زائر الصين لأول مرة سيستغرب للوهلة الأولى من الرفاهية التي سيلاحظها في شوارع بكين العاصمة، أو «بيجين» كما يناديها أهلها. فحتى وإن كنا نعلم أن الصين اليوم من أكبر البلدان ومن أقوى الاقتصادات في العالم، فإن وفاءها للنظام الشيوعي يجعلنا نتصور أن مظاهر الرأسمالية ستكون غائبة، لكن العكس تماما هو الذي لمسناه. فشوارع بكين ومدن أخرى زرناها الشهر الماضي، بمناسبة انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، عامرة بالمباني الحديثة وبالسيارات الفاخرة من أكبر العلامات العالمية، ولا وجود للسيارات الصينية إلا نادرا. الماركات العالمية موجودة بقوة في قطاعات أخرى كثيرة، مثل الملابس والساعات والمجوهرات وتكنولوجيات الإعلام والاتصال والخدمات المالية وغيرها، فهنا سوق تتجاوز المليار و300 مليون نسمة، وبلد يتطور بشكل كبير، ومعه يرتفع مستوى معيشة السكان، وهو ما تؤكده أرقام الحكومة الصينية وما يمكن التأكد منه بسهولة عندما يجوب المرء شوارع مدنها. الانفتاح الذي تحدث عنه كثيرا الرئيس شي جين بينغ خلال المؤتمر، والذي ركز عليه كل المسؤولين الصينيين الذين التقيناهم خلال زيارتنا للصين، واضح المعالم مثله مثل التغير في نمط العيش، لاسيما لدى فئة الشباب. أمر جعلنا ننسى للحظات بأننا في بلد شيوعي، لولا اصطدامنا بحظر أهم شبكات التواصل الاجتماعي، لاسيما «فيسبوك» و»تويتر» و»واتساب» و»غوغل»... حظر لم نجد إجابة وافية لأسبابه، لكن كثيرا ما أشار مرافقونا إلى تداعيات «الربيع العربي»! فوجيان... رمز الانفتاح وبداية الطريق الجديد نحو العالم إذا كان ارتفاع مستوى المعيشة ميزة العواصم، فإنه في الصين يمس سكان العديد من الأقاليم الأخرى، وهو ما لاحظناه لدى زيارتنا لمقاطعة فوجيان الواقعة جنوب شرق بكين، التي دخلناها عبر مطار مدينة فوتشو، أولى محطاتنا التي اطلعنا فيها على عدة مشاريع، منها المنطقة الصناعية بينهاي التي تضم عددا هاما من الشركات العاملة في قطاع تكنولوجيا الاتصالات. هنا تبنى مدينة نموذجية تضم كل المرافق الضرورية، ومنها مطار هو الرابع من حيث الأهمية على المستوى الوطني، وميناء وسكنات، حيث يرتقب أن تكون بمثابة قطب تكنولوجي يضم أهم الفاعلين في هذا المجال على المستوى العالمي. الصين التي كانت لوقت غير بعيد مثالا للتجهيزات والسلع المقلدة، لاسيما الإلكترونية، تطور حاليا صناعات محلية تطمح إلى أن تنافس بها مثيلاتها في العالم، وهي الرسالة التي أراد منظمو الزيارة التركيز عليها، من خلال تسطير برنامج ضم عدة شركات تعمل في المجال التكنولوجي. من بينها شركة مختصة في حماية قاعدة البيانات الخاصة بالبطاقات البنكية، وهي الثانية من حيث الأهمية في الصين، حيث تعد «قاعدة للأمن الإلكتروني الوطني الصيني»، كما تم توضيحه، وتتخذ من مقولة الرئيس شي «لا أمن وطني بدون أمن إلكتروني» شعارا لها. وتقوم عبر برامجها بمراقبة أية عمليات تقليد أو قرصنة للبطاقات البنكية، وطورت الشركة كذلك برنامجا للتضليل عن التموقع الجغرافي «جي بي أس». كما زرنا مركزا للمعلومات الكبرى «الكلاود» الذي بدأ العمل في أفريل 2017، وهو استثمار حكومي عبارة عن مصنع كبير لتخزين المعلومات والإحصاءات، وفي موقع آخر اطلعنا على عمل شركة خاصة بتطوير التطبيقات الخاصة بالهواتف النقالة. لكن التكنولوجيا هنا ليست فقط لتطوير البرامج، لكن لتحسين معيشة السكان وإخراجهم من الفقر، ذلك ما أكد عليه مسؤولو المقاطعة في لقاء مع الصحفيين العرب، حيث أكد رئيس مكتب الشؤون الخارجية للمقاطعة لي لين، أن المجهودات المبذولة لمكافحة الفقر أثمرت بتقليصه بنسبة 80 بالمائة في مدة 5 سنوات فقط! إذ انتقل عدد الفقراء في المقاطعة التي تضم أكثر من 38 مليون نسمة، من مليون إلى 200 ألف فقير بين سنتي 2012 و2016، بفضل الأعمال التي قام بها مجلس مكافحة الفقر، ومنها تخصيص 2 بالمائة من ميزانية الحكومة المحلية لمكافحة الفقر وتقييم المسؤولين حسب قدراتهم على تحقيق هذا الهدف، وكذا تدريب الفقراء ودفعهم إلى استخدام التكنولوجيا في عالم الريف الذي يعرف باحتضانه لأكبر عدد من المحتاجين. وهو ما اطلعنا عليه عن كثب في قرية تشينغجياو بمدينة شيامن المدينة المصنفة ضمن أجمل المدن في العالم وهي إحدى المزارع النموذجية التي استطاع أهلها بمساعدة من حكومة المقاطعة تحسين مستوى معيشتهم بشكل ملحوظ، بتطوير نشاطات اقتصادية مثل صناعة الحلويات والأدوية التقليدية وكذا حليب الصوجا، فالتنمية التي يريدها الساسة الصينيون تتوجه للمدن مثل الريف، مستغلة البنى التحتية الهائلة، التي تم بناؤها لاسيما الطرق المتطوّرة الرابطة بين المدن والقرى. ولأنها رمز الانفتاح في الصين، فإن مقاطعة فوجيان التي تعد بوابة طريق الحرير، لاسيما عبر مدينتها الجميلة شيامن ومعناها البوابة المفتوحة ترتبط منذ قرون بعلاقات تجارية وثيقة مع الخارج، وهي اليوم تدعم هذه العلاقات، لاسيما مع المنطقة العربية، حيث تسعى إلى جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها وتحفيز شركاتها على الاستثمار في البلدان الأخرى. بين الجزائر وفوجيان... استثمارات ومبادلات تجارية تعد الجزائر من الدول العربية الأولى التي لها استثمارات بمقاطعة فوجيان. وحسب إحصاءات حكومة المقاطعة، فإن المبادلات التجارية مع الجزائر بلغت 350 مليون يوان سنة 2016، وتوجد 06 شركات جزائرية تستثمر في المقاطعة بمبلغ مليوني دولار، كما تعتزم 05 شركات من فوجيان الاستثمار مستقبلا في الجزائر. وحسب مدير التجارة للمقاطعة لي جيغانغ، فإن عدة شركات تعمل حاليا في بلادنا، لاسيما في مجال المقاولات والبنى التحتية. وفي أجندة المقاطعة 130 مشروعا جديدا بقيمة ملياري دولار في مجالات مختلفة، تعتزم استثمارها في المنطقة العربية في إطار مبادرة «الطريق والحزام» التي تعد إعادة بعث لطريق الحرير القديم. ومع أن المدينة تتطلع إلى التطور والعصرنة، فإن التاريخ يبقى شاهدا على عراقة حضارتها وعلى روابطها الممتدة عبر قرون مضت. فبهذه المقاطعة حط ابن بطوطة رحاله وقبله جاءت عائلات عربية مسلمة لتستقر هنا، حاملة معها دينا جديدا، ما زال مسجد تشينغ جينغ، الأقدم في الصين، شاهدا عليه منذ إنشائه سنة 1009م. يروي المتحف البحري بتشيوانتشو تاريخ الإسلام في الصين عموما، وفوجيان خصوصا، حيث يوجد به تمثال لابن بطوطة وشواهد قبور لشخصيات إسلامية دفنت هناك، من بينها شمس الدين التبريزي أشهر أهل التصوف، وبقايا لكتابات حائطية تتضمن آيات قرآنية، ومصاحف مترجمة للصينية، وهو يستقبل زواره بالحديث الشريف «اطلبوا العلم ولو في الصين». وما زالت عائلات ذات أصول عربية تقطن الصين إلى اليوم، ولعل أشهرها عائلة «دينغ» التي أصبحت رمزا لاندماج التاريخ والحاضر في الصين، والتي تتقدم بخطى ثابتة نحو المستقبل، حيث يمتلك أحد المنحدرين من هذه العائلة شركة كبرى لصناعة الملابس الرياضية ولواحقها، وأصبحت رائدة على المستوى العالمي، مبتعدة بنجاحاتها عن الصورة النمطية للتقليد الجيد للماركات العالمية في مجال الملابس الرياضية المنتشر في الصين. بين الإنجازات والتحديات... الصين لا تؤمن إلا ب»التنمية» إذا كانت الزيارة لفوجيان قد مكنتنا من الاطلاع على نماذج لتطور المجتمع الصيني، فإن العودة إلى بكين سمحت ل»المساء» بالتقرب بشكل أوسع من الإنجازات الهامة في هذا البلد، بفضل زيارة إلى أجنحة معرض إنجازات الخمس سنوات السابقة، الذي يمتد إلى غاية نهاية الشهر الجاري. يمتد المعرض في قصر المعارض بالعاصمة عبر 10 أجنحة، بها كل ما تم إنجازه خلال الفترة الرئاسية لشي جينغ بينغ، سياسيا واقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا وثقافيا، وفي مجالات البيئة ومكافحة الفقر ومكافحة الفساد، تحت شعار «الحلم الصيني ونهضة الأمة الصينية». يبرز المعرض تحسّن معيشة السكان والنجاح في سياسة مكافحة الفقر التي أدت إلى تقليصه ب10 ملايين شخص سنويا، مع توفير السكن ل80 مليون صيني في السنوات الخمس الماضية، فضلا عن وضع سلسلة من القوانين لحماية البيئة ومحاربة الفساد. ففي هذا البلد الذي يحكمه الحزب الشيوعي، وتعد المبادئ الماركسية ركيزة أساسية من الناحية السياسية، نجد أن الرأسمالية الاقتصادية تتطور بشكل ملحوظ، وهو ما يفتح الباب على ظاهرة الفساد. ويفضل الرئيس الصيني الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، الذي تمكن بدون أدنى مفاجأة من الحصول على الثقة لعهدة ثانية على رأس هذا البلد العملاق، الحديث عن «الشيوعية ذات الخصوصية الصينية»، ردا على ما يعتبره البعض تناقضا أو ابتعادا عن الأسس الشيوعية المعروفة النابعة من الثورة البلشفية التي يتم هذه السنة إحياء مئويتها. والغريب أنه بالرغم من أهمية مؤتمر الحزب المنعقد كل خمس سنوات، والذي دعي إلى تغطية دورته التاسعة عشر مئات الصحفيين من كل بقاع العالم، فإن العاصمة الصينية خارج أروقة معرض الإنجازات بدت خالية من أية مظاهر للاحتفال بهذا الحدث، فلم نصادف أية لافتات أو صور للزعيم الصيني أو أي شكل من أشكال الإشهار لهذا الحدث! في المقابل، تجندت وسائل الإعلام الصينية بكل أنواعها وبكثافة لتغطية المؤتمر وأخذ انطباعات الصحفيين الأجانب، ليس فقط حول مجرياته وإنما بالخصوص حول ما شاهدوه خلال فترة تواجدهم بالصين من تطور في مستوى المعيشة. ورغم أن الإنجازات واقعية، كما هو التغيّر في نمط المعيشة، فإن أمام الصين التي تحتضن أكبر عدد من سكان الأرض، رهانات وتحديات مستقبلية كثيرة، فهي تعاني من شيخوخة شعبها، مما أجبرها على التخلي عن سياسة الطفل الواحد سنة 2015. كما تعمل بشكل جدي للتكفل بالمسنين الذين تبني لهم دورا نموذجية من حيث الخدمات التي تتعدد، لتشمل التطبيب والرعاية الصحية وممارسة الأنشطة الرياضية والفنية وحتى خدمات الزواج، فضلا عن توفير خدمات عن بعد للمسنين المقيمين في منازلهم، لاسيما عبر التجارة الإلكترونية والكشف الطبي عن بعد. كما تعد التحديات البيئية ذات أهمية بالغة، بالنظر إلى مشكل التلوث الذي يثقل جو بكين بشكل ملحوظ، وهو ما تعمل السلطات الصينية على معالجته بطرق عديدة، منها حث السكان على استخدام الدراجات كوسيلة نقل بتوفير نظام كراء إلكتروني، أصبح استخدامه عادة يومية لدى الصينيين في كافة المدن. ولا تقل التحديات الخارجية لهذا البلد عن تحدياته الداخلية، فتصنيفه كقوة عالمية يجعل منه طرفا هاما في معادلات الحل والربط لعدة قضايا دولية، وهو العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وتوجز الصين سياستها الخارجية ورؤيتها لحل المشاكل الإقليمية في كلمة واحدة هي «التنمية» التي تعتبرها المفتاح السحري لكل الأزمات الراهنة.