تغوص الكاتبة الأكاديمية فيروز رشام في أوّل أعمالها الروائية «تشرفت برحيلك» في أعماق مأساة المجتمع الجزائري مع الإرهاب في التسعينيات، عبر قصة بطلتها فاطمة الزهراء التي لخصت معاناتها ومصيرها أوجاع كل المجتمع، في لحظة تحوّل مريب انقلبت فيه كل المعايير والقيم، وتعيد أحداث الرواية التي تنطلق كرونولوجيا مع بداية التسعينات مع ما يرمز له هذا التاريخ في صيرورة مسار المجتمع الجزائري، تشكيل بداية المأساة التي مست كل شرائح المجتمع. تتقصى الكاتبة في هذا العمل السردي الإرهاصات الأولى لهذه المرحلة الدموية، التي هزّت كيان المجتمع على لسان بطلتها فاطمة الزهراء، التلميذة التي تحضر بجدّ لشهادة الباكالوريا على وقع حلم الالتحاق بالجامعة والانطلاق إلى آفاق واعدة. وسط الفرحة والبراءة تلوح بوادر تغييرات غريبة عن المجتمع، تتجلى في أبسط أمور الحياة اليومية من ملبس وطريقة التعامل إلى تغيّر مفاهيم ومنطق الأشياء، ومن منزل بطلة الرواية الذي يرمز للعائلة الجزائرية البسيطة والمكتفية ذاتيا والمستقرة التي تشبه الكثير من الأسر، يبدأ التحوّل الذي يظهر أيضا في شوارع وأماكن العبادة والمدارس في تلك المدينة الصغيرة. تصف الكاتبة ذلك التحول بقولها «في الأسابيع الموالية، بدأ أخي فؤاد يتغيّر (24 سنة)، ترك الدراسة بمحض إرادته قبل أن يكمل تعليمه الأساسي ولا شغل له سوى مراقبتي أنا وأختي جميلة، وإصدار الأوامر لنا وترصّد حركاتنا»، لكن وتيرة الأحداث تتفاقم بسرعة وتنتقل الأهوال من الشائعات إلى الواقع اليومي الذي يصبح ويمسي على وقع أخبار الاغتيالات وأبشع الجرائم في ديكور سريالي، فاقت بشاعته أفلام الرعب. تواصل الروائية إعادة تلك الذكريات القاسية إلى أذهان من عايشوا الفترة من خلال سيرة لفاطمة الزهراء الحزينة، التي تأخذ طول صفحات الرواية (244) أبعادا تراجيدية بعد أن تتبخر كل أحلامها في اللحاق بالجامعة أمام معارضة أخيها فؤاد الذي التحق بالجماعات المسلحة وأصبح يفرض أهواءه على كل من في البيت. وبدأ مصير فاطمة الزهراء ينحرف عن هدفها ويتلاعب به جبروت أخويها، حيث التحق رشيد أيضا بركب أخيه ولم يعد بقدرة والدها الذي دفع دوما عن بناته عمل أيّ شيء. وتستمر الكاتبة في تشريح التقلّبات التي عرفها المجتمع خلال تلك الأحداث الدامية، عبر التطوّرات المأسوية التي طرأت على حياة بطلتها التي تتضاعف أشجانها ومعاناتها بعد تزويجها من غريب أقرب إلى الوحش الآدمي، استغل شبابها وصحتها ومالها، فكان يأخذ كل راتبها من وظيفتها في التعليم ويتركها تعيش كمتشردة، ولما تصاب بمرض خبيث يرمي بها للشارع ويأتي بزوجة أخرى. ونقرأ في الرواية «.. انتظرت أن يعيد لي دفتر الشيكات والمال، لكنه لم يفعل وحسبته مجرد نسيان بعد يومين ذكرته بالأمر، فانفجر في وجهي؛ وماذا ستفعلين بالمال ستجوبين الشوارع كمن لا تملك من يتحكّم فيها هذا ثمن أكلك وشربك أم انك تعيشين مجانا»؟. «تشرّفت برحيلك» مرافعة عن حقوق المرأة وتكريم لتضحياتها وصمودها في وسط مجتمعي ذكوري وقمعي، استغله بعض أفراده وعاء لتفريغ عقدهم، كما ترصد كل التغيرات الاجتماعية والسلوكية والنفسية التي حدثت في المجتمع الجزائري خلال العشرية السوداء، مخلفة أثارا عميقة في نفوس الضحايا. ومع ذلك، فإنّ شخصية فاطمة الزهراء التي تربت وسط عائلة محافظة تقدس الروابط الأسرية وتحترم التقاليد والأعراف، لم ترضخ للظروف ولم تكن ضعيفة ومستسلمة، بل كانت مقاومة على طريقتها، فاحترامها وحبها لوالدها جعلها تتقبل الوضع بدليل رفضها الهروب مع الرجل الذي أحبته، ومع أنّ في ذلك خلاصها، ولم تخل الرواية من نماذج نساء قويات فرضن أنفسهن، رغم الصعاب، على غرار صديقة البطلة سعاد. وقد لقيت رواية «تشرفت برحيلك» الصادرة عن دار فضاءات الأردنية صدى طيبا في الأوساط النقدية، وكانت الرواية جريئة ومفعمة بالمواقف والعواطف الإنسانية في نقلها لمعاناة المرأة في فترة عصيبة استفحل فيها التطرّف الديني، وعلى غير المسار الرمادي للنص، تنهي الكاتبة أحداث الرواية بجعل بطلتها تلتقي في الأخير بحبيبها طارق في «لحظة» يصعب تفكيك رموزها، ليبقى السؤال عالقا «هل اللقاء حدث فعلا أم هو حلم طالما راود البطلة». للإشارة، فيروز رشام أستاذة محاضرة في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة البويرة، لها مشاركات بحثية ونقدية وصدر لها كتاب نقدي بعنوان «شعرية الأجناس الأدبية في الأدب العربي: دراسة أجناسية لأدب نزار قباني».