأقليات، في حين أصبحت ظاهرة العمليات الانتحارية وسيلة جديدة تستعمل في الحروب والاعتداءات. بالمقابل، اعتبر صاحب كتاب "1905 - 2005: رهانات اللائكية" أنّ ما يسمى "الصراع بين الحضارات" ليس بحاجة إلى دافع متمثل في فتوى أوإلى بن لادن، بل ما يحدث في فلسطين هو الذي يحدّد التوجّهات التي ستأخذها المنطقة في المستقبل، وسخر المتحدث من قول بوش حينما أكّد أنّ الأصوليين لا يكرهون ما يفعله الديمقراطيون بل يمقتونهم في حدّ ذاتهم، معلّقا على هذا القول أنه لو أراد حقا الأصوليون الهجوم على دولة ديمقراطية لهاجموا السويد بدلا من الولاياتالمتحدة. ونوّه غراش بمساعي بعض الأحزاب وأطراف المجتمع المدني في تحريك المياه الراكدة وأعطى مثلا عن ذلك ب "حزب الله" الذي واجه القوات الإسرائيلية ودفعها إلى المفاوضات، مشيرا إلى ضرورة أن تكافح الشعوب العربية من أجل تطوّرها. وعن ظهور قوى جديدة في العالم، قال المحاضر أنّ بزوغ الصين والهند والبرازيل كقوى جديدة يشكّل عاملا مهما في التنوّع الثقافي والاقتصادي والسياسي والهيمنة المشتركة وهذا أمام دولة تسمى الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تعد القوى الوحيدة في العالم واتّخذت في عهد بوش القوة العسكرية لبسط قوتها ونفوذها وكان اختيارا غير سليم من خلال محدوديته وإنتاجه لمشاكل لا حصر لها.
يوسف كورباج: الديموغرافية لها أكثر من رداء من جانبه، فنّد مدير المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية بفرنسا الباحث يوسف كورباج الاعتقاد السائد الذي يقول أنّ تعداد سكان العالم الإسلامي في تزايد رهيب ويشكّل عاملا خطيرا في الصراع بين الحضارات حسب أطروحة صامويل هاتنتغتون، حيث أكّد أنّ عامل التدريس والتساوي بين المرأة والرجل في عدة ميادين والتغيّر الحاصل في الذهنيات أدّى إلى تراجع كبير للديموغرافية في العالم الإسلامي وأصبح موازيا وفي بعض البلدان العربية أقلّ من نسبة النمو الديموغرافي في أوروبا وهذا في حقبة زمنية قصيرة جدا لا تتعدى عقدين أو ثلاثة من الزمن، في حين تطلب من أوروبا قرنين من الزمن حتى يتراجع معدلها في الخصوبة. واعتبر المحاضر أنّ الديموغرافية علم في حد ذاته وله من الأهمية الكثير فهو معيار يحكم من خلاله العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما له اتّصال بالعديد من مجالات الحياة الأخرى كالمجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي وغيره. وفي هذا السياق، أشار كورباج إلى خطورة العامل الديموغرافي فيما يحدث في فلسطين حيث يتضاعف عدد سكان المستوطنات اليهودية بنسبة كبيرة جدّا مما سيشكّل أزمات أكبر في المستقبل القريب من خلال رغبة الأبناء وفيما بعدهم الأحفاد في الاستقرار بالمنطقة بحكم أنّهم ولدوا فيها.