يقول صاحب الكتاب في مقدمته إنه منذ التسعينات من القرن العشرين والعالم بأسره يعيش تحولات جذرية في العلاقات الدولية، وأن خارطة الطريق التي طبختها المطابخ الأمريكية حسب ما يتجلى في الواقع العملي، لم تكن مختصرة ومحددة للمشكل والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما العالم بأسره تعاد صياغته صياغةً قد ظهرت بوادرها في العراق، إلا أنها زماناً قد أُعد لها منذ ربع قرن ومكاناً تشمل مساحة العالم بأسره، ابتداءً من العراق والمنطقة العربية والإسلامية وتلقي بظلالها هذه التحولات على أوربا والتوازنات الدولية كلّها، كما أن هذا النظام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، وأنهى العصر الأوروبي للسيطرة، وأتسم بتقسيم النفوذ وتقاسم التركات والمناطق في مؤتمر مالطا (فبراير 1945م) على غرار طريقة البابا الاسكندر السادس الذي أصدر في عام (1493) قراراً قسم بموجبه القارة الأمريكية المكتشفة بين إسبانيا والبرتغال. الشرق الأوسط الكبير يواصل صاحب الكتاب في هذا الجزء الثالث طرح وجهة نظره، حيث يرى أنه في عالم السياسة الدولية اليوم يعتبر مفهوم الشرق الأوسط أكثر المفاهيم دلالات وأبعاداً ومخاطر معينة، وتزايد الحديث عن هذا المفهوم في ضوء المستجدات الدولية الجديدة سواء التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز نظام دولي جديد أو بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو بعد احتلال العراق، وكأنها حلقات مترابطة ومتلاصقة، كل واحدة تؤدي إلى الأخرى وهي التي انعكست على الترتيبات الأخيرة ابتداءً من أزمة الخليج الثانية، وما أعقبها من بدء المفاوضات العربية الإسرائيلية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وأن مفهوم الشرق الأوسط كان قديما طرح من قبل المؤسسة الإستراتيجية البريطانية أواخر النصف الأول من القرن العشرين، ولكن حينما انتقلت زعامة المعسكر الغربي إلى الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، اعتمدت هذا المصطلح لتشير به جغرافياً إلى مسائل منها: علاقتها بإسرائيل ومنها ارتباط الولاياتالأمريكية بالمصالح النفطية في المنطقة وقد حاولت الولايات جاهدةً لإقامة نظام شرق أوسطي عبر تحالفات ومسميات متعددة، إلا أنها باءت بالفشل؛ لتنامي سياسة عدم الانحياز وتنامي المد القومي والوطني والإسلامي، بيد أن عام 1978 أعطى شيئاً من الأمل للمخطط الاستراتيجي لتنفيذ ونجاح هذا المشروع خاصة، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، ويمكن القول، إنه منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات توافرت بيئة وظروف أسهمت في انتشار هذا المفهوم على مدى أوسع، خاصة بعد حرب الخليج الثانية التي شكلت قوة دفع هائلة لطرح هذا المشروع في ظل النظام الدولي الجديد. وقد أصدرت وكالة التنمية الأمريكية في الثمانينات دراسة بعنوان (التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط)، شارك في إعدادها (ثماني وزارات وعشرة مراكز بحوث) هذه الدراسة أكدت على بعدين: 1 البعد الجغرافي: وهو الاعتراف بإسرائيل من قبل الدول العربية والإسلامية وتهيئة المناخ الملائم ليتم دمج إسرائيل في نظام إقليمي جديد، وبذلك يتم قيام بنية إقليمية تضم دول المشرق العربي إلى جانب إسرائيل وتركيا وإيران (في حال تغير نظام الحكم الإسلامي فيها). 2 - البعد الاقتصادي، ويمكن تحقيقه من خلال تعاون اقتصادي إقليمي عبر ثلاث مراحل وهي: أولاً: تنمية التعاون في مجالات علمية وتكنولوجية مع شق الطرق الإقليمية، وإقامة محطات للاتصال وبحث بدائل للطاقة إلى جانب السياحة والطب، وهذا هو المدى القصير. ثانياً: البعد المتوسط أو المدى المتوسط. تطوير مصادر المياه بصفة أساسية من خلال مشروعات مختلفة، مثل البحر الميت وخليج العقبة، ونهر الأردن، والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وشبه جزيرة سيناء. ثالثاً: المرحلة طويلة الأجل. وهي مرحلة تجاوز الأبنية السياسية المتعارضة والمشكلات التي تعيق العلاقات كالصراع العربي الإسرائيلي، والملاحظ أنه في غمرة أحداث حرب الخليج الثانية نجد أن هنري كيسنجر يرى ويحدد دور الولاياتالمتحدة في تفعيل مشروع الشرق الأوسط الجديد بما يلي: الحد من التسلح وحصر التطور التسليحي بإسرائيل فقط؛ لإبقاء ميزان القوى الإقليمي فاعلاً بيد إسرائيل. وعليه يرى الكاتب أن التصورات الأمريكية والإسرائيلية لا تعترف بحدود للدول العربية والدول الإسلامية، بل تريد التركيز على مفهوم غربي إسرائيلي يكرس الاعتبارات الإستراتيجية وكل هذه الترتيبات تأتي في نطاق سعي الولاياتالمتحدة لإرساء نظام إقليمي جديد للمنطقة يحقق لإسرائيل الأمن والاستقرار بعدما كانت دولة مرفوضة غاصبة، لتكون دولة شرعية معترفاً بها، كل ذلك في ظل التغيرات في النظام الدولي الجديد، الأمر الذي يقتضي من المنظور الاستراتيجي الأمريكي، إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية من خلال السيطرة على تطورات وتفاعلات وموارد المنطقة. لذا يرى بعض المفكرين: أن التجسيد العملي الراهن للسياسة الأمريكية الإسرائيلية على المستوى الاستراتيجي يتمثل في الخطوات العملية التي اتخذتها واشنطن لإخراج فكرة النظام الشرق أوسطي إلى الوجود، بعدما ظلت تطرح هذه الفكرة ويتم الإعداد لها نظرياً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعدما ظلت هذه المشاريع في حيز النظرية تعاني من عقبات إسلامية وعربية و ليس بعد احتلال العراق وتكريس الوجود الأمريكي المسلح من ظرف يعدّ أشد ملائمة منه. وكأنّ الأساطيل الأمريكية والسلاح المتطور وتكريس الوجود الأمريكي في العراق والوطن العربي، هو الإعلان الحقيقي لإنجاز مشروع الشرق الأوسط الكبير (إسرائيل الكبرى) الذي تودّع فيه إسرائيل مرحلة العقبات لوجودها غير المستقر، وتبدأ مرحلة جديدة من الاستقرار وفرض التسوية النهائية، وهنا يضيف صاحب الكتاب أنه لو تأملنا خطوات أمريكا مع ليبيا ومع إيران وسورية والفصائل والحركات الفلسطينية والدول العربية، لوجدناها قد درست مسبقاً وحان الوقت للبدء بتنفيذها، وهي أهداف تقع في طريق المشروع الأمريكي الذي كان من أجله الاحتلال، مستفيدة من المتغيرات الدولية. وهذا هو جوهر التصور الإسرائيلي لمشروع الشرق الأوسط، الذي يعتبر بيريز رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق من أبرز منظري هذا المشروع، وقد عبر عن خلاصة تصوراته بصراحة في كلمته أمام البرلمان الأوربي في ستراسبورغ في 9/ 3/ ,1993 بقوله ''...إن على العرب أن يفاضلوا بين كابوسين: الأول هو بقاء الوضع كما هو المقصود الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية والكابوس الثاني هو السلام بما يتضمنه من تنازلات وحلول وسط تشبه عملية بتر جراحية...''. وأيضا يشير الدكتور إلى ما ذكره بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) ''.....ضرورة تجاوز الاعتبارات القومية، فالاعتداد بالانتماء العربي والإسلامي هو ضربٌ من الجهل والتخلف...'' ويرى أيضاً ''... ضرورة الإبقاء على التفوق التكنولوجي واحتكار الردع الفوري، وهي أمور لازمة وضرورية لأمن واستقرار المنطقة ومن ثم فهي غير قابلة للنقاش أو التفاوض''. والمؤسف أنه بعد أن زار البرادعي إسرائيل وهو مسؤول الوكالة الدولية للطاقة الذرية كي يتباحث حول مفاعلات ديمونة، لم يستطع حتى زيارة هذه المفاعلات، بل شاهدها من السماء بواسطة طائرة، وصرح بأنه يتفهم تمسك إسرائيل بسلاحها النووي، ما لم تكن في الشرق الأوسط تسوية شاملة، في الوقت الذي يشدد فيه هذا الرجل الخناق بوكالته على الدول العربية والإسلامية لنزع السلاح النووي أو أي تطور يقع في طريق التنمية، وإِن كان سلميّاً، سيما وهو رائد المفاوضات مع العراق وإيران لإجبارها على توقيع البروتوكول الإضافي. أن مشروع الشرق الأوسط عانى العديد من العقبات التي حالت دون نجاحه وتحقيق الهدف الأساس لدمج إسرائيل في الجسم الإسلامي العربي، إلا أن الاحتلال الأمريكي للعراق، بل ومنذ مطلع الحرب الخليجية الثانية، كانت الظروف أكثر ملائمة لتحقيق هذا المشروع، وترسيخ جذوره وتعميق القناعة به. كانت هناك محاولات اقتصادية لتنفيذه بدأت منذ تأسيس نادي دافوس الذي أراد أن يفعّل مشروع الشرق الأوسط من خلال المشاريع السياسية والاقتصادية، وعليه يمكن القول: إِن مشروع الشرق الأوسط مرّ بمرحلتين، الأولى: كانت اقتصادية، والأخرى: عسكرية سياسية، وهي بعد احتلال العراق. وقد عقدت مؤتمرات اقتصادية كآلية لتحقيق الشرق أوسطية، وهي آلية جديدة تدار عبر المنتدى الاقتصادي العالمي في (دافوس) بسويسرا ولجنة العلاقات الخارجية في الكونكرس الأمريكي، وبالفعل عقدت عدة مؤتمرات شكلت بانعقادها مؤشراً على سقوط الجدار الأساسي في المقاطعة العربية لإسرائيل ومن هذه المؤتمرات: 1 1994 مؤتمر الدارالبيضاء. 2 1996 مؤتمر القاهرة. 3 1995 مؤتمر عمان. وأهم المشاريع التي أنجزت في هذه المؤتمرات: تنفيذ برنامج وادي الأردن ويضم إسرائيل والأردن، بدعم من البنك الدولي والولاياتالمتحدة وإيطاليا، ومحور المشروع هي المياه. البدء بتنفيذ برنامج طابا العقبة أيلات، الذي تشترك فيه مصر والأردن وإسرائيل، ويتضمن العديد من المشروعات الاقتصادية. 1 تم الاتفاق بين مصر وإسرائيل على إنشاء أكبر وأحدث معمل لتكرير النفط في الشرق الأوسط، في مشروع (ميدور) ورأسمال المشروع يبلغ (1.2) مليار دولار، وهو مشروع تشترك فيه مرحاف الإسرائيلية بنسبة 20٪ ورجل أعمال مصري بنسبة 20٪ والهيئة العامة المصرية للبترول بنسبة 60٪ والطاقة الإنتاجية للمشروع (5) ملايين طن بنزين خال من الرصاص، يوزع بنسبة (50٪60٪) لمصر (20٪) لإسرائيل، ويتم بيع الباقي في الأسواق المجاورة.. وهنا يخلص الكاتب إلى أن مؤتمر الدارالبيضاء وضع الأسس والأطر العامة للعلاقات الاقتصادية العربية الإسرائيلية، وهي أنهت المقاطعة الفعلية العربية لإسرائيل، أما في مؤتمر عمان، فقد تحولت هذه المرحلة إلى مرحلة إعلان واضح ومحدد عن المؤسسات الإقليمية، وفي مؤتمر القاهرة عمقت العلاقات مع إسرائيل بمشاريع محددة، وتمت رعاية دولية سياسية واقتصادية ومؤسسات ذات أهمية دولية لإعطاء زخم لهذه العملية. ومن خلال هذه الخطوات ذات الشدّ الاقتصادي، سعت الولاياتالمتحدة وإسرائيل لرسم خارطة للعالم الشرق الأوسطي سياسياً واقتصادياً، ووضع أحزمة أمنية جديدة في المنطقة، بما يسهل ويمكن إسرائيل من فرض وجودها كدولة معترف بها، لا غدّة سرطانية زائدة في الجسم العربي والإسلامي، زرعت بالقوة لتحقيق أهداف استعمارية، وإنما هي جزء عضوي منه. ومن ثم استبدال علاقات الصراع بعلاقات الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وكل هذه الخطوات في المشروع كانت تضع اللبنات الأولى وتهيأ العملية العسكرية لاحتلال العراق والدخول داخل العمق العربي عسكرياً، بفعل السياسية التي مارسها النظام الدكتاتوري العميل الذي وفّر لإسرائيل وأمريكا المبررات للدخول وتوزيع قوتها العسكرية في المنطقة ضمن مخطط مدروس. ...يتبع تأليف: محمد صادق الهاشمي مركز العراق للدراسات : 2005