عندما نقول بأن الربيع فصل الاخضرار والأزهار والسماء الصافية، فإننا لا نضيف جديدا، لأنها بديهية تعاقب فصلا مزهرا بعد آخر ممطر، لكن التعاقب بين هذا وذاك، يجعل من انبعاث الحياة بألوان الربيع تحمل رسالة جميلة بجمال الجزائر، تتجلى في الترابط والتآخي الذي لمسناه بقرى مترامية على سفوح جبال بومرداس، وسط نساء يجتمعن مرة أخرى ليس لجني الزيتون أو حبات الخروب، وإنما لقطف "البقول" هذه المرة.. أو الحشائش البرية التي تنمو خصيصا في فصل الربيع.. بقرية العزلة او "ايعزليّن" الواقعة ببلدية بني عمران، تمتد السفوح المخضرة، وقد تحلت بألوان مختلفة توحي بعودة الحياة إلى بريقها بعد انقضاء فصل الأمطار، حيث تزاوجت تدرجات ألوان الأصفر والأحمر والوردي والبنفسجي والأخضر لنباتات وأزهار جميلة، كأنها مسروقة من لوحة فنية من إمضاء رسام مبدع.. خرجت بعضهن إلى التلال للاستمتاع بحرارة الجو الربيعي، وأخذن يلتقطن ما يسمى "البقول"، وهي أنواع من الحشائش البرية تنمو في الربيع وتستعمل في المطبخ.. من النساء أيضا من كن يلتقطن أزهارا بريّة فريدة في تنوعها يستعملنها في التزيين المنزلي، ولا غرابة في ذلك ما دامت الوفرة ملحوظة والتنوّع يرضي جميع الأذواق، فهنا تماما يصح ترديد الأغنية القائلة "في الجبل نلقط النوار"، لأن كل الجبال والهضاب والتلال التي تحيط بالقرية مخضرة ومزهرة تبعث في العين بهجة النظر، وفي النفس راحة، بعيدا عن ضوضاء و"بيطون" المدن. "البقول".. وفرة وتنوع والصدارة ل"القرنينة" "ايعزلين"، وإن كان معنى تسميتها يشير إلى العزلة، إلا أن الملاحظ غير ذلك تماما، فالطرق والمسالك المعبدة والمفتوحة أمام سكانها، تسهل لزوارها التنقل بأريحية كبيرة وهو ما تحقّق ل«المساء"، حينما رافقت بعضهن في رحلة جمع "البقول" التي تعددت أنواعها وتسمياتها وحتى مجالات طبخها، إذ هناك "القرنينة" وهي أشهر أنواع الحشائش البرية المستعملة في الطبخ، تماما مثل "الرجيلة"، كما هناك "الفليّو" فمن لا يعرف الطبق الشهير "بطاطا فليو"؟، هناك أيضا "القرنونش" و«الشلعظيظ" و«بيبراز" و«ازذوز"، وكذا نوع من الخرشوف البري يمتاز بقصر سيقانه وميول لونها إلى النيلي.. كلها حشائش تستمع النسوة بقطفها من بيئتها الطبيعية وتصفينها بطريقة تنزع عنها الشوائب الصغيرة، مع التأكيد على أن عملية قطف الحشائش البرية تكون بطريقة فنية وذكية، حيث تبقى على الجذور، مما يسمح للنبتة من النمو مجددا في الربيع الموالي. في الموضوع، تحدثنا مع الخالة باية حساين (87 سنة) كانت برفقة الخالة مراح خروفة (80)، سألناهما عن "البقول"، فقالت الخالة باية بأن الربيع هو فصل كل أنواعها، وعددت على مسامعنا كل تلك الأنواع المذكورة آنفا، وقالت بأن تلك الحشائش تشبه إلى حد كبير السبانخ، غير أن ميزة "البقول" أنها حشائش برية لا تتدخل يد الإنسان في غرسها. وتضيف محدثتنا بالقول بأن "القرنينة" ذات اللون الأخضر الفاقع والتي تظهر أوراقها مشوكة بعض الشيء، تعتبر من أشهر أنواع "البقول" المستعملة للطبخ، لاسيما في الكسكسي بالحشائش أو "ثمقفولت"، أو أن تطبخ مع "البركوكس" أو المردود، كما يعرف عند جهات أخرى. أما عن "الرجيلة" التي تعرف لدى أهل الجنوب ب«البندراق"، فهي ذات أوراق صغيرة وبلون أخضر سرخسي، فتطبخ بالثوم وتكون حادة المذاق بسبب إضافة الفلفل، بينما تطبخ "البقول" الأخرى مثل "الشلعظيظ" و«ازذوز" بالثوم وتكسر فوقها حبة بيض، لكن بعد غليها وتقطيرها، بينما ينفرد "فليو" بتحضير آخر بإضافة حبات البطاطا الصغيرة وزيت الزيتون، ويتم إعداده عادة بمرق أحمر تضاف فوقه حبة بيض مخفوقة، وهو طبق معروف لدى الأسر الجزائرية في عدة مناطق. كما أن "الفليو" معروف كذلك لدى كبار الطهاة، حيث يستعمل كنوع من السلطة، تماما مثل "البيبراز"، وهو يشبه البصل يستعمل هو الآخر في السلطة. محدثتنا تقول بأنّها لا تفكر إطلاقا في احتمالية نقص المؤونة في مطبخها لإعداد الأكل لأسرتها خلال فصل الربيع، بفضل وفرة "البقول" وتنوعها في السهول والتلال، مؤكدة أن بعضها مفيد للصحة "ومن يأكل من الطبيعة خيراتها لا يسقط أبدا" (أي لا يعاني من أمراض الهضم). من جهتها، تقول الخالة خروفة بأنّ الخروج للمروج والتلال والاستمتاع بالهواء النقي، ومن ثمة قطف أنواع "البقول" من أهم ما يميّز أيامها خلال الفترة الربيعية. وقالت هي الأخرى بأنها منذ زمن بعيد تستعمل "البقول" في مطبخها، ولا تعاني من أي عسر في الهضم أو مرض آخر، حتى تلك الأمراض التي ترتبط بالعصر الحالي، تقول "نعتمد على ما تجود به الأرض من خيرات، فنحضر الكسكسي بكل أنواع الحشائش البرية ونأكله بزيت الزيتون، كذلك "البركوكس بالقرنينة"، أو "القرنونش" (يشبه الفليو) مع الجزر أو الحمص"، وتضيف أن كل أنواع "البقول" تنمو بفضل وفرة المياه سواء ب«البحاير" (أي الحدائق المنزلية) أو بفضل تساقط المطر.. إذا كان قطف الحشائش البرية متعة تتقاسمها الكثيرات ويتلذذ بتذوقها الكثيرون، فإنه في المقابل هناك من يجمعها من أجل الاسترزاق، كحال الخالة يمينة مقران (74 سنة) من نفس القرية، التي جعلها ضنك الحياة بعد ترملها إلى الخروج للمروج والبحث عن "البقول" وتنقيتها وتصفيفها ضمن باقات، وقصد أسواق الثنية أو تيجلابين أو بودواو لبيعها والحصول على ثمن ميسور، حسبما ترويه على مسامعنا بالقرب من بيتها في إحدى مسالك "الدشرة". تضيف بقولها بأن "القرنينة" محبوبة، لكن جنيها متعب بسبب أشواكها وقسوة الأحوال الجوية، خاصة أنّها تقصد المروج فجرا، وإلى جانبها، هناك "الفليو" المحبّب لدى الكثيرين، تقول "الحياة كانت دائما صعبة بالنسبة لي وابنتي بعد وفاة زوجي، أعيش على إحسان الناس، لكن بحلول الربيع، أرى الدنيا بمنظار آخر، حيث أسترزق من بيع "البقول" ولو أن مردودها المادي لا يوازي تعب جنيها". تشير إلى أنها تحتطب للتدفئة، حيث مازال غاز المدينة لم يصل بعد إلى القرية. "القندول" .. و"ميموزا" جمال من نوع آخر على طول الطريق المؤدي إلى قرية "ايعزليّن"، لاحظت "المساء" ألوان الربيع الباهية تتجلى على طول الجنبات، اللوحة الفنية هنا بطلها نبات بري يسمى "القندول" أو "أززو" وهو نبات شوكي قصير السيقان يشبه في شكله أشجار التوت البري، وفي أطرافه تزهر باقات من أزهار صفراء، أضفت على المكان جمالية خاصة، ويقول البعض بأن تسمية ولاية "تيزي وزو" اشتقت منه بفعل انتشاره الكبير بها. «أززو" (القندول) نبات بري صحيح، لكنه يجمل مداخل بيوت كثيرة مترامية بأطراف القرية، فتلاحظ تعانقا فريدا لألوان الطبيعة، خاصة إذا اجتمعت معه شجرة أخرى، يتقاسم معه اللونان الأخضر والأصفر، لكنها فريدة في شكلها ولونها الأصفر الطاغي، إنّها شجرة "ميموزا" الجميلة بأغصانها المتدلية برشاقة جميلة، تظهر في أطراف كل غصن وريدات صغيرة ذات شعيرات رقيقة، بلون أصفر ليموني. ل«الميموزا" أيضا حكاية جميلة بقرية بني خليفة المجاورة لقرية العزلة، حيث تشير الروايات هنا إلى أن عيد "الميموزا" الذي يحتفل به في عدة دول أوروبية بدأ أول مرة في هذه القرية، وبالضبط بمدرسة "الأهالي" التي أنشئت عام 1902 وعمرت طويلا، لتنهار بسبب زلزال 2003، واليوم بنيت مدرسة أخرى مكانها تحمل اسم "الشهيد رابح بوعكاز". يقول عبد المجيد جزار رئيس جمعية أولياء التلاميذ بالمدرسة، بأن أحد المعلمين الفرنسيين الذين كانوا يعلمون بهذه المدرسة، وكان يدعى "كليمون"، كانت زوجته مولعة بشجرة "الميموزا" التي غرستها بالقرب من بيتها المحاذي للمدرسة، وكانت تعتني بها عناية خاصة، لكن عاصفة هوجاء ضربت المكان في موسم إزهارها اقتلعتها من جذورها، مما سبب لها حزنا عميقا. ولأن التلاميذ الجزائريين من الأهالي كانوا يحبون المرأة، فقد قطفوا باقات من الشجرة وزاروا السيدة ببيتها لمواساتها، ثم أضحى هذا تقليدا سنويا، حيث تهدى باقات "الميموزا" للتعبير عن التآخي، تماما مثلما كانت تهدى شجيراتها لنفس السبب كي تغرس هنا وهناك..