يعتقد رابح لونيسي، أستاذ التاريخ بجامعة وهران، أنه لا يجب استبعاد أعمال المؤرخين الفرنسيين وتجنّب دراستها والاهتمام بها، لمجرد أنها معادية للجزائر. وقال لونيسي في حوار مع "الخبر"، أن فرنسا عرفت في السنوات الأخيرة مؤرخين متعاطفين مع الجزائر. كيف تصفون منحى كتابات المؤرخين الفرنسيين؟ لا يمكن لأي باحث أكاديمي في تاريخ الثورة خاصة أو تاريخ الجزائر عامة أن لا يستعين بخطابات تاريخية متنوعة، ومنها الخطاب التاريخي الفرنسي بكل أنواعه، وينقسم هذا الخطاب إلى نوعين رئيسيين وهما التاريخ الاستعماري الذي يستهدف خدمة الاستعمار وإيديولوجيته، ونجد إلى جانبه الخطاب الأكاديمي الذي يتمثل في عدة أعمال لمؤرخين حاولوا التزام الموضوعية والمنهج العلمي فقط، لكن لا يمكن أن نكون موضوعيين موضوعية مطلقة في كل البحوث الاجتماعية، ومنها البحث التاريخي، على عكس العلوم الدقيقة، لأن هناك تأثيرات لا يشعر بها الباحث ذاته، مما يتطلب اللجوء إلى عملية نقد الخطابات التاريخية وتفكيكها، ومنها نقد صاحب البحث لذاته، وهو ما سميته في بعض كتاباتي ب“علم نقد الخطاب التاريخي. وهل يجب استبعاد هذه الأعمال؟ أبدا، لا يجب أن ننظر إلى أعمال المؤرخين الفرنسيين مهما كانت بأنها أعمالا يجب استبعادها، بل بالعكس، فهناك العديد من الأعمال حتى ولو دخلت في إطار خدمة الاستعمار أو ضرب الثورة، إلا أننا باستطاعتنا استخراج بعض الحقائق منها. فمثلا الأعمال العديدة حول تاريخنا العام في كل مراحله مثل أعمال ستيفان قزال في التاريخ القديم أو جوليان في كل المراحل وغيرهم، أفلم يحقق الكثير من المستشرقين الفرنسيين العديد من المخطوطات الجزائرية ولولاهم لبقيت طي النسيان؟ ولا يمكن لأي كان أن يقوم بعمل حول أي مرحلة من مراحل تاريخنا، ومنها تاريخ الثورة دون العودة إلى العديد من الأعمال الفرنسية، ولو أنه غلب عليها في أواخر سنوات الثورة وبدايات الاستقلال كتب لصحفيين، فمنهم مثلا سرج برومبرجر الذي سعى في كتابه “المتمردون الجزائريون” عام 1958 إلى إبراز بعض الصراعات في الثورة لضربها، لكنه اعتمد على الكراسات التي وجدت عند الشهيد زيغود يوسف وإعترافات عاجل عجول الذي هرب إلى البوليس الاستعماري بعدما خشي معاقبته بتهمة تصفية بن بولعيد. ونجد نفس الأمر في كتابات كلود بايا الذي اعتمد بشكل كبير على وثائق اجتماع العقداء الأربعة عام 1958 التي وجدت لدى الشهيد عميروش، ونضيف ألا يعتبر كتاب إيف كوريير بأجزائه الأربعة أحد مراجع تاريخ الثورة. فرغم كل محاولاته لتشويهها، إلا أنه قدّم بعض الحقائق بحكم عمله الصحفي كمراسل ل"الفيغارو” وشبكة علاقاته بالكثير من قادة الجيش الإستعماري، إضافة إلى اعتماده على شهادات الكثير من القادة الكبار في الثورة؟، وأعتقد أنه ليس من المنطقي أن نبعد كل هذه الأعمال جملة وتفصيلا، إلا لأنها تستهدف خدمة الاستعمار وايديولوجيته، بل يجب القيام بعملية تفكيكها وقراءتها بروح نقدية. وكيف نتعامل مع مذكرات القادة الاستعماريين؟ ينطبق نفس الأمر على مذكرات القادة الاستعماريين، فليس من المعقول أن نردّد يوميا مقولة “إنها أعمال المؤرخ الاستعماري”، وننسى أن التاريخ الرسمي عندنا أيضا ساهم بشكل كبير في تشويه تاريخنا، سواء العام منه أو الخاص بالثورة والحركة الوطنية، وخدم مجموعات وإيديولوجية معيّنة لأكثر من ثلاثة عقود، بدل أن يبرز ويدرس تاريخا يعبّر عن الأمة كلها بكل مكوّناتها ومناطقها وكل مراحل تاريخها، ألم يقصي مذكرات العديد من الفاعلين الكبار قبل عام 1988؟، ألم تمنع كتبا قبل عام 1988 لأنها تقلقه؟، ألم يقصي مراحل هامة من تاريخ أمتنا قبل عام 1988؟، ألم يضخّم رموزا وقزّم وشوّه أخرى؟، وقد بقي هذا التاريخ المحرّف مؤثرا على قطاعات كبيرة إلى حد اليوم، وإذا كان محند الشريف الساحلي عنون كتابا عام 1965 على شكل دعوة ل “تحرير التاريخ من الاستعمار”، فيجب أن نضيف إليه اليوم دعوة أخرى أهملها وهي “تحرير تاريخنا من تزييف التاريخ الرسمي” كي نعيد الجزائري إلى الاهتمام بتاريخه، لأن الأسلوب واللغة المخشبة والمزيفة للحقائق لهذا التاريخ كان أحد أسباب ابتعاد شبابنا عن الاهتمام بتاريخه عامة وتاريخ ثورته العظيمة خاصة، مما يشكّل خطرا كبيرا في المستقبل، وهذا ليس معناه عدم الاستعانة بهذه الخطابات التاريخية، سواء كانت رسمية أو استعمارية، لكن يجب تطبيق المناهج التفكيكية على كل الأعمال، بما فيها الأكثر أكاديمية. تدعون إذن إلى تعامل جديد مع كتابات الفرنسيين؟ نعم، ولا يجب أن نتوقف عند هذه الرؤية الاختزالية عن المؤرخ الاستعماري الذي أعتقد أنها نشرت بقوة عمدا كي يقاطع الجزائري كل ما كتبه الفرنسيون دون استثناء بما فيها المنصفة لنا وحصره في رؤية تاريخية رسمية أحادية أقصت وشوّهت أيضا مثل التاريخ الاستعماري جزءا من تاريخنا، وسعت إلى إبعاد الكثير من الأبطال من الذاكرة، كما أبعدت بذلك المواطن عن معرفة الصراعات التي عرفتها الثورة. ويدخل هذا في إطار الحفاظ على الشرعية الثورية والأحادية وإعتبارا لاختلاف فتنة، ورفض اعتبار الصراع كأمر طبيعي في المجتمعات وكنتيجة لمختلف تناقضاتها، والتي تتطلب حلا ديمقراطيا سلميا تعدديا وتعايشيا ولاعنفيا. وقد اكتشف الكثير من الجزائريين أن ما يسمّونهم بالمؤرخين الاستعماريين قد سبقوا إلى الكشف عن الكثير من القضايا لم يسمع بها الكثير منا إلا بعد فتح مجال الحريات بعد عام 1988 وظهور العديد من المذكرات لبعض مجاهدينا. وهل يمكن القول أن كل المؤرخين الفرنسيين معادين للجزائر؟ لا، ليس كل الكتّاب والمؤرّخين الفرنسيين معادين للجزائر وثورتها، فيجب أن نتخلّص من ذهنية التعميم في كل شيء، والتي هي ذهنية قبلية، حيث تعاقب القبيلة كلها في حالة ارتكاب أحد أفرادها عملا مشينا، بل العكس، فالكثير من هؤلاء المؤرخين قدّموا أعمالا كبيرة في مجال الكتابة التاريخية لصالحنا مثل بيار فيدال ناكي حول التعذيب في سبعينيات القرن الماضي، وظهر اليوم العديد من المؤرخين الأكاديميين الشباب الذين لا علاقة لهم بأحداث الثورة لا من بعيد ولا من قريب، وليس لهم أي حنين استعماري، كما لا علاقة لهم بصراع الستينيات بين القادة الفرنسيين حول تحميل مسؤولية تضييع ما يعتبرونها “جوهرة المستعمرات الفرنسية”، أو ما يسميها كلود بايا “تفكيك الإمبراطورية الفرنسية”، لكن هذا ليس معناه عدم تأثّرهم بعوامل ذاتية في كتاباتهم، وبالإمكان معرفة هذه العوامل عند القيام بعملية نقدية وتفكيكية لهذه الأعمال، خاصة أن هؤلاء المؤرخين تلقوا تكوينا عاليا في المدارس والجامعات الفرنسية منذ صغرهم بالاعتماد على الروح النقدية عكس مدارسنا للأسف التي غلب عليها لسنوات الطابع الإيديولوجي أكثر من العلمي، فهل كتبنا نحن الجزائريين أحسن من أوليفييه لوكور غراند ميزون حول الإبادة الإستعمارية في الجزائر وجذورها الإيديولوجية، أو رفاييل برانش حول التعذيب أو سيلفي تينو حول القضاء الاستعماري أثناء الثورة؟، ولا ننسى طبعا جون لوك إينودي حول مجازر 17 أكتوبر 1961 الذي يعود له الفضل في فضح الاستعمار في كتابه “معركة باريس” وأعماله الأخرى، وقد اعتمد الكثير من هؤلاء على أرشيف مصلحة تاريخ الجيش البري الفرنسي، كما لا ننسى جيلبر مينيي حول التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الوطني، الذي اعتمد على نفس الأرشيف، لكن أعمال هؤلاء ناقصة طبعا بدون العودة إلى أرشيفات أخرى، ومنها الأرشيف الجزائري، لكن هل سمحنا لهم بذلك؟، فقد تأسّف مينيي على عدم الرد على طلباته المتعددة للإطلاع على الأرشيف الجزائري عند وضع كتابه، ويبقى الكلام لمينيي طبعا. هذه أمثلة فقط عن الكثير من المؤرخين الأكاديميين الفرنسيين الذي يجب تقدير شجاعتهم وحرصهم على حرياتهم الأكاديمية وخدمة الحقيقة التاريخية فقط مهما كانت، ويأتي على رأسهم جيل مونسيرون الذي رفض أي إيجابيات للاستعمار، ومافتيء يطالب فرنسا بالاعتراف بجرائمها في الجزائر، كما قاوم هؤلاء بكل شجاعة ضغوط لوبيات الأقدام السوداء التي لاتزال تحن إلى “الجزائر الفرنسية”، كما برزوا برفضهم قانون تمجيد الاستعمار، خاصة في مادته الرابعة، وفرضوا على شيراك تعديلها، في الوقت الذي كنا نحن في الجزائر نقوم بأعمال تهريجية، وحوّلنا هذا القانون المخزي وقضية تجريم الاستعمار إلى مجرد سجلات تجارية لتحقيق أهداف سياسوية ضيقة جدا بدل العمل الجاد والفعال في مجال حرب الذاكرة، ويتم هذا التهريج السياسوي كله أيضا على حساب قضايانا الكبرى والاستراتيجية والمصيرية.