يتحدث المؤرخ فؤاد سوفي عن ذاكرة الثورة التي هي جزء من تاريخ مديد في حياة الأمة الجزائرية، تستحق اليوم أكثر من أي وقت مضى، التوثيق والحفر في تفاصيل ماضيها الحي، لتصل إلى المؤرخين الذين لهم القدرة على التحليل والقراءة والمقارنة بمنهجية علمية محضة. وأكّد ضيف «منتدى المساء» أنّ نوفمبر سيبقى ما بقيت الجزائر، لا يزول بزوال جيله رغم أنه كظاهرة تاريخية، لا يقبل التكرار؛ فالمعجزة تحققت وكفى، وما علينا إلا أن نجمع شتات هذا الماضي كي لا يلعب به السفهاء المتربصون بهذا الرمز الخالد والجامع. ❊❊ما هو دور المنهجية العلمية في كتابة تاريخ الثورة؟ وهل التوثيق مهمة مشتركة بين الجزائريين؟ أولا، لا بد أن أوضح أن للتاريخ خطابا مزدوجا، وهو خطاب العامة وجمهور السياسيين وخطاب المؤرخين، وبالتالي فإن للمؤرخين لغتهم ومجال تخصصهم ومنهجيتهم العلمية، منها النقد، وقدرة فحص الشهادة أو الوثيقة، وعلى المؤرخ أن لا يكتفي بالأرشيف والشهادات، بل عليه أيضا أن ينزل إلى الميدان ليقوم بتحقيقه الخاص، ويقابل الناس ويتحدّث معهم، وينزل إلى مواقع الأحداث ويطرح أسئلته المنطقية. أتأسف كون بعض المؤرخين لا يهتمون بالمنهجية العلمية لبناء تفاصيل الموضوع محل البحث، وبالتالي يأتي هشّ البناء، فقيرا من حيث الطرح والتساؤل. كما أتأسّف لغياب الأطروحات الجامعية المتعلقة بالتاريخ في سوق الكتاب ببلادنا. وكذلك الحال مع المجلات التاريخية، في حين أنها موجودة في كل البلدان حتى عند جيراننا. ومن خلال هذه المنشورات يبرز المؤرخون وتبرز أعمالهم. وأذكر أنه بعد الاستقلال كانت عندنا مجلة التاريخ والحضارة، وكان يديرها الراحل محفوظ قداش لكنها اختفت. ❊❊وماذا عن مجلة «أفريك»؟ هذه مجلة كانت تصدر إبان الفترة الاستعمارية، وتضمّنت وثائق ومقالات مؤرخين منهم جزائريون وجنرالات، تفيدنا في بعض الأمور وليس كلها، على اعتبار أنّ بها مذاقا من السم المدسوس. وشخصيا، ما يهمني فيها الأحداث والأسماء خاصة في العهد العثماني وليس المصطلحات، علما أنّ جل الكتابات تهاجم الفترة العثمانية بشكل مطلق حتى من بعض الجزائريين الذين لم يكونوا سوى موظفين عند الإدارة الفرنسية يكتبون ما كان مطلوبا. ما هي علاقتك بالأرشيف وبالراحل قداش؟ اختصاصي كان الأرشيف، علما أنني درست في قسم التاريخ بجامعة الجزائر منذ سنة 1967 على يد كوكبة من فطاحلة علم التاريخ، منهم محفوظ قداش الذي كان مختصا في الفترة العثمانية والحركة الوطنية، ورشيد بوروبة في تاريخ القرون الوسطى، ومنير بوشناقي في العهد الروماني. قداش كان أقربهم إليّ، وهو الذي وهب حياته للتاريخ، علما أنه كان سياسيا أيضا ومناضلا في جبهة التحرير الوطني إبان ثورة التحرير. ما شدني إليه هو اكتشافي تاريخ بلادي الجزائر على يديه، أنا الآتي من الثانوية التي لم أتعلم فيها سوى التاريخ الفرنسي. كما أن تدريس تاريخ الجزائر لم يكن رائجا في السنوات الأولى من الاستقلال، وبالتالي علّمني قداش كل ذلك، و«هذا يسوى ما يسوى». وتعلّمت المنهجية منه، التي تعلّمها قداش بدوره من الثانوية الفرنكو إسلامية، وكانت هناك 3، منها بالعاصمة وتلمسانوقسنطينة، وكان فيها ما عُرف بالكتاب الأصفر الذي فيه صفحة للتاريخ الفرنسي وأخرى للتاريخ الجزائري، ويدرَّس فيها أيضا القانون والشريعة والتاريخ باللغتين. تخرجت منها إطارات كان منتظرا منها أن تكون همزة وصل بين الإدارة الاستعمارية والشعب الجزائري، لكن فرنسا ندمت على ذلك بعد أن انضم طلابها للعمل الوطني، ومنهم مثلا الراحل بوعلام باقي، الذي درس بثانوية تلمسان، وأصبح وزيرا بعد الاستقلال. فيما يتعلق بتاريخ الجزائر تحضرني بعض الأسماء التي تركت أعمالها شاهدة، منها مبارك الميلي وعبد الرحمن الجيلالي وتوفيق المدني. ❊❊هل التأريخ باب مفتوح للجميع؟ المسألة في بدايتها متعلّقة أساسا بالذاكرة، وبالتالي من حق الجميع جمعها وتوثيقها كمادة خام، تقدّم فيما بعد للمؤرخين، فمثلا للصحافة بشتى أنواعها، الدور البارز في ذلك من خلال البحث والتسجيل. وأذكر أنّ جريدة وطنية أرادت البحث في اللحظات الأولى لاندلاع الثورة بالأوراس، فتناولت حادثة الهجوم على الحافلة، وتمكّن الصحفي من إيجاد سائق تلك الحافلة الذي أدلى بشهادته، وكتب مقالا رائعا عن ذلك، يعكس أهمية ذلك الدور. والحقيقة أنّ الجميع كان يعرف الحادثة التاريخية، لكن الصحفي استعاد الذاكرة من أحد شهودها بعد أن ضاعت لسنوات ونُسيت، وبالتالي ثُمنت. وهنا أقول إن ما قام به الصحفي تسجيل لشهادة وليس تأريخا رغم أنّ بعض المصطلحات ليست في مكانها؛ فمثلا كان يجب استعمال مصطلح «عمل عسكري» بدل اعتداء، وبعدها بسنوات وبنفس الجريدة، وصل صحفي آخر إلى شاهد آخر كان في نفس الحافلة وأعطى شهادته، لكن لم يكن هناك تكامل بين المقالين لتثمينهما أكثر. ❊❊هل كتبت أنت عن نوفمبر؟ ولماذا انطلقت في أبحاثك من التفاصيل؟ كتبت عن ليلة اندلاع الثورة بمدينة وهران. واجهتني صعوبات نتيجة قلة الأرشيف الذي يُمنع الاطلاع عليه، إضافة إلى رحيل أغلب من عاشوا الحدث أو الذين شاركوا فيه. اتجهت نحو الصحف الاستعمارية الصادرة يومها، فلم أجد شيئا، فيما قالت واحدة إن حادثا وقع مع سائق تاكسي تعلق بتصفية بين عصابة أشرار، وبعد أسبوع من هذا التاريخ أصدرت الصحف أنباء عن اعتقال الشهيد زبانا ومن كان معه، وهو شريط شريف، ولقيا العذاب الوحشي. وتم الربط بين الاعتقال والحادثة، وكان دليلا على انطلاق شعلة الثورة. في هذا المضمون، تجب الإشارة إلى أن هناك فرقا بين الأرشيف والتأريخ، فالأرشيف وثيقة باردة لا إحساس فيها ولا انفعال، يسرد وقائع قد تكون فيها خلفيات أخرى، فمثلا تقرأ ما كتبه ضابط فرنسي عن اعترافات جزائري تصفه بالخائن، بينما في الحقيقة أنه تعرّض لأبشع تعذيب، وهذه المهمة لا يقدر عليها سوى المؤرخ ليوضّحها وليس الأرشيفي. وأقول إن الأرشيفي الذي لا يعرف تاريخ بلاده لا يدرك هذه التفاصيل ولا غيرها. بالنسبة لي، انطلقت من تأريخ الذاكرة بأسلوب منهجي، على اعتبار أن الذاكرة تؤثر على التاريخ والمؤرخين، ولاحظت أن الناس بدأوا يكتبون عما عاشوه في مذكراتهم، حينها أدركت أننا كمجتمع جزائري وصلنا إلى عتبة التأريخ. ❊❊كتبت عن 5 جويلية الذي شهد حربا شرسة بوهران، ووصفت ذلك بالتاريخ المجهول، كيف؟ بالفعل كتبت عن تاريخ 5 جويلية 1962 بوهران الذي لم يكن سوى يوم لاحتفالات الاستقلال، بينما التاريخ يخفي الكثير من المجهول، وبقي البعض لا يتكلم ولا يسجل ويتغاضى عنه. وعكس الكثير من الدول التي سبقتنا، فقد افتك الجزائريون استقلالهم ولم يكن هبة؛ لهذا كان في 5 جويلية عوض أيام من قبل، حتى لا تحدد فرنسا يوم الاستقلال هي، مما يعطي انطباعا بأنه هبة. في هذا اليوم خرج الوهارنة إلى الشوارع للاحتفال، لكن الرصاص كان في الموعد، وسقط بعض الجزائريين والأوربيين، لتتوالى الفرضيات حينها وبعدها، وكلها لم تكن مقنعة، منها تخويف الأوروبيين للهرب من الجزائر، وهذا لم يكن صحيحا، لأن الحدث لم يقع في مدن أخرى. وفرضية أخرى قالت إنها تصفية سياسية بين الجزائريين، لكن الفدائيين الجزائريين حموا المدينة وهاجموا عناصر «أواس»، ولولاهم لبقيت وهران مدينة فرنسية إلى الأبد، مثلما هي الحال مع سبتة ومليلية بالمغرب. ما يشهد به التاريخ للجزائر ولشرف ثورتها ومجدها، أنّ جبهة التحرير هي من حمت الفرنسيين أنفسهم من مدنيين وحتى عسكريين، إذ عند إصابتهم كانوا يلجأون إلى مستشفيات الجبهة (عيادات متواضعة) وإلى الأطباء الجزائريين ويتجنبون الذهاب إلى المستشفيات العامة؛ خوفا من انتقام هذه المنظمة الإرهابية، فكانوا يثقون في كل ما هو جزائري، وهذا ما أكده بعدها بعض جنرالات فرنسا. وعلى ذكر هذه المنظمة السرية الإرهابية، فقد طرحت حينها فكرة جمهورية فرنسية وهرانية، واعتبرت الجيش الفرنسي النظامي جيشا استعماريا يجب تصفيته. وطبعا كانت كل هذه الأحداث تستحق التأريخ، لكن وهران ظلت تتذكر فقط أن جويلية كان يوم استقلال وفرحة. كما يذكر التاريخ أيضا الدور الجبار الذي لعبته «المالغ» (وزارة التسليح والعلاقات العامة)، والفضل يعود إليها في الحفاظ على أرواح الأوربيين الموجودين بالجزائر. لقد اكتشفت مجموعة من المجازر التي ارتكبت في حق الأبرياء في ذلك التاريخ، منها مجزرة رهيبة وقعت في 28 فيفري 1962؛ حيث انفجرت سيارة ملغمة بالمدينة الجديدة بوهران بالقرب من مدرسة ابتدائية عند خروج التلاميذ، فمات أغلبهم، بل أصبحوا أشلاء تطايرت، ومات بعض الذين كانوا جالسين قرب المقهى، وأغلبهم من مناطق مجاورة، أتوا لقضاء حوائجهم في وهران، ولم تُعرف هويتهم إلى اليوم. وتأثرت أنا بأحد الشهداء، وكانت طفلة بيدها سلسلة نقش عليها اسمها. كما تم التعرف على المجرم الذي قام بالعملية وهرب إلى فرنسا ومات منذ 10 سنوات فقط، وكان «حركي» ارتدى لباس جندي فرنسي للتمويه. ❊❊كيف تقيّم اليوم جيل المؤرخين الشباب؟ التاريخ لا يلقى اهتماما أكاديميا في بلادنا، وغالبا ما يتجه إلى قسم التاريخ الفاشلون الذين لم يتمكنوا من الحصول على معدلات محترمة في البكالوريا، وبالتالي يتلاشى الاهتمام الحقيقي بالبحث ومتابعة الدروس والاقتناع بما يقدَّم، عكس جيراننا الذين أولوا التاريخ مرتبة هامة جدا، كحال الأجانب ومنهم الفرنسيون أنفسهم، المفتشون دوما في مكنون الهوية الوطنية حيثما وُجدت، وأحيانا يخوضون «حروبا جميلة» من أجلها، كأن يدعوننا نحن المؤرخين والأرشيفيين كي يطّلعوا بشكل غير مباشر، على ما عندنا، وهيهات أن يكون ذلك! لكننا نذهب بدعوات في إطار علمي، ونحاول من جانبنا كطرف جزائري، أن نتعاون ونتواصل معهم للحصول على أرشيفنا عندهم، خاصة ما تعلق بالثورة، وهنا اسمحوا لي أن أؤكد أن من يهتم بتاريخ الثورة والاستعمار الفرنسي بالجزائر، عليه أن يكون ضليعا في اللغة الفرنسية، لأنها الوسيلة رقم واحد في البحث والفحص، علما أن حتى وثائق الثورة كانت تُكتب بها ومنها بيان 1 نوفمبر. ❊❊ماذا عن مهمة التأريخ للثورة في الضفة الأخرى؟ هي أمر طبيعي ولا يزعج أحدا، فالطرف الفرنسي من حقه أن يكتب عن هذه الثورة، وغالبا ما يكتب الفرنسيون من أجل شرف بلدهم الذي تلطخت سمعته في الجزائر، وطبعا هم غير ملومين في ذلك من باب حبهم لفرنسا، وأغلبهم أدان العديد من الجرائم، منها الإبادة والتعذيب التي نالت من المبادئ الفرنسية السامية، تماما كما هي حال الدفاع عن الإسلام وتبرئته من الإرهاب، وهم لا يخفون تذمرهم من الاستعمار، وأن ما جرى في الجزائر لم يكن أمرا عاديا ولا مقبولا. عموما، هم كتبوا عن هذه الثورة أكثر من 100 مرة مما كتبنا، ويطبعون حتى المذكرات الجامعية، ويجند كبار الأساتذة والمؤرخين لدفع الشباب إلى الدراسة والتأريخ، بينما نحن نتكاسل ولا نهتم، بل أكثر، فنحن نستورد ما يكتبون ونترجمه ولا نكلّف أنفسنا نشر وتوزيع ما يُكتب. هناك من يجمّل التواجد الاستعماري في الجزائر ويسرد أفضاله، فما تعليقك؟ (تدمع عيناه) من يدعو إلى ذلك أو يحن لأيام الاستعمار فلا علاقة له بالجزائر التي ضحى أبناؤها بأرواحهم، وتجسدت على أرضها الملاحم. والجزائر كانت جميلة في أعين المعمّرين، الذين امتصوا خيراتها واعتبروها الجنة وأنها «وطنهم»، أما الجزائريون فهم مجرد عبيد لا حق لهم، ومن يحلم بأن يأتي يوم يعود فيه الاستعمار إلى الجزائر.. أرجو الله أن لا أعيش ذلك اليوم. ❊❊هناك من يشكك في تاريخ الثورة اليوم ويصفه ب «التاريخ الرسمي»؟ من يتهم الجزائر بأنها تعلّم «تاريخا رسميا» أردّ عليه كمؤرخ وأقول: «وماذا بعد؟»، فكل الدول تفعل ذلك ليكون لها خطاب تاريخي عام، وإلا سنترك المجال للمقاهي كي تؤرخ ذلك، مثلما يحدث الآن ونسمع من مقهى ما أنّ الأمير عبد القادر كان «خدّاع»، وهذا عيب! فكل العالم يكتب عن الأمير بإنصاف ونكتب نحن العكس، وما يدهش أيضا أن أحدهم يصرخ من مقهى آخر ويقول: ماسينيسا كان خائنا و«حركي» ويحكم على زعيم مات منذ 2 ألفي سنة؛ يا للعار! بينما علينا اليوم أن نعطي لتاريخنا حقه ونكتب عن كل ما فيه حتى ظاهرة الحركى بمنهج علمي، يكشف الكثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. ❊❊تتعالى أصوات مطالبة بالكف عن كتابة التاريخ وبالالتفات إلى أمور أخرى «أكثر أهمية» وارتباطا بالراهن؟ إنّ كتابة التاريخ تتطلب النزاهة والابتعاد عن المكاسب الضيقة والاستغلال من أجل أهداف دنيئة، والثورة لم توف حقها من التأريخ، وبالتالي من يقول «بركانا» فقد أخطأ، ومن يسمعه من المسؤولين ويقتنع فهو مخطئ أيضا. أتذكر مقولة الراحل بومدين: «جيل نوفمبر هو الذي قدّم ما لم يقدّمه أيّ جيل بعده؛ حيث وهبنا الحرية»، وأنا أتفق معه مائة بالمائة. أتمنى أن يفتح أرشيف الثورة عندنا كي يشتغل المؤرخون، علما أنّ أغلب المجاهدين رحلوا بشهاداتهم. ومؤكد أنّ هذا الأرشيف سيبرز الكثير من البطولات والأسماء الخالدة والأبطال، ويكفي أن رجالا استشهدوا ولم يتركوا أثرا نتيجة عملهم السري وحملهم أسماء ليست أسماءهم، فلم يُعرفوا وبقيت فقط أعمالهم، ومن الذين سمعت عنهم لونيس القبائلي الذي استشهد في قسنطينة، و«القبائلي» الذي استشهد بوهران و«الوهراني» الذي مات في منطقة الوسط لم يكن همهم سوى استقلال الجزائر. ❊❊ كلمتك الأخيرة أولا أدعو أبنائي من جيل المؤرخين، لأن لا يستسهلوا المهمة ويقدّموا الأحسن. كما أثمّن عمل الصحافة والإعلام الجزائري، المساهم بشكل ثقيل جدا في تسجيل ذاكرتنا الوطنية، خاصة فيما تعلق بثورة نوفمبر، لذلك أدعو، مثلا، الإذاعة والتلفزيون إلى أن يقدما كل ما سجلاه وكذلك الصحافة المكتوبة، منها «المساء»، ليتم جمع كل ذلك ونشره في كتب وأقراص تباع للجمهور أو للمهتمين بالتاريخ، ولسنا في ذلك أقل من «فرانس كولتور» التي تبيعنا إنتاجها ولا نتردد في اقتنائه.